خطبة الجمعة: تلاقي الأرواح في البرزخ ومعرفتهم لأحوال الأحياء

الحمد لله الذي هَدانا بالكتاب والسُنّة، وأخذَ عَلَينا ميثاقَ الاقْتِداء بما فَعَلَه رسولُ اللهِ و سَنَّهُ، وأحلّنا بإتّباع أعْلَم العالِمين مَحلاّ مُنيفًا، وشَرّفَنا باتِّباع سنّته تشريفًا، نَحمده تعالى ونشكره ونستعينه سبحانه ونستغفره، أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، ارتضى لنا الإسلام دينًا، وبعثَ فينا رسولاً أمينًا، وأشهد أنَّ سيّدَنا ومَولانا وحبَيبَنا محمدًا أشرفُ العالمين.
اللّهم صلّ وسلم وبَارك على هذا النّبي الزكيِّ، أطهرِ الخَلق وأعْظَمِهم أجمعين.
أما بعد عباد الله، فسنعرض في هذه الخطبة الثانية بإذن الله تعالى لمسألة فقهيّة أراد بعض الإخوة من خلالها معرفة " هل تتلاقى الأرواح في البرزخ أم لا ؟" مع بيان الأدلّة الشرعيّة في ذلك، فنقول والله وليّ التوفيق:
ففي صحيح مسلم (943 ) عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله (إذا كَفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) .
عن أبي الزبير عن جابر قال ، قال رسول الله :
(أحسنوا كفن موتاكم فإنهم يتباهون ويتزاورون بها في قبورهم)أورده الألباني.
وروى ابن المبارك في الزهد ( 149) عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال :
إذا قبضت نفس العبد تلقاه أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير في الدنيا فيقبلون عليه ليسألوه فيقول بعضهم لبعض أنظروا أخاكم حتى يستريح فإنه كان في كرب فيقبلون عليه فيسألونه : ما فعل فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟ هل تزوجت ؟ فإذا سألوا عن الرجل قد مات قبله قال لهم إنه قد هلك ، فيقولون إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية ، قال فيعرض عليهم أعمالهم [ أي أعمال أهل الدنيا ] فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا وقالوا هذه نعمتك على عبدك فأتمها وإن رأوا سوءا قالوا اللهم راجع بعبدك .
ورواه ابن أبي الدنيا مرفوعا.
عباد الله ، إن الأرواح قسمان : أرواح معذبة ، وأرواح منعَّمة ؛ فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي ، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا ، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها ، وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى ، قال الله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) وهذه المعية ثابتة في الدنيا ، وفي دار البرزخ.
وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة ، قد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن ، وقد تفترق مع تقارب المدافن ، يدفن المؤمن عند الكافر ، وروح هذا في الجنة ، وروح هذا في النار ، والرجلان يكونان جالسيْن أو نائميْن في موضعٍ واحدٍ وقلبُ هذا ينعَّم ، وقلب هذا يعذَّب ، وليس بين الروحيْن اتصال ، فالأرواح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " رواه مسلم (2638). ) " مجموع الفتاوى " ( 24 / 368 ) .
وأما علم الميت بالحي إذا زاره وسلم عليه.. ففي حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه، ورد عليه السلام ـ قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه عبد الحق صاحب الأحكام و اسناده صحيح.
عباد الله، من الأدلّة على أنّ الموتى يسمعهم الله إذا شاء كلام أهل الدنيا ما ثبت عن رسول الله أنّه يستحب للمسلم إذا زار المقبرة أن يسلم على أهل القبور ويدعو لهم بما كان يعلمه أصحابه، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله : كيف أقول لهم - ( يعني أهل القبور ) - قال : قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) رواه مسلم 974 .
وهذا دليل على أنّ رسول الله يعلم أنّهم يسمعون ولو لا ذلك لما قال ذلكم الدعاء،
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن أبي طلحة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوي[2] من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم، أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدت عليها رحلها، ثم مشى، واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي[3] فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم(فنادى يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام.
فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ ويقول الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ [النمل: 80]. فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم لكن لا يستطيعون أن يجيبوا".
نسأل الله القريب المجيب أن يرحم موتانا وأن يتقبّلهم في فردوسه الأعلى وأن يلحقنا بهم وهو عنّا راض ببركة رسول الله .