الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَبْرَزِ الْجَوَانِبِ الَّتِي اعْتَنَى بِهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جَانِبُ الأَمْثَالِ الَّتِي تُضْرَبُ لَنَا لِلاِعْتِبَارِ وَالتَّذْكِيرِ وَالاِقْتِدَاءِ، وَالتَّفَكُّرِ وَالْوَعْظِ وَالاِحْتِذَاءِ، وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ فِي ضَرْبِ الأَمْثِلَةِ تَرْبِيَةً قُرْآنِيَّةً عَالِيَةً لِكُلِّ إِنْسَانٍ يَتَقَبَّلُ الْهُدَى وَالْعِلْمَ النَّافِعَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت:43].
وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَعَ رَبِّهِمْ بِامْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ صَالِحَةٍ كَانَتْ تُضَاجِعُ أَعْظَمَ طَاغِيَةٍ وَأَشَدَّ ظَالِمٍ؛ تَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ ، وَتَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِ، وَتَسْمَعُ لِكَلاَمِهِ!
إِلاَّ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهَا مِنْ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ بِلِقَاءِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ لَمْ يَجْعَلْهَا تَتَأَثَّرُ بِكُفْرٍ وَطُغْيَانٍ، وَظُلْمٍ وَعِصْيَانٍ، فَبَقِيَتْ مُسْلِمَةً طَائِعَةً لِرَبِّهَا، قَانِتَةً لَهُ مُؤْمِنَةً بِلِقَائِهِ، بَلْ وَتَشْتَاقُ كُلَّ الشَّوْقِ إِلَى جِوَارِهِ ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة التحريم: 11].
إِنَّهَا آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، السِّرَاجُ الَّذِي أَضَاءَ فِي ظُلُمَاتِ الْقَصْرِ، آسِيَةُ الَّتِي غَزَا الإِيمَانُ قَلْبَهَا، وَمَلَكَ عَلَيْهَا أَمْرَهَا، آسِيَةُ الَّتِي تَعِيشُ فِي ظِلِّ أَعْظَمِ حُكَّامِ الأَرْضِ وَأَقْوَاهُمْ وَأَطْغَاهُمْ، وَالَّذِي قَالَ لِقَوْمِهِ بَعْدَمَا نَادَاهُمْ وَجَمَعَهُمْ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ أَيْ: لاَ رَبَّ لَكُمْ فَوْقِي، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُخِفْهَا جَبَرُوتُهُ وَعَظَمَتُهُ، وَلَمْ تَغُرَّهَا هِذِهِ الْحَيَاةُ الْمُنَعَّمَةُ، وَإِنَّمَا فَضَّلَتْ رِضَا اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى كُلِّ مُتَعِ الدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا، فَآمَنَتْ بِنَبِيِّ اللهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَصَبَرَتْ عَلَى مَا جَاءَهَا مِنَ التَّعْذِيبِ، وَاخْتَارَتْ طَرِيقَ الْحَقِّ بِرَغْمِ تَكْلِفَتِهِ الْجَسِيمَةِ، حَيْثُ نَالَتْ عَذَابًا شَدِيدًا مِنْ فِرْعَوْنَ؛ فَكَانَتْ أُنْمُوذَجًا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَضُرَّهَا كُفْرُ فِرْعَوْنَ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ طُغْيَانٍ وَتَجَبُّرٍ، وَلَمْ تَغُرَّهَا مَفَاتِنُ الدُّنْيَا، بَلْ كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَى رِضَا اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَنْ يَرْزُقَهَا جِوَارَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ دَارَهَا فِي الْجَنَّةِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ فَجِوَارُ اللهِ أَعْظَمُ مِمَّا سِوَاهُ، وَمَنْزِلَتُهُ وَهِيَ الْجَنَّةُ أَعْظَمُ مَا طَلَبَهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ رَبِّهِمْ، فَهِيَ تَطْمَعُ فِي جِوَارِ اللهِ قَبْلَ طَمَعِهَا فِي الْقُصُورِ؛ وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْجَارُ قَبْلَ الدَّارِ؛ فَهِيَ قَدْ تَبَرَّأَتْ مِنْ قَصْرِ فِرْعَوْنَ طَالِبَةً إِلَى رَبِّهَا بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَتَبَرَّأَتْ مِنْ صِلَتِهَا بِفِرْعَوْنَ، فَسَأَلَتْ رَبَّهَا النَّجَاةَ مِنْهُ، وَتَبَرَّأَتْ مِنْ عَمَلِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَهَا مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ، وَهِيَ أَلْصَقُ النَّاسِ بِهِ فَقَالَتْ: ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ﴾ وَتَبَرَّأَتْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَهِيَ تَعِيشُ بَيْنَهُمْ فَقَالَتْ :﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فَجِوَارُ الرَّبِّ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ جِوَارٍ، وَبَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ قُصُورِ فِرْعَوْنَ وَالدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا؛ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَنَّةُ مَا بِنَاؤُهَا ؟ قَالَ: «لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِلاَطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ دَخَلَهَا يَنْعَمُ وَلاَ يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلاَ يَمُوتُ، لاَ تَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلاَ يَفْنَى شَبَابُهُمْ» [رواه أحمد، وصححه الألباني].
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ فَلاَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» [متفق عليه].
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا، وَارْضَ عَنَّا، وَتَقَبَّلْ مِنَّا، وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَنَجِّنَا مِنَ النَّارِ، وَأَصْلِحْ لَنَا شَأْنَنَا كُلَّهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوُا إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ مِنَ الآيَةِ السَّابِقَةِ: بَيَانَ فَضْلِ الاِسْتِقَامَةِ عَلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَالثَّبَاتَ عَلَى ذَلِكَ مَهْمَا اشْتَدَّ الْبَلاَءُ وَعَظُمَ، وَفِيهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ قَدْ تُبْتَلَى بِزَوْجٍ ظَالِمٍ فَاسِقٍ، فَلاَ تَجْزَعُ وَلاَ تَيْأَسُ بَلْ تَثْبُتُ، فَلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ بَلْ تَحْتَسِبُ أَجْرَهَا عِنْدَ اللهِ، وَتَحْتَسِبُ فِي صَلاَحِهِ طَالَمَا أَنَّهُ فِي دَائِرَةِ الإِسْلاَمِ، وَفِي الآيَةِ مِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ: فَضْلُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ؛ بَلْ خَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا لِلرَّجُلِ :
الزَّوْجَةُ صَاحِبَةُ الدِّينِ، الَّتِي يَفْرَحُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَبِطَاعَتِهَا لَهُ؛ الْعَفِيفَةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي تَحْفَظُ دِينَهَا وَنَفْسَهَا إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَمِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: فَضْلُ الدُّعَاءِ لِمَنْ أَخْلَصَهُ للهِ، وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيمُ الدُّعَاءِ بِأَمْرِ الآخِرَةِ عَلَى الدُّعَاءِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَفِيهَا مِنَ الدُّرُوسِ: إِثْبَاتُ وُجُودِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّهَا فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَأَنَّهَا دَرَجَاتٌ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُهَا، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهَا يَتَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ»
[ رواه الترمذي ، وصححه الألباني ]
هَذَا، وَصَلُّوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].
المفضلات