خطبة جمعة
بعنوان
( مدرسة الصيام 1440 )
كتبها
عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ أحمدُهُ حَمْداً كَثِيراً وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، صَلَّـى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ : فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ القَائِلِ ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ) فَمَا ظَنُّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُسْلِمُونَ بِهَذِهِ الفَرْحَةِ ، فَرْحَةِ المُؤْمِنِ عِنْدَ فِطْرِهِ ، هَلْ هِيَ فَرْحَةُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ، هَلْ فَرِحَ حِينَماَ فُسِحَ لَهُ المَجَالُ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُقَيَّداً ، لَوْ أَنَّ المُؤْمِنَ تَعمَّدَ وَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِدُونِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ، قَبْلَ المَغْرِبِ بِعَشْرِ دَقَائِقَ فَقَطْ ، هَلْ تَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الفَرْحَةُ ؟ لاَ وَاللهِ ، إِنَّماَ يَحْصُلُ لَهُ الضِّيقُ وَالأَسَى وَالحَسْرَةُ ، فَمَا هُوَ سِرُّ تِلْكَ الفَرْحَةِ يَا تُرَى ؟ إِنَّ تِلْكَ الفَرْحَةَ أَيُّها المُسْلِمُونَ ، هِيَ فَرْحَةُ الإِنْتِصَارِ عَلَى النَّفْسِ ، وَالتَّفَوُّقِ عَلَى الهَوَى ، وَالفَوْزِ بِالأَجْرِ ، إِنَّها لَذَّةُ الطَّاعَةِ ، وَإِتْمَامِ الصِّيَامِ ، إِنَّها نَشْوَةُ الإِنْتِصَارِ عَلَى عَدُوِّ اللهِ الشَّيْطَانِ ، إِنَّها أَسْمَى مَعَانِي الإِسْتِسْلَامِ ، أَيْ وَاللهِ أَيُّها المُسْلِمُونَ ، ، تَجْلِسُ أَمَامَ مَا لَذَّ وَطَابَ ، مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ ، ثُمَّ تَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَكَ اللهُ بِذَلِكَ ، شَرَفٌ لاَ يُدَانِيهِ شَرَفٌ ، وَرِفْعَةٌ وَسُمُوٌّ وَعِزَّةٌ ، فَبِذَلِكَ فَضَّلَكَ اللهُ بِالعُبُودِيَّةِ عَلَى الأُمَمِ الكَافِرَةِ ، وَالعَقَائِدِ الضَّالَّةِ ، إِنَّهَا السَّعَادَةُ وَرَبِّ النَّاسِ ، ( الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) هَذِهِ العِبَادَةُ ، إِخْتَارَهَا اللهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ ، وَهُوَ يَجْزِي بِهَا ، فَالحَمْدُ للهِ ، وَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ، أَرَأَيْتُمْ أَنَّ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ عَظِيمَةٌ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فَالمَقْصُودُ مِنَ الصِّيَامِ أَيُّهاَ المُسْلِمُونَ ، هُوَ تَحْقِيقُ التَّقْوَى ، فِي نُفُوسِكُمْ وَفِي ذَوَاتِكُمْ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشرابَهُ)
أَيُّهاَ المُسْلِمُونَ : إِذَا كُسِرَتْ شَهْوَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالفَرْجِ بِالصِّيَامِ ، خَضَعَتْ جَرَّاءَهَا الشَّهَوَاتُ الأُخْرَى ، وَانْكَسَرَتْ وَتَدَاعَتْ وَاحِدَةً إِثْرَ وَاحِدَةٍ ،
رَمَضَانُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : مَدْرَسَةٌ لِكَبْحِ جِمَاحِ المَلَذَّاتِ ، وَمُسْتَشْفَى لِأَمْرَاضِ القُلُوبِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَشَهْرُ تَرَابُطٍ اْجْتِمَاعِيٍّ ، وَتَكَاتُفٍ أُسَرِيٍّ ، رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ عَظِيمَةٌ ، رَمَضَانُ مَعْهَدٌ كَبِيرٌ جِدَّا ، يَمْتَدُّ مِنْ شَرْقِ بِلَادِ الإِسْلاَمِ إِلَى غَرْبِهَا ، بَلْ يُغَطِّي سَائِرَ أَصْقَاعِ الأَرْضِ ، يَأْخُذُ فِيهِ المُسْلِمُونَ جَمِيعاً ، دَوْرَةً تَدْرِيبِيَّةً ، فِي رَفْعِ رُوحِ المَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ وَالتَّكَاتُفِ وَالتَّآلُفِ ، وَنَبْذِ الخُصُومَةِ وَالشَّحْنَاءِ وَالبَغْضَاءِ ، شَهْرٌ كَامِلٌ يُهَذِّبُ النُّفُوسَ ، وَيَرْفَعُ مَعَايِيرَ القُرْبِ مِنَ اللهِ ، شَهْرٌ كَامِلٌ يَتَدَرَّجُ فِيهِ الجُهْدُ كُلَّمَا تَدَرَّجَتْ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ ، كَانَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كُلَّمَا دَخَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرٌ ، دَخَلَ مَعَهاَ بِجُهْدٍ آخَرَ ، حَتَّى إِذَا دَخَلَتِ العَشْرُ الأَوَاخِرُ ، شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ ، وَاعْتَكَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَم ُ،
أَيُّهَا المُسْلِمُ الكَرِيمُ ، أَنْتَ قَلَبْتَ صَفْحَةً جَدِيدَةً فِي حَيَاتِكَ ، مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ ، وَكَانَ أَوَّلُ سَطْرٍ تَخُطُّهُ فِي هَذِهِ الصَّفْحَةِ ، هُوَ عَزِيمَتَكَ الصَّادِقَةَ ، وَإِيمَانَكَ وَاْحْتِسَابَكَ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاْحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيَماناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ( مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ) بِهَذَا ظَفَرْتَ بِالأَجْرِ وَرِضَى الرَّبِّ ، وَغَيَّرْتَ نَمَطَ حَيَاتِكَ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ ، وَأَصْبَحَتْ تِلْكَ المُعَوِّقَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّيْطَانُ طَوْدًا عَظِيماً ، أَصْبَحَتْ بِإِيمَانِكَ وَعَزِيمَتِكَ كَثِيباً مَهِيلاً ، فَهَا أَنْتَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيلَ ، وَتَمْتَلِكُ إِرَادَةً عَظِيمَةً ، تَسْتَطِيعُ بِهَا بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ أَنْ تُغَيِّرَ نَمَطَ حَيَاتِكَ كُلِّهاَ فِي رَمَضَانَ وَبَعْدَ رَمَضَانَ ، نَسْأَلُ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُعِينَنَا عَلَى تَغْيِيرِ حَيَاتِنَا وَسُلُوكِنَا ، وَأن يُقِيمَنَا بِمَا يُرْضِيهِ ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ حَتَّى نَلْقَاهُ ، وَلاَ بُدَّ ِلذَلِكَ مِنْ جُهْدٍ وَمُجَاهَدَةٍ لِلنَّفْسِ وَالهَوَى ، قَالَ تَعَالَى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ العَظِيمِ
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : لاَ تَزَالُونَ فِي هَذِهِ المَدْرَسَةِ العَظِيمَةِ رَمَضَانَ ، وَالكِتَابُ المُقَرَّرُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْرُسُوهُ وَتُذَاكِرُوهُ فِي هَذِهِ المَدْرَسَةِ ، هُوَ كِتَابُ اللهِ ، هُوَ القُرآنُ ، الذِي أُنْزِلَ فِي هَذَا الشَّهْرِ ، قَالَ تَعَالَى (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) فَاسْتَفِيدُوا مِنَ اللَّحَظَاتِ التِي تَجْلِسُونَهاَ مَعَ كِتَابِ اللهِ وَفِي بُيوتِ اللهِ ، أَطِيلُوا التَّأَمُّلَ فِي حَقِيقَةِ هَذِهِ الدُّنْيَا ، وَمَا بَعْدَهَا ، تَأَمَّلُوا الطَّرِيقَ الطَّوِيلَةَ التِي لاَ بُدَّ لِكلِّ وَاحِدٍ مِناَّ سُلُوكُهاَ ، تَأَمَّلُوا القَبْرَ وَمَا فِيهِ ، وَالحَشْرَ وَالحِسَابَ وَالصِّرَاطَ وَالأَهْوَالَ ، كُلُّ هَذِهِ حَقَائِقٌ وَسَتَرَوْنَها عَيَاناً قَالَ تَعَالَى ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ )، فِي كِتَابِ اللهِ القُرآنِ ، كُلُّ شَيءٍ تحَتَاجُهُ فِي حَيَاتِكَ ، وَفِي طَرِيقِكَ إِلَى اللهِ ، كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَاجُهُ لِإصْلاَحِ نَفْسِكَ ، وَتَغْيِيرِ حَيَاتِكَ ، كُلُّ آيةٍ فِيهِ تُخَاطِبُكَ ، آيةٌ تَحَثُّكَ وَآيةٌ تُحَذِّرُكَ ، آيَةٌ تَأْمُرُكَ وَأُخْرَى تَنْهَاكَ ، سُورَةٌ تَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ ، وَسُورَةٌ تَعِظُكَ ، هَذَا كِتَابُكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، لاَزِمْ هَذَا الكِتَابَ الكَرِيمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَاجِعَلِ هَذَا الشَّهْرَ فُرْصَةً لِتَدَبُّرِ آياتِهِ ،
صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَيْهِ ، صَلُّوا عَلَى البَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ نَبِيِّكُم مُحَمَّدٍ المُصْطَفَى وَرَسُولِكُم المُجْتَبَى، فَقَدْ أَمَرَكُم بِذَلِكَ رَبُّكُمْ جَلَّ وَعَلَا فَقَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ قَوْلاً كَرِيماً: ( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً )
المفضلات