الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْنَّاسُ/ فِي الْقُرْآنِ الكَرِيمِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، وَمَوْعِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ، وَإِغْرَاءٌ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا الْسَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَتَحْذِيرٌ مَنْ نَارٍ تَلَظَّى، وَلَيسَ يَخْفَى عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ كَثْرَةُ ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالْنَّارِ فِيهِ، وَكِلَاهُمَا جَزَاءٌ مِنَ الْرَّحْمَنِ لِلْعِبَادِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ جَزَاءَهُ فَقَدْ فَازَ، وَمَنْ كَانَتِ الْنَّارُ نَصِيبَهُ فَقَدْ خَسِرَ.
وَالْجَنَّةُ دَارُ الْفَائِزِينَ، وَالْفَوْزُ فِيِهَا يَجْمَعُ الْسَّلامَةَ مِنَ الْشَّرِّ وَالظَّفَرَ بِالخَيرِ، وَالْخُلُودِ الْأَبَدِيٍّ فِيمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ وَلِذَا يَقُولُ أَهْلُهُ وَهُمْ يَرَوْنَ الْنَّعِيمَ: ((أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ *إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَىْ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فَوْزِهِمْ بِنَعِيمٍ أَبَدِيٍّ: ((لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلَّا المَوتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوزُ الْعَظِيمُ))
وَحَقِيقٌ أَنْ يُسَمَّى هَذَا الْفَوْزُ فَوْزًا عَظِيمًا، وَفَوْزًا كَبِيرًا، وَفَوْزًا مُبِينًا، وَأَنْ يُوصَفَ أَصْحَابُهُ بِأَنَّهُمْ فَائِزُونَ وَمُفْلِحُونَ، وَأَسَاسُ هَذَا الْفَوْزِ لِمَنْ أَرَادَهُ هُوَ الإِيمَانُ بِاللهِ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوزُ المُبِينُ)) وَقَالَ ((لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ الله فَوْزًا عَظِيمًا)) وَقَالَ ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوزُ الكَبِيرُ)) فَلَا فَوْزَ بِلَا إِيمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَمَنْ حَقَّقَهُ فَازَ فَوزًا وُصِفَ فِي أَكْثَرِ مَوَاضِعِ القُرْآنِ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ، وَفِي بَعْضِهَا وُصِفَ بِأَنَّهُ مُبِينٌ، وَفِي بَعْضِهَا بِأَنَّهُ كَبِيرٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ، ((وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا))
فَمِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ : تَحْقِيِقُ التّقْوَى ، قَالَ تَعَالَى ((أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))
وَمِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ : الْتَّحَلِّي بِالْصِّدْقِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالمَقَاصِدِ ،كَمَا فِي الْقُرْآنَ الْكَرِيمِ: ((قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الْصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ الْعَظِيمُ))
وَمِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ : التَّعَبُّدُ لله تَعَالَى بِشَرْعٍ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ، قَالَ تَعَالَى ((تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِيَ مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ((وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))
وَفِي دَاخِلِ مِلَّةِ الإِسْلَامِ تَتَعَدَّدُ أَهْوَاءُ الْنَّاسِ، وَتَخْتَلِفُ رُؤَاهُمْ وَمَوَارِدُهُم وَيَتَفَاوَتُونَ فِي قُرْبِهِمْ مِنْ كَمَالِ الإِسْلَامِ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُ؛ لِذَا كَانَ كَمَالُ الْفَوْزِ فِي تَحْقِيقِ كَمَالِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ حَضَرُوا الْتَّنْزِيلَ، وَفَهِمُوا التَأْوِيلَ، وَصَحِبُوا الْنَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ، قَالَ تَعَالَى: ((وَالْسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) فَالَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ طَلَبًا لِرِضْوَانِ الله تَعَالَى يَفُوزُونَ كَمَا فَازَ الْسَّابِقُونَ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ الِاتِّبَاعِ وَاقْتِفَاءِ الْسُّنَنِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَقَدْ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا رَجُلًا يَنْتَقِصُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: (أَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تَتَبِعُهُمْ بِإِحْسَانٍ).
وَنَقَلَ ابْنُ تِيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى جُمْلَةً مِنَ الْآثَارِ عَنِ الْسَّلَفِ فِي الِاتِّبَاعِ ثُمَّ قَالَ: "فَمَنْ أَرَادَ لِنَفْسِهِ الفَوزَ وَالنَّجَاةَ عَلَيهِ أَنْ يَلْزَمَ غَرْزَ هَؤُلَاءِ، وَيَسْلُكَ نَهْجَهُمْ، وَيَتَّبِعَ طَرِيقَهُمْ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ سَبَقَ سَبْقًا بَعِيدًا، وَفَازَ فَوْزًا عَظِيمًا".
جَعَلَنَا اللهُ تَعَالَى وَوَالِدِينَا وآلِنَا وَمَنْ نُحِبُّ مِنَ الْفَائِزِينَ، وَجَنَّبَنَا طُرُقَ الْخَاسِرِينَ، وَرَزَقَنَا الْخُلْدَ فِي دَارِ الْنَّعِيمِ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الحَمْدُ لله حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوُلُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ الله- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ تَقْوَاهُ سُبْحَانَهُ مُحَقِّقَةٌ لِلْفَوزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ((وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )) فَفَوزُهُمْ بِالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا عَطَاءٌ مِنَ الله تَعَالَى بِسَبَبِ تَقْوَاهُمْ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيِ آيَةٍ أُخْرَى (( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا )) ثُمَّ عَدَّدَ سُبْحَانَهُ جُمْلَةً مِمَّا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ((جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ))
وَالمُؤْمِنَ يَعْلَمُ بِفَوزِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ حِينَ يَرَى مَلَائِكَةَ الْرَّحْمَةِ تَسْتَقْبِلُهُ كَمَا فِيِ حَدِيِثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم : ((ثُمَّ يَجِيء مَلَكُ المَوْتِ عَلَيهِ الْسَّلامُ حَتّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا الْنَّفْسُ الْطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ الله وَرِضْوَانٍ، قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ أُخْبِرَ بِفَوْزِهِ عِنْدَ مَوتِهِ، مِنْهُمْ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ ، طَعَنَهُ المُشْرِكُونَ فِي بِئْرِ مَعُونَةَ فَأَخَذَ الْدَمَ بِيَدِهِ مِنْ مَوْضِعِ الْطَّعْنِ فَرَشَّهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: (فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ) رَوَاهُ الْشَّيْخَانِ.
فَعَلَى مَنْ أَرَادَ الْفَوزَ فِي الآخِرَةِ أَنْ يَعْمَلَ صَالِحًا وَهُوَ يُحْسِنُ الْظَّنَّ بِالله تَعَالَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْحَمُهُ وَيَمْنَحُهُ الْفَوْزَ الْعَظِيمَ؛ ذَلِكَ أَنَّ إِحْسَانَ الظَّنِّ بِلَا عَمَلٍ غُرُورٌ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِلَا ظَنٍّ حَسَنٍ فِي الله تَعَالَى قُنُوطٌ، وَالْغُرُورُ وَالقُنُوطُ مَانِعَانِ مِنَ الْفَوْزِ فِي الآخِرَةِ.
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المفضلات