الخطبة الأولى
الحمد لله أمر بالإحسان إلى الوالدين وبِرِّهما , وقَرَنَ حقَّه بحقِّهِما تعْظيماً لشأنِهِما , وبياناً لفضْلِهِما , وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسُولُه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد : أيها الناس / اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى ، فإنَّ تقوى الله هي العروةُ الوثقى , والسعادةُ الكبرى , والنجاةُ العظمى في الآخرة والأولى((يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))
عباد الله / وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بأدق وصف ، وذكر علامةً تميزه عن غيره ، وأخبر عن علو منزلته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأمر الصحابةَ بالتماس دعوته ،وابتغاءِ القربى إلى الله بها ؛ لأنه إذا أقسم على الله أبره .
وأما عَمَلُ هذا الرجل , وآيَتُه العظيمةُ التي أهلته لهذه المنزلة ! فاسمعوا ماحدّث به رسولُنا - صلى الله عليه وسلم – أصحابَه بقوله : ((يأتي عليكُم أُوَيْسُ ابْنُ عامِرٍ معَ أمْدادِ أهلِ اليمن مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَـرَنٍ ، كان به بَرَصٌ فَبَرِأَ مِنْهُ إلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له والدةٌ هو بها بارٌ ، لو أقسم على الله لأبَرَّهُ، فإِنِ اسْتـَطَعْتَ – أي ياعمر - أنْ يَسْتَغْفِرَ لك فافـْعَلْ )) [ رواه مسلم ] كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ : أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ : أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ لَكَ وَالِدَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ ، مِنْ مُرَادٍ ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ )) فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
إنه أويس بن عامر القَرَنِي الذي منعه بِرُّه بأمِّه قدومَهُ على النبي ليراه ويسمعَ منه! لأنه علم أن البرَّ بالأم علامةُ كمالِ الإيمان , وحُسْنِ الإسْلام لأنها صاحبةُ القلبِ الرحيم , والصدر الحنون ، التي سرت الرحمةُ في جسدها كسريان الدم بالعروق ، ونفْسُها الطيبة وَسِعَتْ مالم تسعه ملاينُ النفوس .
تُحِبُّ وإنْ لم تُحَب , وتصفح وتسامح من يَجْهَلُ عليها ، تَحْزَنُ ليفرحَ غيرُها ، وتشقى ليرتاحَ غيرها ، تقدِّم وتضحي , وتُعطي ولا تطلب.
جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه .
أُمُّكَ – ياعبد الله – التي حملتك في بطنها تسعةَ أشهر وهنًا على وهن، حملتك كُرهًا ووضعتك كرهًا، تزداد بنموّك ضعفًا، وتحمل فوق طاقتها عناءً، وهي ضعيفة الجسم واهنة القوى .
وعند الوضع رأت الموتَ بعينها، زفرات وأنين، غصص وآلام، ولكنها تتصبّر وَ تتصبّر,وعندما أبصرتك بجانبها وضمتك إلى صدرها واستنشقت ريحَك ! نسيت آلامَها وتناست أوجاعها، ولسانُ حالِها يقول: يا حبّذا ريحُ الولد ريحُ الخزامَى في البلد
أهكذا كـلُّ ولـد أمْ لـمْ يلِـدْ مِثْلي أحـد
ولا ينتهي العناء والتعب عند ولادتك ؛ بل حتى بعد الولادة حيث تنشغِلُ في خدمتك ، تغذيك بصحتها، وتقوّيك بضعفها، طعامك درّها ، وبيتك حجرها، ومركبك يداها، تُحيطك وترعاك,تجوع لتشبع، وتسهرُ لتنام، تخاف عليك رقّةَ النسيم وطنينَ الذباب، وتؤثركَ على نفسها بالغذاء والراحَة.
على الأكتافِ تُحملُ والأيـادي وحبُّكَ في الضُّلوعِ وفي الفؤادِ
فأيُّ بشائـرٍ حـلّت علينــا كمـا حلّ الربيعُ على البوادي
لـك البسماتُ ساحرةً تُغَنّـي وتُنسـيني مــراراتِ الـبعادِ
فنمْ ولـدي بمهدِك فـي هناءٍ وداعبْ طـيفَ أحـلامِ الـرقادِ
وإنْ حلَّ الظـلامُ بجناحيه وأرخـى ظِلـَّه في كـل وادِ
ونام الخلقُ في أمْنٍ جميعـاً فقلبي ســاهرٌ عنـد المهـادِ
ويا ليتَ العناءُ ينتهي عند هذا ! بل يستمر ويستمر عند بدايتِك بالمشي فتُحِيطك بعنايتها وتُتَابِعُك نظراتُها , وتسعى وراءك خوفًا عليك، حتَّى إذا أخذت منك السنين،أخذ منها الشوق والحنين ! فصورتك أبهى عندها من البدر إذا استتمّ، وصوتك أنْدى على مسمعها من صوت البلابل وتغريد الأطيار، وريحُك أروع عندها من الأطياب والأزهار، وسعادتك أغلى من الدنيا لو سيقت إليها بحذافيرها، وحياتُك عندها أغلى من نفسها التي بين جنبيها، فتؤثر الموتَ لتعيشَ أنت سالِماً مُعافى.
روى أحمد والنسائي وابن ماجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ ، قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، قَالَ : " وَيْحَكَ ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ ؟ " قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : " ارْجِعْ ، فَبَرَّهَا " ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، قَالَ : " وَيْحَكَ ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ " ، قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا " ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، قَالَ : " وَيْحَكَ ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ " ، قُلْتُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " وَيْحَكَ الْزَمْ رِجْلَهَا فَثَمَّ الْجَنَّةُ [ والحديث صححه الألباني – رحمه الله - ]
جاء رجلٌ إلى عُمَرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه فقالَ : إِنَّ لِي أُمًّا بَلَغَ بِهَا الْكِبَرُ ، أَنَّهَا لَا تَقْضِي حَاجَتَهَا إِلَّا وَظَهْرِي لَهَا مَطِيَّةٌ ، أُوَضِّئُهَا ، وَأَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهَا ، فَهَلْ أَدَّيْتُ حَقَّهَا ؟ قَالَ : لَا . قَالَ الرجلُ : أَلَيْسَ قَدْ حَمَلْتُهَا عَلَى ظَهْرِي ، وَحَبَسْتُ عَلَيْهَا نَفْسِي ؟ قَالَ عمرُ : إِنَّهَا كَانَتْ تَصْنَعُ ذَلِكَ بِكَ وَهِيَ تَتَمَنَّى بَقَاءَكَ ، وَأَنْتَ تَصْنَعُ ذَلِكَ وَأَنْتَ تَتَمَنَّى فِرَاقَهَا .
ويقولُ أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : شهد ابنَ عمر رضي الله عنهما رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إِنِّي لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ ... إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ
فقال: يا ابنَ عمر، أتُراني جزيتُها؟ قال: لا، ولابِزفرة واحدة من زفراتِها ؛ ولكنّك أحسنتَ، والله يثيبُكَ على الإحسان.
اللهمّ أعِنّا على برّ الآباءِ والأمهات ، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيتَه، اللهم اجْزهما عنا خيرًا، واجمعنا بهم في دار كرامتك يارب العالمين .
أقولُ قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله علَى إحسانِه، والشّكرُ له علَى توفيقه وامتِنانِه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحَابه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعْدُ : عباد الله / كان طلقُ بنُ حبيب لا يمشي فوق ظهر بيتٍ وأمُّه تحتُه إجلالاً لها وتوقيرًا ، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه طلبت أمه أن يسقيها ماء في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت عند رأسها حتى أصبح ، وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بكاها ، فأين هذه النماذجُ - عباد الله - من شاب عاق أودع أمّه دار العجزة ولم يزرها حتى تردّت حالتها وماتت فاتصلوا بذلك الابن لإخباره فقال: أكملوا إجراءاتكم الرسمية وادفنوها في قبرها ، وآخر يُسمِعُها كلماتِ السّب والشتائم، إذا تكلمت في زوجته وعصت أمرها – الله أكبر - الأم التي سَهَرت وتَعِبت وتألّمت وأرضعت هذا جزاؤها! هذا جزاء الأم التي تحمل في جنباتها قلبًا يشع بالرحمة والشفقة على أبنائها، وقد صدق الشاعرُ حين وصف حنانَ قلبِ الأم بمقطوعة شعرية فقال:
أَغرى امرؤٌ يوماً غلاماً جاهلاً . . . . بنقودهِ حتى ينالَ به الوَطَرْ
قال ائتني بفؤادِ أُمِّكَ يا فتى . . . . ولكَ الدراهمُ والجواهرُ والدُّررْ
فمضى وأَغمدَ خنجراً في صدرِها . . والقلبَ أخرجَهُ وعادَ على الأثرْ
لكنهُ من فرطِ دهشتهِ هوى . . . . فتدحرجَ القلبُ المعفّرُ إِذا عثرْ
ناداهُ قلبُ الأمِّ وهو معفرٌ . . . . ولدي حبيبي هل أصابَكَ من ضررْ
فكأَنَّ هذا الصوتَ رغمَ حُنُوِّهِ . . غضبُ السماءِ على الولدِ انهمرْ
فاستسلَّ خِنْجَرَه ليطعنَ نفسهُ . . . . طعناً سيبقى عبرةً لمن اعتبرْ
ناداهُ قلبُ الأمِّ كفَّ يداً ولا . . . . تطعنْ فؤادي مرتينِ على الأثرْ
فاتقي الله يا عبدالله واعلم إن حق الأم عليك عظيم، وشانها كبير،
قابلها بوجْه طَلْقٍ , وقبل رأسها، والثم يدها، وإذا نصحتها فبالمعروف من دون إساءة،وأجب دعوتها إذا دعتك من دون ضجر أو كراهية، تكلم معها باللين، أطعمها واكسها وأهدها قبل أن تسأل شيئًا، تحسَّس ما تحبّ فاجلبه لها، كن خادمًا مطيعًا لها، الهج بالدعاء لها آناء الليل وأطرافَ النهار، وغضَّ الطرفَ عن أخطائها وزلاتها، ولا تتكبّر عليها فقد كنتَ في أحشائها وبين يديها.
قال تعالى (( وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبْرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ))
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم ربُّكم بالصلاة والسلام عليه ؛ فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة ...
المفضلات