خطبة جمعة
بعنوان
( وعاء العقيدة )
7/8/1440 هـ
كتبها / عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ، الذِي أَمَرَ العِبَادَ بِاليقين والتوحيد ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ القائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) ( الأحزاب )
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ : رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ ( يَا مُقَلِّبَ القُلُوبَ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ) ، قَالَ أَنَسٌ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ آمَنَّا بِكَ ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، ( إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ إِصْبِعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا )[رواه الترمذي وأحمد، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح
عِبَادَ اللهِ : تَأَمَّلُوا الفَرْقَ بَيْنَ الِإيمَانِ وَالكُفْرِ وَبَيْنَ اليَقِينِ وَالرَّيْبِ ، أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ فِي نَفْسِ اللَّيْلَةِ ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشاً بِهَذاَ الخَبَرِ ، فَنَادَى أَبُو جَهْلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ ، يَامَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَادَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَضَجَّ الجَمْعُ تَكْذِيباً وَاسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً ، فَإِذَا بِهِمْ بِالصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ ، شَطْرِ إِيمَانِ الأُمَّةِ ، فَقَالُوا لَهُ الخَبَرَ ، فَقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، أَوَقَالَ ذَلِكَ ؟ قَالُوا نَعَمْ ، قَالَ لَقَدْ صَدَقَ ، فَلَقَدْ صَدَّقْتُهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَّقْتُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ ، قَالَ تَعَالَى مُثْنِياً عَلَيْهِ (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )(33) ( الزمر ) .
وَجَارِيَةٌ ، جَاءَتْ فِي السَّبْيِ ، جَارِيَةٌ حَبَشِيَّةٌ ، لاَ تَنْطِقُ العَرَبِيَّةَ ، وَلَمْ تَدْخُلْ جَامِعَةً وَلَا كُلِّيَةً ، وَلَمْ تَدْرُسْ الطَّحَاوِيَّةَ وَلاَ الوَاسِطِيَّةَ ، جَارِيَةٌ بِفِطْرَةِ اللهِ التِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا يَسْأَلُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَيْنَ رَبُّكِ ؟ فَتُشِيرُ بِإِصْبِعِهَا إِلَى السَّمَاءِ ، بِإِشَارَةٍ فَقَطْ ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ، إِشَارَةٌ عَنْ أَلْفِ عِبَارَةٍ ، بَلْ خَيْرٌ مِنْ كُتُبٍ وَمُجَلَّدَاتٍ يَكْتُبُهاَ أَهْلُ الشُّكُوكِ وَالظُّنُونِ البَاطِلَةِ . وهَذَا المُشْرِكُ الكَافِرُ ، العَاصُ بْنُ وَائِلَ ، يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعَهُ عَظْمٌ بَالٍ ، يَفُتُّهُ وَيَنْفُخُهُ أَمَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ ، يَامُحَمَّدُ ، أَتَزْعُمُ أَنَّ رَبَّكَ يُعِيدُ هَذِهِ العِظَامَ بَعْدَ أَنْ يُمِيتَهَا ، فَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ، نَعَمْ يُمِيتُكَ اللهُ ، ثُمَّ يَبْعَثُكَ ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ ( أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ . أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ . إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يّـس:79 - 83)
أَيُّهَا النَّاسُ : لَقَدْ تَحَقَّقَتْ عَظَمَةُ اللهِ ، وَخَشْيَةُ اللهِ ، وَحُبُّ اللهِ ، وَالعُبُودِيَّةُ الخاَلِصَةُ فِي قُلُوبِ بَعْضِ النَّاسِ ، وَلَمْ تَتَحَقَّقُ فِي قُلُوبِ الآخَرِينَ ، لَقَدْ تَحَقَّقَتْ فِي كَثِيرٍ مِنْ المُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، أَسْمَى مَعَانِي الإِيمَانِ ، بَلْ تَجَاوَزُوا حَدَّ الإِيمَانِ ، فَبَلَغُوا الإِحْسَانَ ، وَهُوَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ،
عِبَادَ اللهِ : وَفِي هَذَا الزَّمَانِ ، كَمْ تَحَقَّقَ فِي بَعْضِ القُلُوبِ مِنْ تَوحِيدٍ للهِ وَعُبُودِيَّةٍ ، وَكَمْ حَمَلَ بَعْضُهَا مِنْ شِرْكٍ وَنِفَاقٍ وَوَثَنِيَّةٍ ، فَارْتَفَعَتْ بِالقُلُوبِ هَامَاتٌ ، حِينَمَا أَخْلَصَتْ لِرَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ، وَكَمْ نُكِّسَتْ مِنْ رُؤُوسٍ ، وَامْتُحِنَتْ مِنْ نُفُوسٍ ، يَوْمَ أَنْ غَرِقَتْ فِي الشُّبُهَاتِ ، وَسَاخَتْ فِي أَوْحَالِ الشُّكُوكِ ، كَمْ نَجَى مِنْ أُنَاسٍ ، وَكَمْ هَلَكَ آخَرُونَ ، كَمْ تَعَلَّقَتْ قُلُوبٌ بِرَبِّهَا ، وَلاَذَتْ بِخَالِقِهاَ ، وَأَنَاخَتْ رَكَائِبَ الحَاجَةِ ، وَنَجَائِبَ الإِضْطِرَارِ ، بِباَبِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ، ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (النمل:62) (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186) تَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَلاَ تَرَى بَيْنَهُمَا فَرْقاً فِي الظَّاهِرِ ، وَبَيْنَهُمَا فِي البَاطِنِ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِمَا أَوْعَتْهُ تِلْكَ القُلُوبُ ، فصَرَفَ أُنَاسٌ جَرَّاءَ ذَلِكَ ، العِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ ، وَالخَوْفَ وَالرَّجَاءَ ، وَالتَّوَكُّلَ وَالِإنَابَةَ ، وَالإِسْتِغَاثَةَ وَالإِسْتِعَاذَةَ ، لِغَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وأَنْزَلَ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ ، حَاجَاتِهِمْ بِأَرْبَابِ الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ ، وَعَاذُوا بِالقُبُورِ المُظْلِمَةِ ،وَالأَجْدَاثِ الأَرِمَةِ ، وَبَعْضُهُم لَجَؤوا إِلَى السَّحَرَةِ وَالكَهَنَةِ وَالعَرَّافِينَ ، وَالمُنَجِّمِينَ وَالمُشَعْوِذِينَ ، وَتَرَكُوا المُدَبِّرَ القَرِيبَ المُجِيبَ ، الرَّؤُوفَ الرَّحِيمَ ، الغَفُورَ الوَدُودَ ، صَرَفُوا وُجُوهَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ اللهِ ، فَصَرَفَ اللهُ قُلَوبَهُمْ عَنْ الهُدَى وَاليَقِينِ ، وَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطاَنِ الرَّجيمِ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف: من الآية5) ،
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُم بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ. أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ فَاسْتَغْفِرُوا اللهَ يَغْفِرْ لِي وَلَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الإِسْلَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الذِي هَدَانَا وَشَرَحَ صُدُورَنَا بِالإِيمَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ أَتَمَّ البَلاَغِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ الشُّكُوكَ تَهْدِمُ صُلْبَ الإِعْتِقاَدِ ، وَتُدَمِّرُ مَبَانِي الشَّرِيعَةِ ، فَهِيَ أَنْفَاقٌ مُظْلِمَةٌ تُولِجُ صَاحِبَهاَ إِلَى مَهَاوِي الشِّرْكِ وَالضَّلاَلِ ، وَأَوَّلُ آيةٍ فِي سُورَةِ البَقَرَةِ بَعْدَ ( الَم ) قَوْلُهُ تَعَالَى ( ذَلِكَ الكِتاَبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَى لِلْمُتَّقِينَ ) وَلَمَّا ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ المُنَافِقِينَ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِمْ الشُّكُوكَ وَالتَّذَبْذُبَ قَالَ تَعَالَى (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) التوبة (45) وَقَالَ تَعَالَى (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ) النساء (143)
نَسْأَلُ اللهَ عَبِادَ اللهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْ قُلُوبِنَا الرَّيْبَ وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ المُؤْمِنِينَ المُوقِنِينَ ، هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِكُمْ مُحَمَّدٍ فَقَدْ أَمَرَكُمْ اللهُ بِذَلِكَ فَقَاَلَ جَلَّ وَعَلاَ ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: ٥٦].
المفضلات