خطبة جمعة
بعنوان
( تصرم الأعوام والأعمار )
29/12/1445
عبدالله بن فهد الواكد
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ المُنْفَرِدِ بِالبَقَاءِ وَالقَهْرِ , الوَاحِدِ الأَحِدِ ذِي العِزَّةِ وَالسِّتْرِ , لَا نِدَّ لَهُ فَيُبَارَى , وَلَا شَرِيكَ لَهُ فَيُدَارَى , كَتَبَ الفَنَاءَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ , وَجَعَلَ الجَنَّةَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الكَافِرِينَ النَّارُ , خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً , مُفَرِّجُ الهُمُومِ وَمُبَدِّدُ الأَحْزَانِ وَالغُمُومِ , جَعَلَ بَعْدَ الشِّدَّةِ فَرَجاً وَبَعْدَ الضِّيقِ سَعَةً وَمَخْرَجاً
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ , ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ,
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَصْبَرُهُمْ لِحُكْمِهِ وَأَشْكَرُهُمْ لِنِعْمَتِهِ ,
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً { يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا اتّقوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ }
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ : فَإِنَّنَا فِي أَزَفِ عَامٍ تَصَرَّمَتْ أَيَّامُهُ وليَالِيهِ , وَرَحَلَتْ عَنْ الدُّنْيَا سَادَتُهُ وَمَوَالِيهِ فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ المَوْتَ حَتْماً لَا مَفَرَّ مِنْهُ , سَاوَى فِيهِ بَيْنَ الحُرِّ وَالعَبْدِ وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالغَنِيِّ وَالفَقِيرِ ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
فَالكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ وَ الحَازِمُ مَنْ بَادَرَ بِالعَمَلِ قَبْلَ حُلُولِ الفَوْتِ , وَالمُسْلِمُ مَنْ اسْتَسْلَمَ لِلْقَضَاءِ وَالقَدَرِ , وَالمُؤْمِنُ مَنْ رَجَى ثَوَابَ اللهِ وَاحْتَسَبَ وَصَبَرَ
أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُسْلِمُونَ : لِلزَّمَانِ كَرْبٌ مُكْلِمٌ ، وَلِفَقْدِ الأَحَبَّةِ خَطْبٌ مُؤْلِمٌ , يَنْخَلِعُ لَهُ القَلْبُ ، وَيَتَفَطَّرُ لَهُ الفُؤَادُ , فَقْدُ الأَحِبَّةِ مِنْ أَثْقَلِ الأَنْكَادِ ،
وَلَرُبَّ أَمْرٍ مُحْزِنٍ لَكَ فِي عَوَاقِبِهِ الرِّضَا وَلَرُبَّمَا اتَّسَعَ المَضِيقُ وَرُبَّمَا ضَاقَ الفَضَا
فَاقْبَلْ بِمَا كَتَبَ الإِلَهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ أَوْ قَضَى
فَكَمْ مِنْ مَغْبُوطٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ دَاؤُهُ , وَكَمْ مِنْ مَغْبُونٍ بِأَمْرٍ هُوَ دَوَاؤُهُ ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
لاَ تَكْرَهِ المَكْرُوهَ عِنْدَ حُلُولِهِ
إِنَّ العَوَاقِبَ لَمْ تَزَلْ مُتَبَايِنَة
كَمْ نِعْمَةٍ لَا يُسْتَهَانُ بِشُكْرِهَا
لِلهِ فِي طَيِّ المَكَارِهِ كَامِنَة
لَوْ اسْتَخْبَرْتُمْ العُقُولَ وَالنُّقُولَ لَأَخْبَرَتْكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَصَائِبٍ وَلُغُوبٍ , لَيْسَ فِيهَا لَذَّةٌ إِلَّا وَشَابَهَا الْكَدَرُ , وَلَيْسَ فِيهَا مُرٌّ إِلَا عَلَاهُ الأَمَرُّ ، فَمَا ظَنَنْتَ أَنَّهُ شَرَابٌ فَهُوَ سَرَابٌ , وَمَا حَسِبْتَ أَنَّهُ عَمَارٌ فَهُوَ خَرَابٌ ,
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا
صَفْواً مِنْ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ فَوْقَ طِبَاعِهَا
مُتَطَلِّبٌ فِي المَاءِ جَذْوَةَ نَارِ
الدُّنْيَا لَا تَخْلُو مِنْ بَلِيَّةٍ , وَلَا تَصْفُو مِنْ رَزِيَّةٍ , صَحِيحُهَا يَسْقَمُ , وَكَبِيرُهَا يَهْرَمُ , وَمَوْجُودُهَا يُعْدَمُ ..
وَلكَمْ طَافَت بِنَا رِكَابُ اللَّيَالِي عَلَى مَنْ اجْتَمَعُوا وَتَفَرَّقُوا وَوُلِدُوا وَمَاتُوا , وَفَرِحُوا وَحَزِنُوا وَصَحُّوا وَمَرِضُوا
المَرْءُ رَهْنُ مَصَائِبٍ لاَ تَنْقَضِي
حَتَّى يُوَسَّدَ جِسْمَهُ فِي رَمْسِهِ
فَمُؤَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي غَيْرِهِ
وَمُعَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي نَفْسِهِ
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَوْلَا مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَاحْتِسَابُنَا لَوَرَدْنَا القِيَامَةَ مَفَالِيسَ
ثَمَانِيَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا عَلَى الفَتَى
وَلَا بُدَّ أَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ الثَّمَانِيَة
سُرُورٌ وَهَمٌّ , وَاجْتِمَاعٌ وَفُرْقَةٌ
وَعُسْرٌ وَيُسْرٌ وَاسْتِقَامٌ وَعَافِيَةٌ
فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , مَا تَقَرُّ بِهِ الأَعْيُنُ , وَتَسْكُنُ بِهِ القُلُوبُ قَالَ تَعَالَى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
الإِسْتِرْجَاعُ عِنْدَ تَأَزُّمِ الأَوْضَاعِ عِلَاجٌ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ فَإِنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْكَ أَيُّهَا العَبْدُ المُصَابُ المُبْتَلَى مَسْبُوقٌ وَمَلْحُوقٌ بِعَدَمَيْنِ , عَدَمٌ قَبْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَا فَقَدْتَ حِينًا مِنْ الدَّهْرِ شَيْئاً مَذْكُورًا , وَعَدَمٌ بَعْدَهُ (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ).
فَمَصِيرُ مَنْ تَطَاوَلَ بِهِ العُمُرُ أَنْ يَتْرُكَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( الأنعام 94)
رَوى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
( مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولَ إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْراً مِنْهَا , إِلاَّ آجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا " قَالَتْ : فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ : وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ؟ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ عَزَمَ اللهُ عَلَيَّ فَقُلْتُهَا .. فَمَا الخَلَفُ ؟ .. قَالَتْ : فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذَىً وَلَا غَمٍّ , حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا خَطَايَاهُ ).
وَجَاءَ فِي السُّلْسُلَةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
(إِذَا مَاتَ وَلَدُ الرَّجُلِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِمَلاَئِكَتِهِ : "أَقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ .. فَيَقُولُ وَهُوَ أَعْلَمُ : أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ .. فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمَدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً فِي الجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ).
وَفِي البُخَاِري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءً إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الجَنَّةَ) اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الصَّابِرِينَ المُحْتَسِبِينَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظبم
الثانية
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَحُفُّ المُصِيبَةَ بِالأَجْرِ العَظِيمِ , فَمَنْ رَضِيَ بِقَضَاءِ اللهِ جَرَى عَلَيْهِ وَكَانَ لَهُ أَجْرٌ , وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاءِ اللهِ جَرَى عَلَيْهِ وَخَابَ وَخَسِرَ , فَقَضَاءُ اللهِ نَافِذٌ وَأَمْرُهُ وَاقِعٌ , وَلَكِنَّ رِبْحَ العَبْدِ وَخَسَارَتَهُ بِحَسَبِ رِضَاهُ وَسَخَطَهُ , جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ الرَّاضِينَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.
عَبَادَ اللهِ ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
المفضلات