خطبة عن الرفق
كتبها / عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخُطْبَةُ الأُولَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ ربِّ العالمينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ سيدَنَا ونبيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى سيدِنَا محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ
أَمَّا بعدُ أيهاَ المسلمونَ : فأُوصيكُمْ ونفسِي بتقوَى اللهِ جلَّ وعلاَ ، امتثالاً لقولِهِ
تعالَى ( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ )
أما بعدُ أيهَا المسلمونَ : كلما سمَتْ في الناسِ مكارمُ الأخلاقِ ، سموا في الألفةِ والمحبةِ ، وكلما ارتقوا في طِباقِ المحاسنِ ورِفَ ظلالُهم وتحققت آمالُهم وبهى حُسنُهم وجمالُهم ، كلما تآلفوا وترافقوا ، كلما تقاربوا وتوافقوا ، وزادتْ فيهم الخيراتُ ، واضمحلتْ في أوساطِهم النزاعاتُ والخلافاتُ ، فأيُّ حياةٍ تلكَ التي سرَّتْ ناظِرِيها ، وهُم في جفوةٍ فيها ، وأيُّ سعادةٍ أحاطتْ بهم ، وأيُّ خيرٍ عمَّهم ، وهم في شقاقٍ ونزاعٍ وخلافٍ وقراعٍ .
ألاَ نظَّرَ اللهُ من دعى للألفةِ وحرِصَ على الشفقةِ ، ألا رعى اللهُ قلوباً رعتْ مشاعرَ الناسِ ، فإنَّ مشاعرَ المؤمنينَ إذا تمازجتْ بالألفةِ ، على فيها الخيرُ على الشرِّ ، وطغى فيها الصدقُ على الكذبِ ، وظهرَ فيها الحقُّ على الباطلِ ، فحقَّ الحقُّ وزهقَ الباطلُ إن الباطلَ كانَ زهوقا .
هنالكَ في الحياةِ مخرجاتٌ مطلوبةٌ لتستقيمَ بها الحياةُ ، لكنها تحتاجُ إلى مدخلاتٍ ، والأصلُ ياعبادَ اللهِ في المؤمنينَ ، وفي أصحابِ الفِطَرِ السليمةِ هو الخيرُ والفضيلةُ ، فكم من المتآلفينَ المتوافقينَ المتوادينَ المتراحمينَ ، الذين ما احتواهُم صلبٌ ولا رَحِمٌ ، ولا مُستقرٌ ولا مستودعٌ ، وكم في المقابلِ من التوائمِ الذين تفرقوا غلظةً وجفاءً ، فالحديثُ عن الرفقِ شيقٌ وجميلٌ وممتعٌ وسلسبيلٌ ، فهو محطُّ حاجةِ الناسِ جميعاً ، ومورِدُ سقائِهِم ، يُدلِي من معينِه الصافي الرعاةُ والمسؤلونَ والآباءُ والمربونَ ، والدعاةُ والموجهونَ ، والأساتذةُ والمعلمونَ ، والعلماءُ والمرشدونَ ، ، لأنَّ (الرفقَ ما يكونُ في شيءٍ إلا زانَه وما يُنزعُ من شيءٍ إلا شانَه ) كما قالَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلم ، الرفقُ صفةٌ عذبةُ المذاقِ طيبةُ الرائحةِ ، إصطفى اللهُ المصطفى لها ، ورحمَ اللهُ العبادَ بها ، فقالَ سبحانَه ( فبما رحمةٍ من اللهِ لنتَ لهم ولو كُنتَ فظا غليظَ القلبِ لانفضوا من حولِك ) ، بمحمدِ بنِ عبدِاللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، أرادَ اللهُ بفضلِهِ ومنتِهِ ، أنْ يمُنَّ على البشريَّةِ ، برجُلٍ يمسحُ آلامَهُم ، ويخففُ أحزانَهُم ، ويبذلُ ما وسِعَهُ في سبيلِ هدايتِهِم ، حتى قالَ اللهُ له ( فلعلكَ باخعٌ نفسَك على آثارِهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديثِ أسفاً ) صلى اللهُ وسلمَ على هذا النبيِّ الأميِّ ، ( لقد جاءَكم رسولٌ من أنفُسِكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيمٌ ) يناصرُ الضعيفَ ، ويهذبُ القويَّ ، ويردُّ الظالمَ ، وينصرُ المظلومَ ، ويعلمُ الجاهلَ ، ويصبرُ على الأذى ، ويحلمُ على الجافي ، ويعينُ الملهوفَ ، ويطعمُ الجائعَ ، همُّهُ أنْ يَرَى العبدَ سليمَ العقيدةِ ، نقيَّ السريرةِ ، صالحاً مستقيماً ، فسبحانَ من سكبَ في قلبِهِ الحكمةَ والإيمانَ ، وفي خُلُقِهِ البرَّ والإحسانَ ، حتى قالَ عنهُ ربُّهُ وخالقُهُ ( وإنكَ لعلى خُلقٍ عظيمٍ ) هذا هو نبيُّكُم أيها المسلمونَ ، فأرُونا مِنْ أنفسِكُم صدقَ الإقتداءِ بسنتِهِ وجمالَ التأسي بسيرتِه ، يقولُ النبيُّ الكريمُ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ( إنَّ اللهَ رفيقٌ يحبُّ الرفقَ ، ويُعطي على الرفقِ مالا يُعطي على العُنفِ ومالا يُعطي على سواه ) رواه مسلم .
فيا أيها الناسُ جميعاً كلٌّ على حسبِ مسؤوليتِهِ : إنَّ الناسَ صغيرَهُم وكبيرَهُم بحاجةٍ إلى كَنَفٍ رفيقٍ ، وقلبٍ شفيقٍ ، ورعايةٍ حانيةٍ ، وبشاشةٍ دانيةٍ ، الناسُ بحاجةٍ إلى وُدٍّ يسعُهُم ، وحُلمٍ لا يضيقُ بجهلِهِم ، وحكمةٍ تحيقُ بضعفِهم ، ومكارمِ أخلاقٍ تغمرُ قلوبَهُم بالإحسانِ ، بحاجةٍ إلى منْ يُعطي ولا يَسألُ عن عطاءٍ ، ومن يُواسي ولا ينتظرُ ثمنَ مواساة ، فواللهِ إنَّ الصدقةَ بالمعروفِ والإحسانِ وطيبِ المقالِ ، أنفعُ للناسِ من المالِ في كثيرٍ من الأحوالِ
الرفقُ أيها المسلمون : ذو مجالاتٍ واسعةٍ ، ومآلاتٍ شاسعةٍ ، وطرقٍ كثيرةٍ ، وقصصٍ مثيرةٍ ، دخلَ أعرابيٌّ فبالَ في مسجدِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، فهبَّ الصحابةُ يزرمونهُ بأعيُنِهم وأفواهِهِم ، فاستوقفَهُم سيدُ الرفقِ وإمامُ الرحمةِ ، ليزرعَ في سلوكِهم درساً لن يبرحَ طِباقَ حياتِهم ، فقالَ لهم المعلمُ والمؤدبُ ، دعوهُ حتى يفرغَ من بولِهِ ثم أهريقوا على بولِهِ ذنوباً من ماءٍ ، وبعدماَ فرغَ ناداهُ وعلَّمَهُ آدابَ المسجدِ والصلاةِ ، وأعرابيٌّ آخرُ جبذَ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ جبذةً شديدةً وكانَ عليهِ بُردٌ نجرانيٌّ أثَّرَ في صفحةِ عُنُقِهِ عليه السلام ، فقالَ لهُ الأعرابيُّ : يا محمدُ أعطني من مالِ اللهِ الذي عندَكَ ، فالتفتَ إليه كالبدرِ المنيرِ ضاحكاً متبسماً صلى اللهُ عليهِ وسلمَ وقالَ له أبشرْ ثم أمرَ لهُ بعطاء ، ولما بَعثَ مُعاذاً وأبا موسى إلى اليمنِ قال ( بشِّروا ولا تنفِّروا ، يسِّروا ولا تعسِّروا ) وقالَ في دُعائِه وما أعظمَ دعاءَه ( اللهمَّ من وَلِي من أمرِ أمتي أمراً فرفِقَ بهم فارفِقْ بهِ ، ومن وَلِيَ من أمرِ أمتي أمراً فشَقَّ عليهم فاشقُقْ عليه ) هذا هو هديُ نبيِّكم وأمرُهُ ونهيُهُ ، فاتقوا اللهَ جميعاً أيها المؤمنونَ لعلكم تُرحمون ، فالأمةُ لا تزالُ بخيرٍ ما دام بها الأخيارُ أمثالُكم ، أيها المعلمونَ والموظفونَ والمسؤلونَ والآباءُ والمربونَ ، إرفِقُوا بمن هم تحتَ أيديكُم ، إرحموا ضعفَهم ، واقضوا أوطارَهم ، وأنجزوا حقوقَهم ، فإنكم محاسبونَ على الإساءةِ ، مأجورونَ على الإحسانِ ، عندَ ملِكٍ عزيزٍ حكيمٍ بأمرِهِ يُنصبُ الميزانُ يومَ القيامةِ قالَ تعالى ( ونضعُ الموازينَ القسطَ ليومِ القيامةِ فلا تُظلمُ نفسٌ شيئاً وإن كانَ مثقالَ حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين )
بارك الله لنا ولكم في القرآن العظيم
الثانية
أيها المسلمونَ : الرفقُ سمةٌ من سماتِ الخيرِ والإيمانِ ، وعلامةٌ من علاماتِ توفيقِ اللهِ لعبدِهِ ، ولم يقتصرْ ذلكَ على الناسِ ، إنما حتى في البهائمِ وغيرِها مما يحتاجُ إلى الرفقِ والإحسانِ فقدْ غفرَ اللهُ لرجلٍ وشكرَ لهُ في كلبٍ يلهثُ عطشاً ، سقاهُ بخفِّهِ ماءً من البئرِ كما ورد في الصحيحينِ من حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ ووردَ عنهُ مرفوعاً حديثُ المرأةِ البغيِّ من بغايا بني إسرائيلَ أنها سقتْ كلباً كادَ يقتلُهُ العطشُ فغفرَ اللهُ لها ، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ ( في كلِّ ذي كبدٍ رطبةٍ أجرٌ )
نسألُ الله أن يجعلناَ وإياكم من أهلِ الرفقِ والإحسانِ ، وصلوا وسلموا على إمام الرفقِ والأخلاقِ ، كما أمرَكُم بذلكَ العليمُ الخلاقُ . اللهم صل وسلم على محمد
المفضلات