عبدالله فهد الواكد
( حولهما ندندن )
الجنة والنار
الخطبة الأولى
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
عباد الله: اتقوا اللهَ -تعالى-, وَاعلَمُوا أَنَّ الإِيمَانَ بِاليَوْمِ الآخِرِ أَصْلٌ مِن أُصُولِ الإيمَانِ السِّتَّةِ, التِي لَا يَكُونُ العَبْدُ مُؤْمِناً إِلَّا بِهَا ، وَاليَومُ الآخِرُ هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ , وَهُوَ يَوْمُ الحِسَابِ , هُوَ اليَوْمُ الذِي يَبْعَثُ اللهُ النَّاسَ فِيهِ مِنْ قُبُورِهِمْ ، لِيُحَاسِبَهُم وَيُجَازِيهِم عَلَى أعْمَالِهِم التِي عَمِلُوهاَ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنياَ. وَمِنَ الإِيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ -يَا عِبادَ اللهِ- الإِيمَانُ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ
أَيُهَا المُسْلِمُونَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم فِي المَسْجِدِ إِذْ بِأَعْرَابِيٍّ يَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَاذَا تَقُولُ قَالَ الأَعْرَابِيُّ أَسْأَلُ اللهَ الجَنَّةَ وَأَسْتَعِيذُ بِهِ مِنَ النَّارِ فَقَاَل لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : حَوْلُهُمَا نُدَنْدِنُ .
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : لَيْسَ فِي الجَنَّةِ مِنْ دَارٍ سِوَى الجَنَّةَ وَالنَّارَ فَأَكْثِرُوا مِنْ سُؤَالِ اللهِ الجَنَّةَ وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ النَّارِ نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ وَالمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وَيَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ الإِيمَانُ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَالجَنَّةُ دَارُ المُؤْمِنِينَ المُطِيعِينَ للهِ وَرَسُولِهِ وَمَوْضِعُهَا فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى: قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ [النجم: 13-15].
وَعَدَدُ دَرَجَاتِ الجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةً بَيْنَ كُلِّ دَرَجَةٍ وَالأُخْرَى كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؛ كَمَا فِي "البخاري" (2790) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ قَال: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِاَئَةُ دَرَجَةً أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ».
وَأَعْلَى الجَنَّةِ وَسَقْفُهَا الفِرْدَوْسُ، وَفَوْقَهُ العَرْشُ، وَمِنْهُ تَتَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمَ قَالَ: «فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللهَ، فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ؛ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَن، وَمِنْهُ تَفُجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ وَعَدَدُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ: كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ فِي "البخاري" (3257)، عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عليه وسلمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانُ لَا يَدْخُلُه إِلَّا الصَّائِمُونَ». وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ فِيهَا مِنْ النَّعِيمِ مَا لَا َعَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَأَمَّا النَّارُ فَهِيَ دَارُ العِقَابِ الأَبَدِي لِلْكَافِرِينَ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُنَافِقِينَ النِّفَاقَ الاِعْتِقَادِيِّ، وَأَمَّا عُصَاةُ المُوَحِّدِينَ فَيُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ ، ثُمَّ مَآلهُمْ إلَى الجَنَّةِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].
وَأَمَّا مَوْضِعُ النَّارِ فَهِيَ فِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ كَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَالنَّاُر دَرَكَاتٌ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ أَعَاَذَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهَا : قَالَ عَبْدُالرَّحْمَن بْنُ أَسْلَمَ: دَرَجَاتُ الجَنَّةِ تَذْهَبُ عُلُوًّا، وَدَرَكَاتُ النَّاِر تَذْهَبُ سُفُولًا، وَأَسْفَلُ الدَّرَكَاتِ هِيَ دَارُ المُنَافِقِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145]
وَأّمَّا عَدَدُ أَبْوَابِ النَّاِر فَلَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ: قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾ [الحجرِ: 44].
وَكَمَا تُشَاهِدُونَ هَذَا الحَرَّ الذِي نَمُرُّ بِهِ هُوَ جُزْءٌ مِنْ حَرِّ نَارِ الدُّنْيَا ، وَنَارُ الدُّنْيَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، عَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عنهُ الذيَ أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ برقم (3265)، وَمُسْلِمُ (871)، عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ».
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : الإيمَانُ بِالجَنَّةِ وَالنَّارِ يَتَحَقَّقُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الأَوَّلُ : الاِعْتِقَادُ الجَازِمُ بِأَنَّهُمَا حَقٌّ، وَأَنَّ الجَنَّةَ دَارُ المُتَّقِينَ وَالنَّارُ دَارُ الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ؛ قَاَلَ تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ الله كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾[النساء: 56-57].
وَالأَمْرُ الثَّانِي: اعْتِقَادُ وُجُودُهُمَا الآن؛ قَاَل تَعَالَى فِي الجَنَّةِ: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّارِ: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24].وفي "البخاري" برقم (3241)، ومسلم (2738) - مُخْتَصَرًا بِمَعْنَاه، واللفظ للبخاري - عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمَ أَنَّهُ قَالَ: «اطَّلَعَتُ فِي الجَنَّةِ؛ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءُ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ؛ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءُ».
وَالأَمْرُ الثَّالِثُ: اعْتِقَادُ دَوَامُهُمُا وَبَقَائُهُمَا، وَأَنَّهُمَا لَا تَفْنَيَانِ وَلاَ يَفْنَى مَنْ فِيهِمَا، قَالَ تَعَالَى فِي الجَنَّةِ: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [النساء: 13]. وقال تعالى عن النار: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 23].
وَالمَقْصُودُ بِالمَعْصِيَةِ هُنَا هِيَ الكُفْرُ أَوْ الشِّرْكُ لِتَأْكِيدِ الخُلُودِ فِي النَّارِ بِالتَّأْبِيدِ. قال القرطبي في "تفسيره" (19 /27): قوله: ﴿أَبَدًا﴾: دليل على أن العصيان هنا هو الشرك؛ اهـ. وروى البخاري (6544) ومسلم (2850) واللفظ لمسلمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلِ النَّاِر النَّارَ، ثُمَّ يَقُوم ُمُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ لَا مَوْتٌ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتٌ، كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ».
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم. أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَأسْتَغْفرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً.
أَمّا بَعدُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : فَمِنْ ثَمَرَاتِ الِإيمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ : الحِرْصُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَالبُعْدُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ ذَلِكَ اليَوْمِ.
كَذَلِكَ تَسْلِيَةُ المُؤْمِنِ عَمَّا يَفُوتُهُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا بِمَا يَرْجُوهُ مِنْ نَعِيمِ الآخِرَةِ وَثَوابِها.
ثُمَّ اسْتِشْعَارُ كَمَالِ عَدْلِ اللهِ تَعَاَلى؛ حَيْثُ يُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ مَعَ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ؛ اهـ.
إلى هنا انتهى ما نقلته من كتاب "أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة" بتصرف يسير.
صلوا وسلموا على خير البرية كما أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه
المفضلات