« العشرة الزوجية " تعميم الوزارة " »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
24 / 3 / 1446هـ
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : مِنَ الْعِبَادَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ: حُسْنُ الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ فَهِيَ مِنْ أَهَمِّ أُسُسِ بِنَاءِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ السَّعِيدَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ.
فَالرَّابِطَةُ الزَّوْجِيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ عَقْدٍ فَقَط، بَلْ هِيَ شَرَاكَةُ حَيَاةٍ قَائِمَةٌ عَلَى الْحُبِّ وَالرَّحْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّضْحِيَةِ وَالْوِئَامِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وَقَالَ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-فِيِ حَدِيِثٍ آخَرَ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : مِنْ جَمِيلِ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: أَدَاءُ الْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ ؛ وَالَّتِي مِنْهَا: الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ الَّتِي تَضْمَنْ بِإِذْنِ اللَّهِ اسْتِقْرَارَ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَذَلِكَ حَقُّ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ [الطلاق: 7].
وَمِنْ جَمِيلِ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: التَّغَاضِي عَنْ الزَّلَّاتِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، الَّذِي هُوَ مَفْهُومٌ أَسَاسِيٌّ فِي بِنَاءِ عَلاقَةٍ زَوْجِيَّةٍ آمِنَةٍ مُسْتَقِرَّةٍ.
فَكُلُّ إِنْسَانٍ عَرَضَةٌ لِلْخَطَأِ، وَالزَّوَاجُ يَتَطَلَّبُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسَامُحِ وَالتَّفَاهُمِ، وَالْحُبِّ وَالتَّرَاحُمِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134].

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ...» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَمِنْ جَمِيلِ حُسْنِ الْعِشْرَةِ: عَدَمُ التَّسَاهُلِ وَالتَّسَرُّعِ بِالطَّلاقِ، وَالتَّأْكِيدُ عَلَى عَدَمِ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ إِلَّا فِي أَضْيَقِ الْأَحْوَالِ! لِمَا لَهَذَا التَّسَاهُلِ وَالتَّسَرُّعِ مِنْ عَوَاقِبَ وَخَيمَةٍ، وَآثَارٍ سَلْبِيَّةٍ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعِ، وَالَّتِي مِنْهَا: التَّفَكُّكُ الْأُسَرِيِّ الَّذِي يُؤَثِّرُ سَلْبًا عَلَى الْأَطْفَالِ الَّذِينَ يُعَانُونَ مِنْ غِيَابِ أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ أَوْ كُلٍّ مِنهُمَا، وَكَذَلِكَ مَشَاعِرُ الْقَلَقِ وَالاِكْتِئَابِ، وَفَقْدُ الْاسْتِقْرَارِ لِلْأُسْرَةِ بِأَكْمَلِهَا.
وَالْدَّوْرُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ فِي تَوْعِيَةِ أَبْنَائِهِمْ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الزَّوَاجِ فِي تَعْزِيزِ قِيمَةِ الزَّوَاجِ، وَمَهَارَةِ حَلِّ الْمَشَاكِلِ الَّتِي رُبَّمَا تُفْضِي إِلَى الطَّلاقِ، وَكَذَلِكَ تَوْعِيَةُ الْأَبْنَاءِ بِمَخَاطِرِ التَّسَاهُلِ بِالطَّلاقِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَارْزُقْنَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلْطَّلاَقِ آدَابًا وَأَحْكَامًا شَرْعِيَّةً أَكَّدَتْ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالَّتِي مِنْهَا: عَدَمُ اسْتِخْدَامِ الطَّلاقِ كَمَصْدَرِ تَهْدِيدٍ لِلزَّوْجَةِ؛ فَبَعْضُ الْأَزْوَاجِ تَجِدُ الطَّلاقَ عَلَى لِسَانِهِ فِي مَدْخَلِهِ وَفِي مَخْرَجِهِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ بَلَغَ بِبَعْضِهِمْ أَنْ يُعَدَّ الْحَلِفُ بِالطَّلاقِ كَرَمًا وَشَجَاعَةً، وَلَا يُصَدِّقُهُ النَّاسُ إِلَّا إِذَا حَلَفَ بِالطَّلاقِ؛ وَهَذَا كُلُّهُ يُدَلُّ عَلَى الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْوَعْيِ، وَالتَّلاَعُبِ بِحُدُودِ اللَّهِ.
وَمِنْ آدَابِ وَأَحْكَامِ الطَّلاقِ: أَنَّهُ لَا يَحِقُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْأَلَ الطَّلاقَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ؛ فَبَعْضُ النِّسَاءِ تَطْلُبُ الطَّلاقَ عِندَ أَيِّ خِلَافٍ، أَوْ عِندَ أَدْنَى مُشْكِلَةٍ! وَالْمَرْأَةُ الْعَاقِلَةُ الرَّشِيدَةُ لَا تَفْعَلُ هَذَا عِنْدَمَا تَخَتَلِفْ مَعَ زَوْجِهَا، وَإِنَّمَا تَسْأَلُ الطَّلاقَ فِي حَالاتٍ خَاصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، عِنْدَمَا لَا يُحَقِّقُ الزَّوَاجُ مَقَاصِدَهُ، وَأَيْضًا لَا تُفِيدُ جَمِيعُ الْحُلُولِ، وَتَصِلُ الْمَرْأَةُ إِلَى قناعةٍ بِعَدَمِ الاسْتِمْرَارِ مَعَ هَذَا الزَّوْجِ، بَعْدَ أَنْ اسْتَنْفَدَتْ جَمِيعَ الْحُلُولِ، وَبَعْدَ أَنْ فَعَلَتْ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ؛ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة» [صحيح أبي داود].
وَمِنْ آدَابِ وَأَحْكَامِ الطَّلاقِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسَمَ لِلْطَّلاقِ خُطَّةً حَكِيمَةً تُقَلِّلُ مِنْ وُقُوعِهِ، وَمَنْ أَوْقَعَهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَا يَنْدَمُ عَلَيْهِ، وَيَتَجَنَّبُ الْآثَارَ السَّيِّئَةَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا مَنْ أَخْلَّ بِتِلْكَ الْخُطَّةِ، فَجَعَلَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ عِندَ الْحَاجَةِ طَلَقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ، وَيَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: 229].
أَيْ: إِذَا طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ، فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِيهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَلَكَ أَنْ تَرُدَّهَا، وَلَكَ أَنْ تَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَتَبِينُ مِنْكَ، وَتُطْلِقَ سَراحَهَا مُحْسِنًا إِلَيْهَا، لَا تَظْلِمُهَا مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا، وَلَا تُضَارَّ بِهَا، وَلَا بِأَوْلَادِهَا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1].
؛ هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].