الخطبة الأولى
الحمدُ لِلّهِ الّذي وفّقَ مَنْ شاءَ مِنْ عِبادهِ لِمَكارمِ الأخْلاق، وَهَداهُم لِيسْعدُوا فِي الدُّنيا، ويومَ التّلاق، وأشْهدُ ألا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ الْمَلِكُ الْكَريمُ الْخَلّاق، وأشْهدُ أنّ مُحَمّداً عبدُه ورسولُه أفْضَلُ الْخَلْقِ عَلى الإطْلاق، صَلّى اللهُ عليْه ،وعلَى آلِهِ وأصْحابِهِ ،وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسانٍ وَسَلّمَ تَسْلِيماً.
أيّها النّاس / أُوصِيكُم ونفْسي بِتقْوى اللهِ فَهِيَ وصيّةُ اللهُ لِلْأوّلِينَ والآخِرينَ ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ))
عِبادَ الله / المتأملُ لِحال كثيرٍ منَ المسلمينَ اليوْم يَلْحَظُ ثمَّ تقصيراً بيّناً وواضحاً في جانب مُهِمٍّ من جوانب الحياة ؛ أعْني به جانبَ الأدَبِ والاحْترامِ والتّقديرِ والإكْرامِ ،وإعطاءَ كُلِّ ذي حق حقّه لِكُلِّ من جَعل لهُ الإسلامُ مَنْزلةً وحقًّا من الأشْخاص ، وقد أنْزل اللهُ عَلى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورةً تُتْلَى إلى يومِ القيامةِ في شيخٍ كبير وهو عبدُ اللهِ بنِ أمِّ مَكْتومٍ رضي الله عنه والّذِي أتَى إلى النّبيِّ صلى الله عليه وسلم ،وَهُوَ يُخَاطِبُ بَعْضَ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ وَقَدْ طَمَعَ فِي إِسْلَامِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهُ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا فَجَعَلَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ وَيُلِحُّ عَلَيْهِ وَوَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَوْ كَفَّ سَاعَتَهُ تِلْكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَاطَبَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ طَمَعًا وَرَغْبَةً فِي هِدَايَتِهِ وَعَبَسَ فِي وَجْهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَعْرَضَ عَنْهُ وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلَهُ (( عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ... الآيات )) ؟
عباد الله / إنزالُ النّاسِ منازلُهُم مطلبٌ ديني ، وخلقٌ نبوي ، لا يتعامل به إلا الأتقياءُ الأنقياءُ فسلطانُ الأرضِ له من الاحترام والتقدير والمنزلة التي جعلها له دينُنَا الحنيفُ ، فقد قال الله تعالى ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.....)) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( السُّلْطانُ ظِلُّ اللهِ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ أَكْرَمَهُ أَكْرَمَهُ اللهُ ، وَمَنْ أَهَانَهُ أَهَانَهُ اللهُ )) رواهُ التّرمذيُّ وحسّنه الألْباني .
ومِمّنْ يُشارُ لَهُم بِالبَنانِ وَيُشادُ لهُم بِاللّسانِ ورثةُ الأنبياءِ ( الْعُلَمَاءُ ) الّذين لهُم حقُّ التّقديرِ والاحْترام ِ، فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ أيْ يدعُون لِمُعَلّمي النّاسِ الْخَيْر ))
والحديثُ صَحّحهُ الألْبانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ .
وَمِمّنْ لَهُم حقُّ التَّقديرِ والاحْترامِ والتّلَطُّفِ كبارُ السّنِّ الذين بَلغوا مرحلةً من العُمُرِ تحتاجُ إلى مزيدِ عنايةٍ، وتوقيرٍ واحْترام ، وردِّ الجميلِ والمجازاةِ بالإحْسانِ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ )) رواهُ التّرمذيُّ وحسّنه الألْبَانِيُّ .
وَمِمّنْ هو جَديرٌ بِالرّحمةِ والتّقديرِ والاحْترامِ الْمُسلمُ التّقِيُّ ولو كان فقيراً ،وقدْ ثبَتَ في صحيحِ مُسلمٍ عنْ أبِي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ((رُبَّ أَشْعَثَ ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ )) قالَ الحافظ ُابنُ حجرٍ رَحِمَهُ اللهُ :
أَيْ لَوْ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَقَعَ طَمَعًا فِي كَرَمِ اللَّهِ بِإِبْرَارِهِ لَأَبَرَّهُ وَأَوْقَعَهُ لِأَجْلِهِ ، وَقِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَن إِجَابَة دُعَائِهِ.
ومِمّنْ هوَ جديرٌ بالرحمةِ والتقديرِ والاحترامِ والتلطف كلُّ من له يدٌ بيضاءُ في الخيرِ وإنْفاقِهِ ، ،فَها هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْزِلُ عُثَمانَ بنِ عَفّانَ منزلةً تَليق بِهِ ، يقول عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ ، قَالَ : فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فِيهَا يُقَبِّلُهَا ، وَيَقُولُ : ((مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ )) رواهُ التّرمذيُّ وحسّنه الألْبَانِيُّ .
فاتّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ وأنْزِلُوا النّاسَ مَنازِلَهُم ولا تَغُرّنّكُم منازلُ بعْضِ النّاسِ الدُّنيويّةِ الّتي لا تُساوي في مِيزانِ اللهِ شَيْئاً فَإِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ .
بَاركَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرآنِ الْعَظيمِ ، وَنَفَعنِي وَإيّاكُمْ بِمَا فيهِ مِنَ الآياتِ والذّكرِ الْحَكيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذا وأسْتغفرُ اللهَ العظيمَ من كلِّ ذنْبٍ فاسْتغفروهُ وتُوبُوا إليْهِ إنّه هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيم .
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلى إحسَانِهِ ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تعظِيماً لِشَأنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحمَداً عبدُهُ ورسولُهُ الدَّاعِي إلى رِضوانِهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ وسلّمَ تَسليماً كَثيراً .
أمّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ / اتّقُوا اللهَ حَقّ التّقْوى ،واعْلَمُوا أنَّ التَّمَسَّكَ بِكتابِ اللهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْهجاً وسُلوكاً وَعَملاً هُوَ الّذي يَرْقَى بِالْعبدِ إلى مَنازلِ السُّعداءِ في الدُّنيا والآخِرة ،وَمَهْما عَمِلَ الإنْسانُ منَ الأعْمالِ الْعَظِيمَةِ ،وهوَ بعيدٌ عنْ دينِ اللهِ فإنّ ذلكَ لايَنْفَعُهُ عِنْدَ اللهِ ، ولوَ حصلَ لهُ ماحصلَ منَ الثّناءِ والشُّكْرِ مِنَ النّاسِ ؛ تقولُ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ ابْنَ جُدعانَ كانَ في الجاهليةِ يُقْرِي الضّيفَ ،ويفُكُّ العَانيَ ،ويَصِلُ الرَّحمَ ،ويُحسنُ الجوارَ فهل ينفعُهُ ذلكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( لا ياابْنةَ الصّدِّيق ! إنَّهُ لمْ يَقُلْ يَومًا قطُّ ربِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ))
وَعُبْدُ اللهِ بنِ جُدعانَ وَهُوَ مِنْ عَشِيرَةِ أبي بكرٍ الصديقِ رضيَ الله ُعنه كان يَقرِي الضيفَ ،ويُغيثُ الملهوفينَ ،ويَصِلُ الرحمَ حتى إنهُ كان يعمَلُ الطعامَ ويضَعُهُ أمامَ بيتِه على جِفانٍ عاليةٍ في الشارعِ حتى يأكلَ منه المسافرونَ من دونِ أنْ يَنْـزِلوا ، وكانَ يوزّعُ الذّهبَ على قَوْمهِ ، ومعَ هذا فإنّها لاتنْفَعهُ يومَ القيامة لأنّه فَعلها رِياءً وسمعةً !
أمَّا المؤمنُ فكلُّ حَسَنةٍ يَعْمَلُها مَهْمَا كانتْ صغيرةً ،وتكونُ مُوافِقةً للشّرعِ معَ نِيّةِ التّقربِ إلى اللهِ أي ليسَ فيها رياءٌ ولا سمعةٌ مهما صَغُرَتْ فهي عندَ اللهِ كبيرةٌ ، ومنْزِلتُها عَظيمةٌ .
اللّهُمَّ اجْعلنا مِمّنْ طالَ عُمُرهُ وحسُنَ عَملُهُ ، اللّهُمَّ ارْزُقْنا الإخلاصَ في الْقَوْلِ والْعمَلِ ياربّ الْعالمينَ .
عِبَاد اللهِ / صَلُّوا وسَلّمُوا على مَنْ أمركُم اللهُ بِالصّلاةِ والسّلامِ عليْهِ ، فقالَ تَعالى ((إنّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصلُّونَ عَلى النّبي يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ))
المفضلات