الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ», قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ, فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ, لَا إِثْمَ فِيهِ, وَلَا بَغْيَ, وَلَا غِلَّ, وَلَا حَسَدَ».
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ يُبَيِّنُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلصَّحَابَةِ خُصُوصًا وَلأُمَّتِهِ عُمُومًا: مَنْ هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ؟ لَيْسَ أَفْضَلَهُمْ جَاهًا أَوْ مَنْصِبًا أَوْ مَالاً، وَإِنَّمَا مَنْ حَمَلَ قَلْبًا سَلِيمًا كُلُّهُ تُقًى ونَقَاءٌ وَبُعْدٌ عَنْ كُلِّ غِلٍّ وَحَسَدٍ.
فَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ: أَنْ يَحْمِلَ الْمُسْلِمُ هَذَا الْقَلْبَ النَّقِيَّ الصَّافِي فِي الْعَقِيدَةِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وَلِذَلِكَ فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَّا يُوغِرُ الصُّدُورَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْفُرْقَةِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَسَلاَمَةُ الصَّدْرِ خُلُقٌ جَمِيلٌ, وَخَصْلةٌ حَمِيدَةٌ, بَلْ نِعْمَةٌ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي تُوهَبُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ حِينَمَا يَدْخُلُونَهَا،كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} وَالْمُسْلِمُ النَّاصِحُ هُوَ الَّذِي يَتَفَقَّدُ قَلْبَهُ وَيَسْعَى لإِصْلاَحِهِ بِفِعْلِ أَسْبَابِ سَلاَمَتِهِ مِنْ كُلِّ غِلٍّ وَحَسَدٍ، وَالَّتِي مِنْهَا:
صِدْقُ التَّوَجُّهِ للهِ تَعَالَى، وَإِخْلَاصُ الْعَمَلِ لَهُ، وَسُلُوكُ مَنْهَجِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
فَكُلُّ صَاحِبِ عَقِيدَةٍ سَلِيمَةٍ، وَمَنْهَجٍ مُعْتَدِلٍ، يَحْمِلُ سَلاَمَةً فِي صَدْرِهِ مِنْ كُلِّ غِلٍّ أَوْ حَسَدٍ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِمَّنِ انْحَرَفَ عَنْ مَنْهَجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَحَابَتِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو قَلْبُهُ مِنْ غِلٍّ أَوْ حَسَدٍ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِذَلِكَ مِنْ سِمَاتِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ؛ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ غِلٍّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلاَّ غَلَّ صَدْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ».
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: التَّعَلُّقُ بِالآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الاِغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَّعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا، وَالإِكْثَارُ مِنَ النَّوَافِلِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: تِلاَوَةُ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرهُ؛ فَهُوَ دَوَاءٌ لِكُلِّ دَاءٍ، وَشِفَاءٌ تَامٌّ مِنْ جَمِيعِ الأَدْوَاءِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِلُ مِنَ القُرءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسَارًا}.
وَمِنْ أَسْبَابِ سَلاَمَةِ الصَّدْرِ: إِفْشَاءُ السَّلاَمِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَتَفَقَّدُوا أَحْوَالَكُمْ مَعَ إِخْوَانِكُمْ، وَاسْعَوْا فِي صَلاَحِ قُلُوبِكُمْ؛ فَإِنَّ صَلاَحَ الْعَمَلِ مُرْتَبِطٌ بِصَلاَحِ الْقَلْبِ، وَفَسَادَهُ مُرْتَبِطٌ بِفَسَادِهِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سَلاَمَةُ الصَّدْرِ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ؛ إِذْ هِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ ٱلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} فَائْتِلاَفُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَسَلاَمَةُ الصَّدْرِ سَبَبٌ فِي قَبُولِ الأَعْمَالِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا».
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ قُلُوبًا نَقِيَّةً تَقِيَّةً تُحِبُّ وَتُبْغِضُ، وَتُوَالِي وَتُعَادِي فِيكَ، اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
المفضلات