الخطبة الأولى
الحمدُ لله الذي بلغنا شهرَ رمضان ، وعرّفنا فضلَه ، وفضلَ القيام ، وجعل لمن احتسب صيامه وقيامه مغفرةَ الذنوب والآثام , وأشهد ألا إله وحده لاشريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبدُه ورسوله خيرُ من صلّى لربه وصام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خيرِ الأنام ، وسلّم تسليما كثيرا .
أمّا بعدُ : أيّها الناس / أُوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي جماعُ الخيرِ كلِّه فاجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر وترك النواهي (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))
عِبادَ اللهِ / أشكروا الله تعالى أنْ بلغكم موسماً من مواسم الطاعات ، جعل الله فيه من جلائل الأعمال وفضائل العبادات ، وخصه عن غيره من الشهور بكثير من الخصوصيات ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ )) وقال صلّى الله
عليه وسلم (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
عباد الله / نِعَمُ الله علينا لا تعد ولا تحد ولا تحصى ، ومن أجلها بعد نعمةِ الإسلام ، نعمةُ إدراكِ شهر رمضان ، فكم في المقابر من أناس صاموا معنا رمضانَ في أعوام ماضية وهم الآنَ تحت الثرى ، أمهلنا الله لندركَ هذا الموسمَ العظيمَ لنصومَ أيامِهِ ، ونقومَ لياليه ،ونتقربَ فيه إلى الله بشتّى أنواع الطاعات .
روى الترمذي في سننه عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلا قَالَ : يَا رسولَ الله أيُّ النّاسِ خَيْرٌ ؟ قالَ (( مَنْ طَالَ عُمُرُهُ،وَحَسُنَ عَمَلُهُ)) قَالَ : فأيُّ النّاسِ شَرٌّ؟ قال
(مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ )) والحديث صححه الألباني رحمه الله .
فوالله – أيها الإخوة – إنَ المؤمنَ ليفرحُ أشدُّ الفرح عندما يرى كبارَ السن من المسلمين تَلهجُ ألسنتُهم بقراءة القرآن وذكر الله، أوقفوا أنفسَهم على طاعة الله ، والزيادةِ من العبادات والخيرات ، وأعْرضوا عن مَلذّاتِ الدنيا الفانيات.
وإنّ المؤمنَ ليحزنُ أشدُّ الحُزن عندما يرى من بلغ الستين أو السبعين أو الثمانين من المسلمين غارقا في المعاصي ، متلهفًا وراء الدنيا ،مُتأثرا بمن هو أصغرُ منه ، مُقلّدا له في منكراته! لا يفكر في الموت وما ذا أعدَّ له و لا في الآخرة وماذا قدم لها ،نسأل الله السلامة والعافية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (( أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ، حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً)) رواه البخاري .
قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهُمْ *** وعاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ
فيا من أطال اللهُ عمرك ، وأمدّ بقائك فجاوزت الشهور و السنين ولا تدري متى الرحيل،إن كنت ممن وُّفقت للخيرات فاشكر الله على الفضل الكبير ، و احمدُه على الخير الكثير
، و سلُه سبحانه الإخلاص والثبات حتى الممات,وإن كنت من أهل التقصير والتفريط، فبادر بالتوبة قبل فوات الأوان فأبوابُها - ولله الحمد - مفتوحةٌ للتائبين، وأغتنم هذا الشهر الكريم ، اغتنم كلَّ وقته بما يقربك إلى الله جلا وعلا ، فقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ارْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ دَرَجَةً فَقَالَ : آمِينَ ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّانِيَةَ ، فَقَالَ : آمِينَ ، ثُمَّ ارْتَقَى الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ : آمِينَ ، ثُمَّ اسْتَوَى فَجَلَسَ ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ : عَلَى مَا أَمَّنْتَ ؟ قَالَ : (( أَتَانِي جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلامُ , فَقَالَ : رَغِمَ أَنْفُ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ , فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ , فَقُلْتُ : آمِينَ , ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ أَحَدَ
أَبَوَيْهِ أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ , فَقُلْتُ : آمِينَ , ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ , فَقُلْتُ : آمِينَ ))
، أقُولُ قَوْلِي هَذا ، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ وتُوبُوا إِلَيْهِ إنّهْ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيم .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ ألاّ إله إلا الله تعظيماً لِشَانهِ ، وأشهدُ أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الداعي إلى رضوانِهِ ، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأعْوانِهِ وسلم تسليماً كثيراً .
أمّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ / اتّقُوا اللهَ حقَّ التّقْوَى ، واسْتَمْسِكُوا مِنْ دِينِكُمْ بالعُروةِ الوُثْقَى ، وتَفَطّنُوا ذَلكَ عَلى الْقُلوبِ والأعْظَى ، واحْذَرُوا سَخَطَ الْجَبّارِ فَإِنَّ أجْسامَكُم على النّار لاتَقْوى ،
واعْلَمُوا عِبادَ اللهِ أنّ منْ إكرامِ الله تعالى ، وتوفيقه للعبد أن يمد الله بعمره ، ثم يهيئ له عملا صالحا من أعمال الخير
قبل موته فيقبضه عليه ، فتكون خاتمته حسنة بإذن الله ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ )) قِيلَ : وَمَا عَسَلُهُ قَالَ : ((يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ ))
فاتقوا الله عبادَ الله واشكروه علىِ نعمه ، فالسعيدُ من اغتنم مواسمَ الشهور والأيام والساعات ، وتقربَ إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات ، فعسى أنْ تُصيبَه نفحةٌ من تلك النفحات ، فَيَسْعَدُ بها سعادةً يأمن بعدها من النار ومافيها من اللفحات ،
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلّمُوا عَلى مَنْ أَمَرَ اللهُ بِالصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))
المفضلات