الخطبة الأولى
إنّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنْفُسِنا وسيئاتِ أعْمالِنا، منَ يهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ،ومنْ يُضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشْهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ محمداً عبْدُهُ ورسولُهُ صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحْبهِ وسلّمَ تسْليماً كثيراً ، أمّا بَعَدُ : أيُّها النّاس / أُوِصيكُمْ وَنَفْسِيِ بِتَقْوَى اللهِ عزَّ وجلَّ فِي السِّرِّ وَالْعَلنِ، والإِخْلاصِ لَهُ فِي الْقَوْلِ والْعَمَلِ ، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))
عبادَ الله / يعيشُ الإنسانُ في حياته وبعد مماته في ثلاثٍ من أنواع الحياة ؛ الحياةِ الدنيا ،وحياةِ البرزخ ،والحياةِ الآخرة ؛فالحياةُ الدنيا هي مزرعةٌ للآخرة ،وحياةُ البرزخِ هي التي تسبقُ الحياةَ الآخرة ، والتي تبدأُ بقبْض الرُّوحِ والعروجِ بها، ثُمّ إلى القبرِ وأحوالِهِ وأهوالهِ الْمُتَضَمّنَةِ لِضمة القبرِ وسؤالِ الملكينِ الذي يتحددُ به مصيرُ المرء، ويُفْسحُ له في قبره إنْ كان منَ الصالحين، ويُضيّقُ ويشتعلُ عليه إنْ كان من الطالحينَ, ويُعْرضُ عليه مقعدُهُ في الجنة ومقعدهُ في النّار، فَيسْتبشرُ الصالحُ, ويزدادُ الطالحُ غماً على غم, ويبقى الْمُنعّمُ منعماً والمعذبُ معذباً إلى يوم يُبعثون ، وقد وصف اللهُ تعالى الدّنيا بأوصافٍ مُتعددةٍ ؛ فوصفها بأنّها متاعٌ فقال ((ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) وبأنها عَرَضٌ فقال ((تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) وأنها زينةٌ ((تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) وأنها زهرةٌ ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) وأنها حَرْثٌ ((وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ )) وهذه الأوصافُ وغيرُها تدورُ حولَ معنىً واحدٍ، وهو ما أوْدَعَهُ اللهُ في هذه الدنيا مِنْ مُغْرِياتٍ ومَسرّاتٍ ومفاتِنَ؛ ابتلاءً للعباد، واختباراً لهم؛ لِيَسْتَبِينَ الصّالحُ من الطالح، ويتضحُ أمْرُ طالبِ الآخرةِ منْ طالبِ الدُّنيا، فالدُّنيا بِمَباهِجِها ومفاتنِها تبْدُو حُلوةً جميلة، كالنباتِ الأخْضر، لكنّ سُرعانَ ما تَغْدو حُطاماً لا قيمةَ لها ولا وزْن، كَحالِ الزّرع حينَ يَذْبُلُ وَيَصْفَرُّ ، واللهُ تعالى أيْضا يُحذّرُ الناسَ عُموماً، والمؤمنينَ خُصوصاً منْ مَغَبّاتِ هذه الدّارِ الفانية، فَيقولُ ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ )) ؛ إذْ أنَّ منْ طبيعةِ هذه الدارِ أنْ تَغُرَّ منْ فيها بمتاعِها وشهواتِها وملذّاتها، ومنْ طبيعة النّفس الْبشريّةِ الميلِ لهذه الأمورِ والتّشَوّفِ إلى الأخْذ منْها.
واللهُ تعالى يذمُّ من يُــؤْثِـرُ الدنيا الفانيةَ العارضةَ، على الآخرة الباقيةِ الخالدةِ، فَيقولُ سُبْحَانه: ((إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))
ويُـخْبِرُ سُبحانَهُ عنْ مصيرِ الطُّغاةِ الّذينَ آثروا الحياةَ الدُّنيا عن الآخرة فيقولُ : ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى )) ووصف سبحانه السوادَ الأعْظمَ من عبادهِ بأنّهم يؤثرون الحياةَ الدنيا على الآخرة، فيقولُ : ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ))
واللهُ تعالى يُقَرّرُ بِكُلِّ وضوحٍ وقوةٍ وصراحةٍ قِصَرَ هذه الحياةِ الدنيا وتفاهتِها، وتضاؤلـِها معَ حياةِ البرزخِ الطّويلةِ والّتي هيَ مُقدمةٌ لِلْحياةِ الآخرة ، والتي هي الحياةُ الحقيقيّةُ، كما قالَ تعالى ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ))
عبادَ الله / أيامُ المرءِ في هذه الدنيا قصيرةٌ ! سِتُّونَ سنةٍ أو ثمانونَ سنة أوْ مائةُ سنةٍ قدْ وُزّعتْ بيْن طُفولةٍ وبلوغٍ وشَيْخوخَةٍ ، وبين أكلٍ وشرب ونوم وعملٍ ثُم إنتقالٍ إلى حياة الْبرزخِ ، ولِذلكَ أوصَى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدَ الصّحابة ؛ وهيَ وصيةٌ لِجميعِ الأمّة حِينما وصَّى ابنَ عُمَرَ رضِيُ الله عنْهما ، يَقُولُ ابنُ عُمَرَ: أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بـِمَنْكِبَيَّ ثم قالَ: ((كُنْ فِي الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ)) وكانَ ابنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنهُما يقولُ: "إذا أمسيتَ فلا تنتظرِ الّصباحَ، وإذا أصْبحتَ فلا تنتظرِ المساءَ، وخُذ من صحَّتك لِمرضكَ، ومنْ حياتِك لِمَوتِك" رواه البخاري.
فاتّقوا الله عبادَ الله واحذروا الدنيا وزينتَها ، واعْملوا لِدار الآخرة فالأيامُ تَـمْضي، والسُّنُونَ تَنْقضي، والأعْمارُ تَنْتهي، ولا يبْقى إلا صالحُ الْعَملِ بعْدَ انْقِضاءِ الْأَجَل .
أقولُ ما تَسْمَعُونَ، وأسْتغفِرُ اللهَ لِي ولكُم ولِجميعِ الْمُسلميِنَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فاسْتَغْفِروهُ إنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ ألاّ إله إلا الله تعظيماً لِشَانهِ ، وأشهدُ أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الدّاعي إلى رِضْوانِهِ ، صَلّى الله عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً .. أمّا بَعْدُ عِبادَ اللهِ :
بعد انقطاعِ المرءِ من الدنيا والإقبالِ على الآخرة تبدأُ حياةُ البرزخِ الطويلةِ ، والتي لا يعلمْ بطولِ أيامِها وسنِيِّها الا اللهُ سبحانه وتعالى ، وفي هذه الحياةِ ينُــَعّمُ فيها المؤمنُ ، وتسْتريحُ رُوحُهُ في الجنة حيث شاءت ، ويغتمُّ الكافر ، وروحُهُ تُعرضُ على النّار، كما قال تعالى (( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ))
فَحريٌّ بنا معاشرَ المسلمينَ أنْ نُشمِّرَ ونسْعى للحصولِ على حياة برزخية سعيدةٍ لا همَّ فيها ولا نَكد ولا غمَّ فيها ولا ألمْ ، حياةُ السُّعداءِ لا عناءَ فيها ولا شقاء ؛ معَ أخْذِ الموقفِ الْمُتّزنِ من الدنيا فلا نجعلِ الدُّنيا في قلوبِنا فَتُشْغِلُنا عن طاعة ربِّنا ؛بل نأخذُ منها ما يَـخْدِمُ دينَنا وآخرتِنا ، كما قال تعالى (( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ))
هَذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ ، فَقَال ((إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا))
المفضلات