اَلْخُطْبَةُ الْأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ إنْقَضَتْ أَيَّامُ الحَجِّ الْـمُـبَارَكَةِ ، وَشَهِدَ حَجُّ هَذَا العَامِ نَجَاحاً بَاهِراً ، بِفَضْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ بِفَضْلِ مَا يُولِيهِ وُلَاةُ الْأَمْرِ وَرِجَالُ الْأَمْنِ وَالجِهَاتُ المُخْتَصَّةُ وَكَافَّةُ الْقِطَاعَاتِ الأُخْرَى مِنْ جُهُودٍ جَبَّارَةٍ حِفَاظاً عَلَى سَلَامَةِ الحُجَّاجِ وَأَمْنِهِمْ وَتَوْفِيرِ الرِّعَايَةِ الكَامِلَةِ لَهُمْ ، ثُمَّ بِسَبَبِ التَّنْظِيمِ العَظِيمِ وَالتَّسْدِيدِ السَّدِيدِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ القَاصِي وَالدَّانِي ، وَفَوَّتَ الفُرْصَةَ عَلَى المُتَرَبِّصِينَ بِالحَجِّ وَالحُجَّاجِ مِنَ المُغَرَّرِ بِهِمْ مِنْ قِبَلِ الجِهَاتِ المُغْرِضَةِ التِي لا تَخْفَى عَلَى كَرِيمِ عُقُولِكُمْ ، فَحَفِظَ اللهُ وَلَاةَ أَمْرِنَا وَجُنْدَنَا وَالقَائِمِينَ عَلَى الْحَجِّ جَمِيعاً .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ النَّجَاحَ الْبَاهِرَ الَّذِي حَقَّقَتْهُ حُكُومَةُ خَادِمِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ فِي إِدَارَةِ الْحَجِّ وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَالْمَشَاعِرِ الْمُقَدَّسَةِ لَمْ يَأْتِ مِنْ فَرَاغٍ، وَلَكِنَّهُ -بَعْدَ فَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ- ثَمَرَةُ سِيَاسَةٍ حَكِيمَةٍ، وَإِدَارَةٍ حَازِمَةٍ، وَمُتَابَعَةٍ دَقِيقَةٍ، وَجُهُودٍ مُضْنِيَةٍ، وَبَذْلٍ سَخِيٍّ، وَنِيَّةٍ طَيِّبَةٍ صَالِحَةٍ، يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالشَّوَاهِدِ مَا لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَعُدَّهَا أَوْ يُحْصِيَهَا.
وَمِمَّا يَجِبُ الْإِشَادَةُ بِهِ أَنَّ رِعَايَةَ الدَّوْلَةِ السُّعُودِيَّةِ لِلْحَجِّ تَقُومُ عَلَى أُسُسٍ عَظِيمَةٍ، يَتَجَلَّى فِيهَا الِامْتِثَالُ لِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ تَعَالَى : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْ يَبْنِيَ الْكَعْبَةَ، وَنَهَاهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَنَجِدُ الدَّوْلَةَ السُّعُودِيَّةَ -وَفَّقَهَا اللهُ- تَتَرَسَّمُ هَذَا الْمَنْهَجَ الرَّبَّانِيَّ الْقَوِيمَ؛ فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ بِعِمَارَةِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عِمَارَةً وَصِيَانَةً وَنَظَافَةً لَمْ يَشْهَدِ التَّارِيخُ لَهَا مَثِيلًا، وَلَا زَالَتْ مَشَارِيعُهَا قَائِمَةً مُتَجَدِّدَةً مُنْذُ شَرَّفَهَا اللهُ تَعَالَى بِخِدْمَةِ الْحَرَمَيْنِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
كَمَا أَنَّهَا حَرِيصَةٌ غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى رَفْعِ مَنَارِ التَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ، وَمَحْوِ مَظَاهِرِ الشِّرْكِ وَأَسْبَابِهِ وَوَسَائِلِهِ، فَهَا هِيَ خُطَبُ الْحَرَمَيْنِ وَخُطْبَةُ نَمِرَةَ يُقَرَّرُ فِيهَا إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَيُحَذَّرُ فِيهَا مِنَ الشِّرْكِ، وَيُعَظَّمُ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَيُتَرَضَّى فِيهِمَا عَنِ الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَتَى بَدَرَتْ بَوَادِرُ غُلُوٍّ أَوْ تَبَرُّكٍ شِرْكِيٍّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِوَرِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بَادَرَتْ إِلَى مَنْعِهِ وَإِزَالَتِهِ، وَإِنْزَالِ الْعُقُوبَةِ الرَّادِعَةِ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِمَّنْ يَسْتَغِلُّ جَهْلَ الْحُجَّاجِ وَالزُّوَّارِ لِإِضْلَالِهِمْ وَالتَّغْرِيرِ بِهِمْ وَإِفْسَادِ عَقَائِدِهِمْ.
أيُّهَا المُسْلِمُونَ : وَاللهِ لَا يُنْكِرُ مَا شَرَّفَ اللهُ بِهِ بِلاَدَنَا حَفِظَهَا اللهُ بِكَافَّةِ قِطَاعَاتِهَا الأَمْنِيَّةِ وَالصِّحِّيَةِ وَالخَدَمِيَّةِ مِنْ خِدْمَةٍ لِلمَشَاعِرِ الْـمُقَدَّسَةِ ، وَقِيَامٍ عَلَى رَاحَةِ وَسَلَامَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ إلاَّ جَاحِدٌ وَحَاقِدٌ ، وَإِلَّا فَالْـمُسْلِمُ الحَقُّ يَفْرَحُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ خَدَمَاتٍ عِمْلَاقَةٍ تُقَدَّمُ لِضِيوفِ رَبِّ العَالَمِينَ
هَذِهِ الدَّوْلَةُ الْـمُبَارَكَةُ جَنَّدَتْ آلَافًا مُؤَلَّفَةً مِنْ رِجَالِ الأَمْنِ وَالدُّعَاةِ وَالْـمُرْشِدِينَ وَالأَطِبَّاءِ وَالْـمُمَرِّضِينَ والعَامِلِينَ ؛يَعْمَلُونَ عَلَى مَدَارِ السَّاعَةِ خِدْمَةً لِضُيُوفِ الرَّحْمَنِ وَقِيَامًا بِهَذَا الشَّرَفِ العَظِيمِ الذِي شَرَّفَهُمْ اللهُ بِهِ ؛ فَمَا الذِي نُرِيدُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْـمُقَدَّسَاتُ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً سُبُلَهَا وَمَشَاعِرَهَا ، قَالَ تَعَالَى { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ مَنْ جَعَلَ البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ، وَأَمَرَ بِتَهْيِئَتِهِ وَتَطْهِيرِهِ ، فَهَيَّأَ بِسَابِقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ لِشَرَفِ خِدْمَتِهِ وَتَأْمِينِهِ مَنْ شَاَءَ مِنْ عِبَادِهِ ؛ فَنَحْمُدُ اللهَ عَلَى هَذَا الشَّرَفَ العَظِيمَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ .
فَشَكَرَ اللهُ لِهَذِهِ الدَّوْلَةِ الْكَرِيمَةِ جُهُودَهَا الْعَظِيمَةَ فِي خِدْمَةِ الْحَجِيجِ وَرِعَايَةِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَجَزَاهَا عَلَى ذَلِكَ خَيْرَ الْجَزَاءِ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكَمَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْـمُسْلِمَ الحَقَّ هُوَ الَّذِيِ لا يَتَمَنَّى أَنْ يُشَاكَ أَخُوهُ الْـمُسْلِمُ بِشَوْكَةٍ ، أَوْ أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ وَبَيْتِهِ ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَغَرَّبُوا وَسَافَرُوا وُفُودًا عَلَى بَيْتِ اللهِ وَضُيُوفًا عَلَى مَشَاعِرِهِ وَمُقَدَّسَاتِهِ ، وَاللهِ لاَ يَتَمَنَّى لَهُمْ الضَّرَرَ والتَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ وَالْهَلَاكَ مُسْلِمٌ فِي قَلْبِهِ ذَرَّةُ إيمَانٍ ، هَؤُلاَءِ إخْوَانُنَا فِي الدِّينِ جَاؤُوا لِتَأْدِيَةِ فَرِيضَةِ الحَجِّ الرُّكْنِ الخَامِسِ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ ،وَبَعْضُهُمْ مَكَثَ عَشَرَاتِ السِّنِينَ فِي بِلَادِهِ يَنتَظِرُ دَوْرَهُ فِي الحَجِّ ،وَلَهُمْ عَلَيْنَا حَقُّ الضِّيَافَةِ والرِّعَايَةِ ؛ وَهَذِهِ الدَّوْلَةُ الْـمُبَارَكَةُ بِمُوَظَّفِيهَا وَشَعْبِهَا الوَفِيِّ ،لَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا يَحُوطُهُمْ بِالرِّعَايَةِ إلا وَفَعَلَتْهُ ؛ فَجَزَى اللهُ كُلَّ مَنْ سَاهَمَ فِي ذَلِكَ خَيرَ الجَزَاءِ وَتَقَبَّلَ اللهُ مِنَ الْـحُجَّاجِ حَجَّهُمْ ،وَغَفَرَ ذَنْبَهُمْ ، وَيَسَّرَ لَهُمْ سُبُلَ العَودَةِ إلى بِلاَدِهِمْ ، وَحَفِظَ اللهُ بِلاَدَنَا وَأَمْنَنَا وَمُقَدَّسَاتِنَا وَجُنْدَنَا ،كَمَا نَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُدِيمَ هَذِهِ النَّجَاحَاتِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَأَنْ يَزِيدَ دَوْلَتَنَا تَوْفِيقًا وَتَأْيِيدًا وَعِزًّا وَسُؤْدُدًا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدُّعَاءِ.
، هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا » رَوَاهُ مُسْلِم.
المفضلات