خطبةُ جمعة
بعنوان
عشرُ ذي الحجة 1436
كتبها عبدُاللهِ بنُ فهد الواكد
إمامُ وخطيبُ جامعِ الواكدِ بحائل
وفيها :
فضلُ أيام العشر
الحث على العمل الصالح فيها
الحث على صيام التسع والتأكيد على يوم عرفة
فضل الأضاحي
الأصل في الإضحية للحي وليس للميت إلا الوصايا
الإمساك عن الشعر والأظافر للمضحي
أحكام الأضاحي باختصار
فتوى هيئة كبارالعلماء في الإبل ومرض كورونا ومن خالط المرضى
التنبيه لوقت دخول الإمام لصلاة العيد
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي عمَّت رحمته كلَّ شيء ووسِعت، وتمَّت نعمته على العباد وعظُمت ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله ، صلّى الله وسلّم عليه ، وعلى آله وصحابته أجمعين
أيها المسلمون : أوصيكم بتقوى الله عز وجل القائل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
أيها الناسُ : شاءَ اللهُ بحكمتِهِ أنْ يجعلَ الزمانَ أياماً تتعاقبُ ، وجعلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خلفةً ، يتتابعانِ ويتعاقبانِ ، قالَ تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) وجعلَ سبحانَهُ أفضلَ أيامِ العمرِ ، هي أيامُ عشرِ ذي الحجةِ ، وجعلَ أفضلَ يومٍ فيها هوَ يومُ عرفةَ وقيلَ يومُ النحرِ ، هذهِ الأيامُ العشرُ، عظّمَ اللهُ شأنَهاَ ، ورفعَ مكانَتَها ، وأقسمَ بها في كتابِهِ، فقالَ جلَّ وعلا: ((وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ )) وعنْ ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((ما منْ أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ منهُ في هذه الأيامِ العشرِ))، قالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: ((ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ ولم يرجعْ من ذلكَ بشيءٍ)) أخرجه البخاري
ففي هذه الأيامِ تجتمعُ أمهاتُ العباداتِ، فيجتمعُ فيها الصلاةُ والصيامُ والحجُ والصدقةُ والأضاحي والهديُ وغيرُها ، بل في يومِ عرفةَ خطبةٌ لا تُشرعُ في الدنيا كلِّها ، إلا في مكانٍ واحدٍ وفي يومٍ واحدٍ ، وهي خطبةُ عرفةَ ، ذلك اليومُ العظيمُ الذي أكملَ اللهُ فيهِ الدينَ وأتمَّ بهِ النعمةَ وأنزلَ فيه قولَهُ تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا)) ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلمَ : ((الحجُّ عرفة)) ومن لم يقفْ بعرفةَ فلا حجَّ لهُ ، فيه تُجابُ الدعواتُ وتُقالُ العثراتُ وتُغفرُ الذنوبُ والسيئاتُ وتتنزلُ من اللهِ الرحماتُ، قال صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((ما من يومٍ أكثرُ من أن يُعتق اللهُ فيه عبدًا من النارِ من يومِ عرفةَ)) أخرجه مسلمُ ، يشرعُ للحجاجِ في هذا اليومِ الإكثارُ منَ الدعاءِ ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((خيرُ الدعاء دعاءُ عرفةَ ، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيونَ من قبلي: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير)) أخرجه الترمذي
وفي هذهِ الأيامِ العشرِ يومُ النحرِ الذي هو أعظمُ الأيامِ عندَ اللهِ ، قال صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: (( إنَّ أعظمَ الأيامِ عندَ اللهِ تعالى يومُ النحرِ، ثم يومُ القَرِّ )) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني ،
أيها المسلمونَ : ينبغي للمسلمِ أن يستقبلَ مواسمَ الخيراتِ بالتوبةِ النصوحِ ، والعملِ الصالحِ ، قالَ تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ))
فعلى المسلمِ أنْ يحرصَ على الواجباتِ وأن يُكثرَ من النوافلِ وسائرِ الطاعاتِ ، ففي الحديثِ القدسيِّ : ((وما يزالُ عبدي يتقربُ إلي بالنوافلِ حتى أحبَّه )) أخرجه البخاري ، ويشرعُ في هذه الأيامِ المباركةِ الصيامُ ، فقد كانَ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يصومُ تسعَ ذي الحجةِ ، فقد وردَ عندَ الإمامِ أحمدَ وصححه ، ووردَ عندَ أبي داوودَ والنسائي وصححه الألباني ، عن بعضِ أزواجِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّها قالت ( كان رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، يصومُ تسعَ ذي الحجةِ ، ويومَ عاشوراء ، وثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ ، وأولَ اثنينِ من الشهرِ ، وخَميسينِ ) حتى مَن عليهِ قضاءٌ في رمضانَ ، يستحبُ لهُ أن يقضيَهُ في العَشرِ ، لما وردَ في مُصنَّفِ عبدِالرزاق ، عن الثوريِّ ، عن الأسودِ بن قيسٍ ، ( أنَّ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ ، كانَ يستحبُّ أن يُقضى رمضانُ في العشرِ ) ، وعنِ بنِ جريجٍ قالَ : عن عطاءَ ، كرهَ أنْ يتطوعَ الرجلُ بصيامٍ في العشرِ ، وعليهِ صيامٌ واجبٌ ، قالَ ( لا ، ولكنْ صُم العشرَ ، واجعلهَا قضاءً ) وذلك لما للصيامِ من أجرٍ عظيمٍ عندَ اللهِ ، فكيفَ إذا كانَ قضاءٌ واجبٌ ، وكانَ في أيامِ العشرِ ،
وأماَّ صيامُ يومِ عرفةَ فهو متأكدٌ لغيرِ الحاجِ ، ففي صحيح مسلم ، سُئل النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ عن صومِ يومِ عرفةَ فقال: ((يكفرُ السنةَ الماضيةَ والباقيةَ)) ، ومن الأعمالِ المشروعةِ ذكرُ اللهِ ، ، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ : ((ما مِنْ أيامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحبُ إليه العملُ فيهنَّ من هذه الأيامِ العشرِ، فأكثروا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتسبيحِ)) رواه الأمام أحمد
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب
الخطبة الثانية
أما بعدُ أيها المسلمون : من الأعمالِ المشروعةِ في هذهِ الأيامِ المباركةِ ، التقربُ إلى اللهِ بذبحِ الأضاحي ، فهي سنةُ أبينا إبراهيمَ ، وشرعَها لنا نبيُنا صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، قال أنسُ بنُ مالكَ رضيَ اللهُ عنهُ : ضحَّى النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بكبشينِ أملحينِ أقرنينِ ، ذبحهُما بيدِهِ ، أخرجه البخاريُ ومسلمُ ، وقد حذَّرَنا النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ من تركِ الأضحيةِ من غيرِ عذرٍ، فقالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((من وجدَ سَعةً فلم يضحِّ فلا يقربَنَّ مُصلانا)) أخرجه أحمدُ وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ،
واعلموا أنَّ الأضحيةَ إنما شُرعت للحيِّ وليست للميتِ ، إلا أن تكونَ وصايا لأمواتٍ ، فهي من السننِ المختصةِ بالأحياءِ ، ولهذا لم يردْ عن النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ أنهُ ضحىَّ عن أحدٍ من الذين ماتُوا من أقاربِه أو خصَّهم بأضاحي كما يفعلُ بعضُ الناسِ في هذا الزمانِ فلم يضحِّ عن زوجتِه خديجةَ ولا عن زوجتِه زينبَ بنتِ خزيمةَ ولم يضحِّ عن عمِّهِ حمزةَ بنِ عبدِ المطَّلِبِ الذي استشهدَ في أحد ، رضي اللهُ عنهم ، إنما كانَ يضحي عنهُ وعن أهلِ بيتِهِ الأحياءِ والأمواتِ ، ، ولا يشتركُ إثنانِ ولا أكثرَ في الضأنِ والمعزِ ، إنما الإشتراكُ في الإبلِ والبقرِ ، فالواحدةُ من الإبلِ والبقرِ تكفي عن سبعةِ مضحينَ يشتركونَ فيها ، ويكفي أهلَ البيتِ الواحدِ أضحيةٌ واحدةٌ ، بل هو السنةُ ، فقد ضحىَّ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بكبشينِ أحدُهما عنهُ وعن أهلِ بيتِه والأخرُ عن أمتِه ، ويجبُ على من كانَ له أضحيةٌ أن يُمسكَ عن شعرهِ وأظفارِهِ ، فلا يقصُّ منها شيئًا ، أماَّ أهلُهُ وأولادُهُ فلا يلزمُهم ذلكَ ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((إذا رأيتم هلالَ ذي الحجةِ وأرادَ أحدُكم أن يضحيَ فليمسكْ عن شعرِهِ وأظفارِهِ حتى يضحي )) أخرجه مسلمُ ، ومنْ أحكامِ الأضحيةِ أنْ تبلغَ السنَّ المعتبرةَ شرعًا ، وهي ستةُ أشهرٍ للضأنِ ، وسنةٌ للمعزِ ، وسنتانِ للبقرِ ، وخمسُ سنينَ للإبلِ ، وأنْ تُذبحَ في وقتِها المحددِ شرعًا ، وهو مِن بعدِ صلاةِ العيدِ ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: (( مَن ذبحَ قبلَ الصلاةِ فإنما ذبحَ لنفسِه ، ومَن ذبحَ بعدَ الصلاةِ فقدْ تمَّ نسكُهُ وأصابَ سنةَ المسلمينَ )) أخرجه البخاري ، ويمتدُ وقتُها إلى قبلِ غروبِ الشمسِ منَ اليومِ الثالثِ عشرَ مِنْ شهرِ ذي الحجةِ وأْن تكونَ الأضحيةُ سالمةً من العيوبِ المخِلّةِ شرعًا ، قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((أربعٌ لا تجزئ في الأضاحي: العوراءُ البينُ عورُها ، والمريضةُ البينُ مرضُها ، والعرجاءُ البينُ ضلعُها ، والكسيرةُ التي لا تنقي )) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي
أيها المسلمون : تعلمونَ أنَّ ولاةَ الأمرِ حفظَهم اللهُ يولونَ رعايةَ وسلامةَ الحجاجِ ، كلَّ اهتمامِهم ، ومِن ذلكَ حرصُهم الشديدُ على عدمِ انتشارِ مرضِ كورونا بينَ الحجاجِ ، وبالتالي إلحاقُ الضرر بهم ، أو انتقالُ المرضِ إلى بلدانِهم ، وحيثُ أنَّ الإبلَ أحدُ المصادرِ المشكوكِ بها ، فقدْ صدرتْ فتوى منْ هيئةِ كبارِ العلماءِ في المملكةِ على منعِ ذبحِ الإبلِ أو إدخالِها إلى المشاعرِ المقدسةِ وما حولَها ، والإقتصارِ على ذبحِ البقرِ والغنمِ ، في الهديِ والأضاحي ، كذلكَ مَن سبقَ لهُ مخالطةُ المصابينَ بهذا المرضِ ، فعليه أنْ يؤجلَ حجَه إلى الأعوامِ القادمةِ ، نسألُ اللهَ أن يحفظَنا وإياكم من الوباءِ والبلاءِ ، وأنْ يحفظَ حُجاجَ بيتِ اللهِ الحرامِ ، وأنْ ييسرَ لهم حجَّهم ، كما نودُّ إبلاغَكم أنَّ صلاةَ العيدِ ستقامُ في هذ الجامعِ وسيكونُ دخولُ الإمامِ في تمامِ الساعةِ السادسةِ والربعِ ، اللهم اجعلنا ممن يمتثلون أمرك ، ويتبعون سنة نبيك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ويسلكون درب هدايتك وشرعك ، ويتخلقون بخلق كتابك ونبيك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
المفضلات