الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ علَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وكَرَائِمَ أمْوَالِهِمْ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ يُبَيِّنُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَهَمَّهَا وَأَسَاسَهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ هِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، وَالْبُعْدُ عَنِ الشِّرْكِ، الَّتِي هِيَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- لأُمَمِهِمْ؛ فَمَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلاَّ أَمَرَهُ بِدَعْوَةِ قَوْمِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ، ونَهْيِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وَنَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي الدَّعْوَةِ إِلَى «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» مَكَثَ مَعَ قَوْمِهِ فِي مَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، تُفْلِحُوا» أَيْ: يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ؛ بَلْ حَرَصَ أَنْ يَقُولَهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْفَضَائِلِ الْعَدِيدَةِ، وَالثِّمَارِ الْفَرِيدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ إِذْ هِيَ أَمْنٌ وَأَمَانٌ لِقَائِلِهَا وَمُعْتَقِدِهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ–: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرِضَ، فأتَاهُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ» [رواه البخاري].
وَلَمَّا حَضَرَتْ أبا طَالِبٍ الوَفاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَيْ عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ- أَيْ: أَشْهَدُ- لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! أَيْ: تَتْرُكُهَا! فَمَاتَ وَلَمْ يَقُلْهَا.
فَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ هِيَ: خَيْرُ الْكَلاَمِ وَأَثْقَلُهُ فِي الْمِيزَانِ، وَأَحَبُّهُ إِلَى الرَّحْمَنِ وَأَبْغَضُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ؛ مَنْ قَالَهَا عَصَمَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ؛ لأَنَّهَا كَلِمَةُ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَتَخَلَّصُ بِهَا الْقُلُوبُ وَالْجَوَارِحُ مِنَ الشِّرْكِ، وَبِهَا يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» أَعْظَمُ نِعْمَةٍ وَأَتَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20] قَالَ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ- : هَذِهِ النِّعَمُ هِيَ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ».
وَهِيَ أَسَاسُ الدِّينِ، وَالرُّكْنُ الأَوَّلُ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ، مَعَ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ» [متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
وَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا نَجَا، وَمَنْ حُرِمَ مِنْهَا هلَكَ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة: 256 ].
وَهِيَ الْقَوْلُ الثَّابِتُ الَّذِي ثَبَّتَ اللهُ عَلَيْهِ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27 ].
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تُوجِبُ لِمَنْ قَالَهَا دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُتْبَانَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ– قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: «فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» [متفق عليه].
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَارْزُقْنَا تَحْقِيقَهُ وَأَمِتْنَا عَلَيْهِ، وَسَلِّمْنَا يَا إِلَهَنَا وَخَالِقَنَا مِنَ الشِّرْكِ كَبِيرِهِ وَصَغِيرِهِ، دَقِيقِهِ وَجَلِيلِهِ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» لاَ تَنْفَعُ مَنْ قَالَهَا إِلاَّ إِذَا عَلِمَ مَعْنَاهَا، وَحَقَّقَ شُرُوطَهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا؛ فَمَعْنَاهَا: لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ اللهُ؛ فَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ بَاطِلٌ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج: 62] وَشُرُوطُهَا: عِلْمٌ وَيَقِينٌ وَصِدْقٌ بِهَا، وَانْقِيَادٌ وَمَحَبَّةٌ وَإِخْلاَصٌ وَقَبُولٌ لَهَا، وَمُقْتَضَاهَا: الْقِيَامُ بِأَرْكَانِ الإِسْلاَمِ الْخَمْسَةِ إِخْلاَصًا للهِ وَاتِّبَاعًا لِهَدْيِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَالاِلْتِزَامُ بِهَذَا الدِّينِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد: 19].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِم.
المفضلات