الخطبة الثانية : من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أعزَّنا بالإسلام، واختاره لنا دينًا، أحمده حمدًا يوافي نِعمَه ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله، حدَّ حدودًا فلا تَعْتدوها، وحرَّم أشياء فلا تَنتهِكوها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا إلى الكسب الحلال وبيَّن لنا طريقه، وأكَّد أن كلَّ جسد نبت من سُحْت فالنار أولى به، صلى الله وسلم عليه وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين التزموا بهديه، وأقاموا سُنَّته، واتَّبعوا طريقتَه، وعمِلوا لدنياهم كما عمِلوا لآخرتهم، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أما بعد عباد الله ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم ، وقد أخبر بذلك المولى سبحانه مادحاً وواصفاً خُلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال ( وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ )) القلم4 قالت السيدة عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : ( كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
فهذه الكلمة العظيمة من زوجة النبي ترشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي اتباع القرآن ، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي ، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن. .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً .... فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل.أ.هـ
عن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا) - رواه البخاري ، ذلك هو الحبيب المصطفى كما وردت صفاته في التوراة ورغم ذلك فاليهود يجحدون ولا يؤمنون.
أيها المسلمون ، إنّ حسن الخلق يكون مع الله ، ويكون مع عباد الله ، فأما حسن الخلق مع الله فأن تتلقى أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم ، وأن لا يكون في نفسك حرج منها ولا تضيق بها ذرعا ، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنك تقابل هذا بصدر منشرح.
أما حسن الخلق مع الناس فهو كف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه وغيره.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق" - رواه أبو داود والنسائي
أما كلامه فكان إذا تكلم تكلم بكلام فَصْلٍ مبين، يعده العاد ليس بسريع لا يُحفظ ، ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع، بل هديه فيه أكمل الهديِّ ،كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يتحفظه من جلس إليه) متفق عليه
وكان عليه الصلاة والسلام لا يتكلم فيما لا يَعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كرِه الشيء‏:‏ عُرِفَ في وجهه .
أمّا عن أخلاقه مع صحابته الأجلاّء رضوان الله عليهم أجمعين، فيكفينا قصّته مع الصّحابي المسمّى ثعلبة، كان ثعلبة رضي الله عنه يخدم النبي في جميع شؤونه ، وذات يوم بعثه رسول الله في حاجة له فمرّ بباب رجل من الأنصار فرأى امرأة تغتسل وأطال النظر إليها فأخذته الرهبة وخاف أن ينزل الوحي على رسول الله بما صنع فلم يعد إلى النبي ،بل هرب ودخل جبالا بين مكة والمدينة ومكث فيها قرابة أربعين يوماً... فنزل جبريل عليه السّلام على النبي وقال : "يا محمد ، إن ربك يقرئك السلام ويقول لك أن رجلاً من أمتك بين حفرة في الجبال متعوّذ بي" .
فقال النبي لعمر بن الخطاب وسلمان الفارسي : انطلقا فأتياني بثعلبة
ولما رجعا به قالا : هو ذا يا رسول الله ؟
فقال له : ما غيّبك عني يا ثعلبة ؟
قال : ذنبي يا رسول الله
قال : أفلا أدلّك على آية تمحو الذنوب والخطايا ؟
قال : بلى يا رسول الله .
قال : قل (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)
قال ثعلبة: ذنبي أعظم
قال رسول الله : "بل كلام الله أعظم.."
ثم أمره بالانصراف إلى منزله فمرّ من ثعلبة ثمانية أيام
فقال رسول الله : فقوموا بنا إليه ، ودخل عليه الرسول فوضع رأس ثعلبة في حجره لكن سرعان ما أزال ثعلبة رأسه من على حجر النبي
فقال له : لمَ أزلت رأسك عن حجري ؟
فقال : لأنه ملآن بالذنوب .
قال رسول الله ما تشتكي ؟
قال : مثل دبيب النمل بين عظمي ولحمي وجلدي .
قال الرسول الكريم : ما تشتهي؟
قال : مغفرة ربي ،
فنزل جبريل عليه السّلام فقال :" يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك لو أن عبدي هذا لقيني بقراب الأرض خطايا للقيته بقرابها مغفرة".. فأعلمه النبي بذلك ، فصاح ثعلبة صيحة بعدها مات على أثرها .
فأمر النبي بغسله وكفنه فلما صلّى عليه الرسول جعل يمشي على أطراف أنامله.
فلما انتهى الدفن قيل لرسول الله : يا رسول الله رأيناك تمشي على أطراف أناملك ؟
قال الرسول :" والذي بعثني بالحق نبياً، ما قدرت أن أضع قدمي على الأرض من كثرة ما نزل من الملائكة لتشييع ثعلبه " ..
سبحان الله العظيم..ما أعظم المولى وما أعظم سماحة رسول الله ، رغم ذنوب ثعلبة فإنّ الله فتح له أبواب المغفرة وتغمّده بواسع رحمته..وذلك مصداق قوله تعالى :
(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرّحيم)- الزمر 23
عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال لا أحدّثكم إلا عن نبيّ مرسل أو كتاب منْزل، إنّ عبدا لو أذنب كلّ ذنب ثمّ تاب إلى الله قبل موته بيوم قُبِل منه) رواه خرشة بن الحرّ ورجال الحديث ثقات.
أمّا عن تواضعه فحدّث ولا حرج، فقد كان يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
وكان سيد المتواضعين ، يتخلق ويتمثل بقوله تعالى: (( تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ )) [ القصص 83 ].
فكان أبعد الناس عن الكِبر ، كيف لا وهو الذي يقول : (لا تُطْروني كما أطْرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
كيف لا وهو الذي كان يقول : (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد) رواه أبو يعلى وحسنه الألباني.
كيف لا وهو القائل بأبي هو وأمي (لو أُهدي إليَّ كراعٌ لقبلتُ ولو دُعيت عليه لأجبت) رواه الترمذي وصححه الألباني.
كيف لا وهو الذي كان يحذّر من الكبر أيّما تحذير فقال : ( لا يدخل في الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر) رواه مسلم
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيب الدعوة ولو إلى خبز الشعير ويقبل الهدية.
نسأل اهيه الغفور الرحيم أن يجعلنا من عتقاء النار بشفاعة النبيّ المختار ، كما نسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة إنه سميع قريب مجيب ولا حول ولا قوّة إلا باله العلي العظيم.