الحمدُ للهِ المبدئِ المعيدِ ، الفعالِ لما يريدُ ، ذي العرشِ المجيدِ ، والبطشِ الشديدِ ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثِ بالقرآنِ المجيدِ ، والمؤيدِ بالرعبِ والحديدِ ، صلى اللهُ وسلم عليه ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) أما بعد : أيُّها الأحبةُ في الله: فَإن العبدَ في هذهِ الحياةِ الدُّنيا ، مُعَرَّضٌ للخيرِ والشَّرِ لامحالة ، فالحياةُ الدنيا مَليئةٌ بالمِحَنِ والمتاعبِ والبلايا ، والشدائدِ والنكباتِ ، إن صَفتْ يوماً كَدَّرَتْ أياماً، وإن أضحَكَتْ ساعةً ، أبكَتْ ساعاتٍ ، لا تدومُ على حالٍ
جبلتْ على كدرٍ وأنتَ تريدُهــا صفوًا من الأقـذاءِ والأكــدارِ
ومكلفُ الأيامِ ضدَّ طباعِهـــا متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نـــارِ
يقولُ تعالى ( وَتِلْكَ ٱلاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ ) فقرٌ وغنى ، وعافيةٌ وبلاءٌ ، وصِحةٌ ومَرضٌ وعِزٌّ وذُلٌ ،وهكذا يكونُ الحال في هذهِ الحياةِ الدُّنيا، بين خَوفٍ ورجاء ، وسُرُورٍ وحُزن ، وضَحِكٍ وبُكاء ، واجتماعٍ وفُرقَة ، ويُسرٍ وعُسر ، وحياةٍ وموت ، لايملك المرءُ التَّحكُمُ في شيءٍ مِنهَا، بل عليه إِن ْكانَ مُؤمناً أن يُفوضَ الأمرُ إلى الْمُتصرفِ فيهِ ، ويُسَلِّمُ لأقدارِ الله الجاريةِ عليه ، وإن اللهَ تعالى ، بين ذلك في كتابهِ وعلى لسانِ رسولِهِ لِيوطّنَ عِبِادَهُ على الصّبرِ والتَّحَمّل ، يقولُ عليهِ الصلاةُ والسلام ، كما في البُخاري من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه { مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ }ألا فَعتِصَمِ بِمُفَرّج الكُربات ، الذي يُعطيَ الصابرينَ أعلا المثوباتِ ، حيثُ وعَدَهُم سُبحانه ، بالخلودِ في روضاتِ الْجِنَان قال الله تعالىوَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) إلا فَتعزَّى وأبشر أيها المؤمنُ المُصاب ، فَهذِهِ تَسليةٌ من اللهِ لعبادِهِ بِمُصَابِهِم ، الذي لاحولَ لَهُم ولاقوةَ في رَدَّهِ ، والذي لم يَخُصَّ بِهِ فِئةٌ دونَ أُخرى من عبادِهِ. فعند المصيبةَ يا عبد الله: ماعليكَ إلا الصَّبرَ والإسترجاع ، بِقُولِكَ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فإذا فعلت ذلك فأبشر بالصلاةِ من اللهِ تعالى والرحمةِ والهدايةِ والعِوَض عن مُّصابِكَ ،وفي الحديثِ عن أُمَّ سَلَمَةَ رضي اللهُ عنها ، قَالَتْ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - { إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَقُلْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ عِنْدَكَ احْتَسَبْتُ مُصِيبَتِى وَأْجُرْنِى فِيهَا وأَبْدِلْنِى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا} رواهُ أحمدُ في المسند ، وإن أعظمَ المصائبِ ، المصيبةُ في الدِّين كما جاء في الأثرِ عن عطاءِ بن ابي رباح قال: قال رسول الله :{ إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِى ، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ } قَالَ أبو نُعيم فِي تَسْلِيَةِ أَهْلِ الْمَصَائِبِ : وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا مَوْتُ النَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ مِنْ السَّمَاءِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَانْقَطَعَتْ النُّبُوَّاتُ ، وَكَانَ مَوْتُهُ ، أَوَّلَ ظُهُورِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، بِارْتِدَادِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ الدِّينِ مِنْ الْأَعْرَابِ ، فَهُوَ أَوَّلُ انْقِطَاعِ عُرَى الدِّينِ وَنُقْصَانِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحْصَى .قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا نَفَّضْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ التُّرَابِ مِنْ قَبْرِ الرَّسُولِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا .رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ مُسَلِّيًا لِبَعْضِ إخْوَانِهِ فِي وَلَدٍ لَهُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ يقول ,
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدْ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
أَوَمَا تَرَى أَنَّ الْمَصَائِبَ جَمَّةٌ وَتَرَى الْمَنِيَّةَ لِلْعِبَادِ بِمَرْصَدِ
مَنْ لَمْ يُصَبْ مِمَّنْ تَرَى بِمُصِيبَةٍ ؟ هَذَا سَبِيلٌ لَسْتَ فِيهِ بِأَوْحَدِ فَإِذَا ذَكَرْتَ مُحَمَّدًا وَمُصَابَهُ فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ.
عباد الله إن العاقلَ لايَجمَعُ على نفسهِ مُصيبتَانٍ في آنٍ واحد، فَيَجزَعُ ويرتَكِبُ المنهيات، عند حلولِ الْمُصيبات، فَيُضِيِعُ على نفسهِ ثوابُ الصابرينَ ، وأجرُ الْمُتصَبرين ، فَإنَّها خَسارةً عظيمةً ومصيبةً أُخرى ، روى ابن ماجة من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : { مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَذَكَرَ مُصِيبَتَهُ فَأَحْدَثَ اسْتِرْجَاعًا - وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا - كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَهُ يَوْمَ أُصِيبَ }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين ، إذا حَزَبَهُ أَمرٌ فزع إلى الصلاة. أما بعد: أيُّها الأحبةُ في الله ، اعلموا أنَّكم خَلقٌ من خلقِ الله ، يَتَصَرَّفُ فِيكُم متى شاء ، كَيفَ شاء ،حَيثُ شاء ، خلقاً وإماتة ، سِعَةً وضَيقاً ،غنىً وفقراً ، حُزناً وسُروراً ، جَمْعاً وفُرقَةً ، هو الفعَّالُ لِمَا يُريد ، لا مَرد لأَمرِهِ ، ولامُعقبَ لِقَولِهِ وفعلِهِ وحُكمِهِ ، ولكنَّهُ بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ ، يُبينُ لعبادِهِ سُبلَ النّجَاةِ مِمَّا ابتلاهُم بهِ ، من الخيرِ والشَّر ، في كتابِهِ ، وعلى لسانِ خَاتَمِ أنبيائِهِ ، محمد ، فما على المسلمِ ، إِلاَّ أن يَتعَلَّمَ مِن الوحي ، ويَتَّبِعَ الْهَدي الْمُحَمَّدي ، فَيُفوزَ في الدارَين يقولُ تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)ويقولُ جلَّ في عُلاه ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) عروةُ بنُ الزبيرِ رضي اللهُ تعالى عنه وأرضاهُ ، سقطَ من على فرسِهِ ، فجُرحتْ رجلُهُ، وقررَ الأطباءُ قَصَّها ، وفي نفسِ اللحظةِ ، يأتيهِ نبأُ وفاةِ ابنِهِ الشابِ، فتُقطعُ رجلُهُ وتنشرُ نشراً ، وهو في الصلاةِ بينَ يدي اللهِ سبحانه وتعالى, فلما أفاقَ قالَ: "اللهم لك الحمدُ، إن كنتَ أخذتَ ، فقدْ أعطيتَ، وإن كنتَ ابتليتَ ، فقدْ عافيتَ، أعطيتَني أربعةً من الأعضاءِ ،فأخذتَ عضواً واحداً فلكَ الحمدُ، وأعطيتَني أربعةً من الأبناءِ ، وأخذتَ واحداً ، فلكَ الحمدُ حتى ترضى ، ولكَ الحمدُ إذا رضيتَ، ولكَ الحمدُ بعدَ الرضى"يقولُ عليهِ الصلاةُ والسلام {ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ،في نفسِه ومالِهِ وولدِهِ ، حتى يلقى اللهَ وما عليهِ خطيئةٌ} عبادَ اللهِ صلّوا على المعصومِ ، عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُ التسليمِ ، فإنه يقول من صلّى عليَّ صلاةٍ واحده صلّى الله عليه بها عشراً ، اللهم صلي وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد ، صاحب الوجه الأنور ، والجبين الأزهر ، الشافع المُشَّفَعُ في المحشر ، ورضى اللهم عن الخلفاء ، الأءمة الحنفاء، أبي بكرٍ وعمر ، وعثمان وعلي وعن سائِرِ أصحابِ نبيّك أجمعين ، وعن التابعين ، وتابعيهم بِإحسانٍ إلى يومِ الدّين ، وعنّا معهم ، بمنك وفضلك ورحمتك ، يا أرح الراحمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، ودمر أعداءك أعداء الدين ، من اليهود والنصارى وجميع الكفرة والملحدين اللهم عاملنا بإحسانك ، وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، اللهم أرحم ذلنا بين يديك ، واجعل رغبتنا فيما لديك ، ولا تحرمنا بذنوبنا ، ولا تطردنا بعيوبنا ، اللهم اعطنا ولا تحرمنا ، وصلنا ولا تقطعنا ، وخذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى ، يا أهل المغفرة أغفر ذنوبنا ، ويا أهل التقوى استعملنا في طاعتك ، ويا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاتي أمورنا ، واجعل ولايتنا ، في عهد من خافك واتقاك ، واتبع رضاك برحمتك يا ارحم الرحمين ، اللهم أغفر لأهل القبور من المسلمين والمسلمات ، وخص في ذلك الأباء والأمهات إنك قريب مجيب الدعوات ، اللهم ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)
المفضلات