خطبة جمعة بعنوان
(( سمو الأنفس ))
كتبها
عبدالله فهد الواكد
جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أَمَّا بَعْدُ عبادَ اللهِ : فاتقوا اللهَ القائلَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) فاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ،
أيها الأحبةُ المسلمونَ :
إنَّ السُّمُوَّ مطلبٌ ، تلهثُ الأنفسُ ، وتنفلقُ الأكبادُ ، وتتمزقُ القلوبُ ، في اللِّهاثِ خلفَ سرابِهِ ، والدفِّ إلى أبوابِهِ ، فأمَّا سُمُوُّ الممتلكاتِ ، فما نفعَ أباَ لهبٍ وفرعونَ وَقارونَ وغيرَهُمْ ، إذْ ذمَّهُمُ اللهُ جميعا
وأماَّ سُمُوُّ الذاتِ ، فإليكُم سيرةَ هذا الرجلِ ، رجلٍ مِنْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، صحابيٌّ جليلٌ ، هاجرَ الهجرتينِ إلى الحبشةِ ، وهاجرَ مِنْ مكةَ إلى المدينةِ ، لاحقاً بركبِ الهُدى وقافلةِ النورِ ، فكانَ أنْ آخَى النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بينَ المهاجرينَ والأنصارِ ، فاقتسموا الزادَ والفراشَ والأموالَ ، فضربوا أروعَ الأمثلةِ ، فكانَ نصيبُ هذا الصحابيُّ الجليلُ مِنْ أُخُوَّةِ الأنصارِ ، سعدَ بنَ الربيعِ ، آخَى النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بينَهُ وبينَ سعدٍ ، فما أسعدَ هذا الصحابيُّ وما أوفرَ حظَّهُ ، فسعدُ بنُ الربيعِ هو أكثرُ أهلِ المدينةِ مالاً ، يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ : قالَ سعدٌ لهذا الصحابيِّ الجليلِ ، أنا أكثرُ أهلِ المدينةِ مالاً ، فَخُذْ شطرَ مالِي ، وأيَّ امرأتَيَّ أعجبُ إليكَ أطلِّقُها لتتزوجَها ، فقالَ هذا الصحابيُّ لسعدِ بنِ الربيعِ ، يا سعدُ ، باركَ اللهُ لكَ في أهلِكَ ومالِكَ ، فقطْ دُلُّونِي عَلَى السوقِ ، هذا الصحابيُّ ، هو صاحبُ هذهِ الكلمةِ التي يتمثلُ بها الشرفاءُ ، أهلُ الكدحِ والعطاءِ ، والبذلِ والسخاءِ ، إنهُ عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ ، أحدُ العشرةِ المبشرينَ بالجنةِ ، شهدَ بدْراً وأُحُداً ، وبقيةَ المشاهدِ ، أصيبَ بعشرينَ جُرحاً في أُحدٍ ، وهُتمَتْ ثناياهُ ، وجُرحَ ساقُهُ حتى ظَلَّ يعرُجُ منها ، جعلَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى ، لهُ حظاًّ وافراً في التجارةِ ، حتى بَلغَ بهِ الأمرُ ، دهشةً وعجباً في نفسِهِ فقالَ ( لقد رأيتَني ، لو رفعْتُ حجراً لوجدْتُ تحتَهُ فِضَّةً وذَهَباً ) ومعَ ذلكَ لم تكنْ التجارةُ عندَهُ شرهاً ، ولا احتكاراً ، ولا غشاً ولا ابتزازاً ، لم يكنْ مُشرَباً بالدنيا ، شغوفاً بالمالِ ، يحسُبُهُ ويُعَدِّدُهُ ، إنما تجدُهُ في المسجدِ يصلي ، ويشهدُ الغزواتِ معَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، وفي الليلِ يتهجَّدُ ، وفي النهارِ يصومُ ، وتجارتُهُ تنموا نُمُواً أذهلَ القومَ مِنْ حولِهِ ، يُديرُ تجارتَهُ إدارةً تسلُبُ الألبابَ ، حتى أخذتْ قوافِلُهُ تَفِدُ من الشامِ ومن اليمنِ ومن مصرَ ومن كلِّ حَدَبٍ وصوبٍ ، تَفِدُ إلى جزيرةِ العربِ محملةً بالكساءِ والطعامِ ، لقد سَمَى هذا الصحابيُّ الجليلُ ، وتسللَ حُبُّهُ إلى شغافِ القلوبِ ، يومَ أنْ تأدَّبَ بآدابِ الإسلامِ ، وتخلَّقَ بأخلاقِ سيِّدِ الأنامِ ، محمدٍ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ ، فهلْ سَمَى هذا الصحابيُّ بمُمْتلكَاتِهِ ، أمْ أنَّهُ سَمَى بنفسِهِ وذاتِه في يومٍ منَ الأيامِ سألتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضيَ اللهُ عنهاَ وعنْ أبيهاَ ، سألتْ عن ضجيجٍ تصادَى في أنحاءِ يثربَ ، وعنْ نَقْعٍ علا في سَمَائِها ، ورجَّةٍ في أرجائِها ، شدَهَتْ العقولَ ، وشدت الأبصارَ ، ماذا حلَّ بطيبةَ الطيبةِ ، قيلَ لها : يا أمَّ المؤمنينَ ، إنها عِيرٌ لعبدِالرحمنِ بنِ عوفٍ ، قدِمَتْ من الشامِ ، قالتْ أوَكُلُّ هذا الضجيجُ ، قالوا : إنها سبعمائةَ راحلةٍ ، أتدرونَ ماذا صنعَ بهاَ ، لقدْ ووزَّعَ ما عليها مِنْ أَحْمَالٍ عَلَى أهلِ المدينةِ وما حولَها ، صدقةً لوجهِ اللهِ ، رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ ، باعَ يوماً أرضاً ، بأربعينَ ألفَ دينارٍ ، ففرَّقَها جميعَهاَ ، في أهلِهِ ورَحِمِهِ وأمهاتِ المؤمنينَ ، وفقراءِ المسلمينَ ، جهَّزَ جيوشَ المسلمينَ أكثرَ من مرةٍ بالخيلِ والإبلِ ، أوصى قبلَ موتِهِ رضي اللهُ عنهُ ، بخمسينَ ألفَ دينارٍ في سبيلِ اللهِ ،
أيُّهَا المُسْلِمُونَ : فِي الحديثِ الذي رواهُ البخاريُّ ، قالَ عليه الصلاةُ والسلام ( مامن يومٍ يُصْبِحُ العبادُ فيهِ إلا ملكانِ ينزلانِ ، فيقولُ أحدُهُما ، اللهم أعطِ منفقاً خلفاً ، ويقولُ الآخرُ ، اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً )
وقالَ اللهُ تباركَ وتعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : سيرةُ هذا الصحابيِّ الجليلِ عَبدِالرَّحمنِ بْنِ عَوفٍ رضيَ اللهُ عنهُ نبراسٌ لمنْ مَنَّ اللهُ عليهِ بالمالِ في هذا الزمانِ ، فلم يكنْ رضيَ اللهُ عنهُ عبداً لمالِهِ ، يمضي بهِ المالُ في كُلِّ فجِّ ، ويَهوي بهِ في كلِّ هاويةٍ ، لقد كانَ رضيَ اللهُ عنهُ ، هُوَ سيِّدُ مالِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَالُهُ سَيِّدَهُ ، فلمْ يَشْقَ بجمعِهِ واكتنازِهِ ، ولا بنهبِهِ وابتزازِهِ ، ولا بلمِّهِ واحتيازِه ، لمْ يتنعمْ بمالِهِ لوحدِهِ ، إنما دخلَ مالُ عبدِالرحمنِ بنِ عوفٍ كلَّ بيتٍ في المدينةِ ، حتى الخليفةَ عثمانَ رضيَ اللهُ عنهُ ، فقدْ أوصى عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ رضيَ اللهُ عنهُ قبلَ موتِهِ ، بأربعمائةِ دينارٍ ، لكلِّ مَنْ بقيَ مِمَّنَ شَهِدَ بَدْرًا ، فكانَ منهمْ خليفةُ المسلمينُ عثمانُ ، فرغمَ ثراءِ عثمانَ ، إلاَّ أنَّهُ أخذَ نصيبَهُ وقالَ ( إنَّ مالَ عبدَالرحمنِ حلالٌ صَفْوٌ ، والطُّعمَةُ منهُ بركةٌ وعافيةٌ )
لقد بلغَ منْ سِعَةِ توسيعِهِ على الناسِ وعطائِهِ أنْ يقولُ القائلُ ( أهلُ المدينةِ جميعاً شركاءُ في مالِ عبدِالرحمنِ بنِ عوفٍ ) يُقرِضُهُم ويقضي الدينَ عنهُم ويَصِلُهُم ويُعطِيهِم ،
وُضِعَ الطعامُ أمامَهُ فبكى ، قيل ما يبكيكَ يا أبا محمدٍ ، فقالَ : ماتَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، وما شبعَ هو وأهلُ بيتِهِ من خُبزِ الشعيرِ ، رضيَ اللهُ عن عبدِالرحمنِ بنِ عوفٍ وعَنْ سائرِ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ،
أيها المسلمون : عن أيمانِكُم وعن شمائِلِكم ، مَنْ لا يسألونَ الناسَ إِلحافاً ، تحسبُهُم أغنياءَ مِنَ التعفُّفِ يستحييونَ أنْ يسألوا الناسَ ، وبهم مِنَ العَوَزِ والفاقةِ ، والفقرِ والحاجةِ ماللهُ بهِ عليمٌ ، فهُمْ بحاجةٍ إلى الطعامِ والكساءِ ، والمصاريفِ التي لا تَخفَى عَلَيكُمْ ، فكونوا عوناً لهم بما تستطيعون أعانَنَا اللهُ وإياكُم على المحيا والمماتِ ، والعرضِ عليهِ والوقوفِ بينَ يديهِ ، في يومٍ كانَ مقدارُهُ خمسينَ ألفَ سنةٍ ، تدنوا الشمسُ فيهِ من الخلائقِ ، فلا ظلَّ إلا ظِلُّه ، في الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ عن النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قال ( سبعةٌ يظلهُمُ اللهُ في ظِلهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه ) وذكرَ منهم ( ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفَاهاَ حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تُنفقُ يمينُهُ ) فاستعينوا باللهِ ، وصلوا وسلموا على من أمرَكُم اللهُ بالصلاةِ والسلامِ عليه فقال ((إن الله وملائكتَهُ يصلونَ على النبيِّ يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ))
فاللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
المفضلات