الخُطْبَةُ الأُولَى
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّنَا بِالْإِسْلَامِ ، وَأَكْرَمَنَا بِالْإِيمَانِ ، وَرَحِمَنَا بِنَبِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَدَانَا إِلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الْكِرَامِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، نَصْرَ عَبْدَهُ ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ ،وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾
[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اَلصِّرَاعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَعَلَى هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ ، فَكَانَ خَلْقُهُ وَحُكْمُهُ وَتَصَرُّفُهُ فِي الْكَوْنِ عَادِلاً ، وَهَذَا الصِّرَاعُ سَبَبٌ فِي رَفْعِ رَايَةِ الْجِهَادِ ، وَخَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَانْقِسَامِ الْعِبَادِ بَيْنَ أَبْرَارِ وَفُجَّارِ ، ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى : 7 ] وَهَذَا الصِّرَاعُ بَدَأَ مِنْ امْتِنَاعِ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ اسْتِكْبَارًا وَحَسَدًا ، فَطُرِدَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، فَأَعْلَنَ الْحَرْبَ وَالْمَكِيدَةَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ لِبَنِيِ آدَمَ ، وَقَدْ أَتَى التَّحْذِيرُ مِنْ اللَّهِ لِهَذَا الْعَدُوِّ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ [ يس : 60 – 61 ] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ ﴾ [ فاطر : 5 – 6 ] وَمَضَى الصِّرَاعُ يَتَّسِعُ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ !حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، فَافْتَرَقَ النَّاسُ إِلَى مُؤْمِنٍ بِالرِّسْلِ وَكَافِرٍ بِهِمْ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ﴾ [ الأنعام : 112] وَلَمْ تَقِفْ سُنَّةُ الصِّرَاعِ عِنْدَ حَدٍّ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ ، بَلْ هِيَ مَاضِيَةٌ تَزْدَادُ بِمُضِيِّ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى : ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [ العنكبوت : 2 ]
ثُمَّ الصِّرَاعُ قَائِمٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ ، وَالَّذِي أَخَبَرَنَا اللهُ عَنْ هَدَفِ هَذَا الصِّرَاعِ وَمَقْصِدِهِ، فَقَالَ: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [سورة البقرة:109] وقال :
﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
[سورة البقرة:217]
وَإِذَا تَأَمَّلْنَا عَدَاوَةَ الْبَاطِلِ بِتَنَوُّعِهَا وَتَعَدُّدِهَا ؛ وَجَدْنَاهَا تَسْتَهْدِفُ عَقِيدَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاِجْتِمَاعَهَمْ وَوِحْدَةَ صَفِّهِمْ مِنْ زَمَنِ اِبْنِ سَبَأِ الْيَهُودِيِّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا ؛ فَنَجِدُهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى تَكْوِيِنِ جَمَاعَاتٍ إِسْلَامِيَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِمِنْهَجِ أهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ -كَجَمَاعَةِ الْإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ الْإِرْهَابِيَّةِ - وَالَّتِي بِنَاؤُهَا التَّنْظِيمِيُّ يُطَابِقُ التَّنْظِيمَ الْهَرَمِيَّ لِلْجَمَاعَةِ الْمَاسُونِيَّةِ، حَتَّى دَرَجَاتِ الْاِنْتِمَاءِ لِلْجَمَاعَةِ، وَطَرِيقَةِ الْبَيْعَةِ وَأُسْلوبِهَا وَعِبَارَتِهَا الْوَاحِدَةِ فِي التَّنْظِيمَيْنِ ؛ وَقَدْ تَبَيَّنَ لِلْجَمِيعِ إِنْحِرَافُ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ بِسَعْيِهَا بِاِسْمِ الدِّينِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى الْحُكْمِ ، وَمَنَازِعَةِ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَإِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَزَعْزَعةِ التَّعَايُشِ فِي الْوَطَنِ الْوَاحِدِ وَلَوْ عَلَى حِسَابِ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي يَصِفُونَهَا بِالْمُجْتَمَعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ ! وَاُنْظُرُوا مَا أَحْدَثَتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ تَقْتيلٍ وَتَدْمِيرٍ وَتَهْجِيرٍ ؛ وَكُلُّ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ مُخَطَّطَاتِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ ؛ وَسَمِعْتُم مَا صَدَرَ مِنْ بَيَانِ هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ بِحَقِّ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ ، وَوَصْفِهَا بِالْجَمَاعَةِ الْإِرْهَابِيَّةِ الْمُنْحَرِفَةِ الَّتِي تَتَسَتَّرُ بِالدِّينِ وَتَمَارُسُ مَا يُخَالِفُهُ.
فَاتَّقُوْا اللهَ – عِبَادَ اللهِ – وَاعْتَصِمُوا بِكِتَابِ رَبِّكُمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُوُنُوا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفَكُمُ الصَّالِحُ ؛ أَعُوُذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [ آل عمران: 103]
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فَيهِ مِنَ الآيَاتِ والذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوانِهِ، وَسَلَّم تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَ بِالْاِجْتِمَاعِ عَلَى الْحَقِّ، وَنَهَى عَنِ الْاِخْتِلَاَفِ وَالتَّفَرُّقِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾
[ الأنعام : 159 ]
وَأَمَرَ الْعِبَادَ بِاِتِّبَاعِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَنَهَاهُمْ عَنِ السُّبَلِ الَّتِي تَصْرِفُ عَنِ الْحَقِّ، فَقَالَ: ﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
[ الأنعام : 153]
وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ مِنَ السُّبُلِ الَّتِي نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنِ اِتِّبَاعِهَا الْمَذَاهِبُ وَالنِّحَلُ الْمُنْحَرِفَةُ عَنِ الْحَقِّ ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ» ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ». ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [رواه أحمد ، والدارمي ، وحسَّنه الألباني في «المشكاة»]
فَالْيَقَظَةُ وَالْانْتِبَاهُ وَاجِبَانِ مِنَّا جَمِيعًا لِمَعْرِفَةِ مُخَطَّطَاتِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالْحَذِرِ مِنْهَا ؛ فَأَعْدَاءُ اللهِ لَا يُرِيدُونَ لَنَا نُصْحاً، وَلَا اسْتِقْرَارَاً وَلَا فَلَاَحاً ! إِنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْ يُوقِعُوا بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَيُوَقِعُوا شَبَابَنَا فِي التَّحَزُّبَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلَحَقِّ، فَالْحَذَرُ كُلُّ الْحَذَرِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ مَطِيَّةً لأعْدَائِهِ ، يُوَجِّهُهُ الْأَعْدَاءُ كَيْفَ شَاءُوا وَمَتَى شَاءُوا ؛ فَدِينُنَا وَأَمْنُنَا وَبِلَادُنَا وَوِحْدَتُنَا مَسْؤُولِيَّةُ كُلِّ فَرْدٍ مِنَّا، وَأمَانَةٌ نُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»
[رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
المفضلات