خطبة جمعة

بعنوان

أحكامُ الجمعِ بين الصلاتين في المطر والصلاةِ في الرحالِ

بتاريخ 25/3/1436

كتبها وضبطها

عبدالله بن فهد الواكد

إمام وخطيب جامع الواكد بحائل

أرجوا ممن يستفيد منها الدعاء لي ولوالدي

الخطبةُ الأولى

الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ وصورَهُ ، ثم السبيلَ يسَّرَهُ ، ثم أماتَهُ فأقبرَهُ ، ثم إذا شاءَ أنشرَهُ ، وأشهد ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ ، أما بعدُ أيُّها المسلمونَ : فأوصيكم بتقوى اللهِ القائلِ ( يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تُقاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتم مسلمونَ )
عبادَ اللهِ : لقدْ شرعَ اللهُ هذا الدينَ العظيمَ ، وكتبَ على المسلمينَ فريضةَ الصلاةِ ، خمسَ مراتٍ في اليومِ والليلةِ ، فهي الركنُ الثاني منْ أركانِ الإسلامِ ، فرضَهاَ اللهُ عزَّ وجلَّ وعلَّمَهَا نبيَّهُ منْ فوقِ سبعِ سماواتٍ ، وأمرَ سبحانَهُ وتعالى أنْ تُؤدَّى في أوقاتِها جماعةً في المساجدِ ، قالَ تعالى ( إنَّ الصلاةَ كانتْ على المؤمنينَ كتاباً موقوتاً ) ، وقدْ ثبتَ عنِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنهُ يقصرُ الرباعيةَ في السفرِ ، ويجمعُ بينَ الظُّهرينِ والعشائينِ في السفرِ ، وأمَّا في الحَضَرِ وحالَ الإقامةِ فيحرمُ الجمعُ بينَ الصلاتينِ إلا لسببٍ شرعيِّ فقدْ وردَ عن أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ قالَ ( الجمعُ بينَ الصلاتينِ من غيرِ عُذرٍ منَ الكبائرِ ) فلا ينبغي التساهلُ في ذلكَ ، ويحرمُ الجمعُ منْ غيرِ حاجةٍ ولا عُذرٍ ، ومِنْ لُطفِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعبادِهِ ، أنْ جاءتْ الشريعةُ الإسلاميةُ بالتيسيرِ على المسلمينَ حالَ المشقةِ ، ونحنُ في هذهِ الأيامِ الباردةِ وفي فصلِ الشتاءِ قد يتعرضُ المسلمونَ لشيءٍ منَ العنتِ والمشقةِ كوجودِ المطرِ الغزيرِ والثلوجِ والبردِ الشديدِ والرياحِ الباردةِ الشديدةِ التي يترتبُ عليها الأذى للناسِ في تجمُّعِهِم للصلواتِ في المساجدِ أحببتُ بيانَ بعضِ الأحكامِ الشرعيةِ التي قدْ يجهلُها بعضُ المسلمينَ وخصوصاً أئمةَ المساجدِ والمؤذنينَ فأحببتُ في هذهِ الجُمُعةِ بيانَها، والوقوفَ عندَهاَ والإستنادَ إلى قولِ علمائِنا وفتاواهُم واستخلاصَ القولِ الراجحِ من ذلكَ ، ومِنْ هذهِ الأحكامِ : أحكامُ الجمعِ بينَ الصلاتينِ في المطرِ وهذهِ المسألةُ إختلفَ فيهاَ أهلُ العلمِ منْ جميعِ المذاهبِ الفقهيةِ ، ، فهيَ سنةٌ ثابتةٌ عنِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فقدْ روى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحيْهِما بلفظينِ مختلفينِ ورواهُ أهلُ السُّننِ بألفاظٍ متقاربةٍ ، من حديثِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُما أنهُ قالَ : ( صلى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ الظهرَ والعصرَ جميعاً، والمغربَ والعشاءَ جميعاً، في غيرِ خوفٍ ولا سفرٍ) ، ( ووردَ : في غيرِ خوفٍ ولا مطرٍ ) قالَ الإمامُ مالكٌ رحمَهُ اللهُ : أرى ذلكَ كانَ في المطرِ ، ووافقَهُ على كلامِهِ جماعةٌ من أهلِ المدينةِ وغيرُهُم, ومنهُمُ الإمامُ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ تعالى وفي صحيحِ مسلمٍ قالَ ابنُ الزبيرِ : فسألتُ سعيداً لِمَ فعلَ ذلكَ، فقالَ : سألتُ ابنَ عباسٍ كما سألتَني فقالَ : أراد أنْ لا يُحرِجَ أحداً من أمتِهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ.
و قد استدلَّ جمهورُ العلماءِ، مِنْ أَتباعِ مالكٍ, والشافعيِّ, وأحمدَ, وكذلكَ المحدثينَ برواياتِ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ على جوازِ الجمعِ بينَ الصلاتينِ في الحَضَرِ؛ بسببِ المطرِ والبردِ ، فإذا نزلَ المطرُ الذي فيهِ مشقةٌ فإنهُ تُجمَعُ لأجلِهِ صلاةُ المغربِ والعشاءِ باتفاقِ العلماءِ ، قالَ العلامةُ محمدُ بنُ ابراهيمَ رحمَهُ اللهُ ( أماَّ مُطلقُ المطرِ فلا ، وكذلكَ إذا لم تكنْ معهُ مشقةٌ فلا ) وقالَ رحمهُ اللهُ (أماَّ جَمْعُ العصرِ معَ الظُّهرِ فالذي عليهِ أئمةُ الدعوةِ رحمَهُمُ اللهُ وعليهِ العملُ عدمُ الجَمعِ حيثُ أنَّ المشقةَ في النهارِ أسهلُ منَ المشقةِ في الليلِ ) وقالَ رحمَهُ اللهُ ( الذي عليهِ أهلُ هذا البلدِ منذُ عشراتِ السنينِ هو عدمُ الجَمعِ بينَ الظُّهرِ والعصرِ ) ، إنتهى كلامُهُ رحمَهُ اللهُ وقد ذهبَ بعضُ أهلِ العلمِ إلى أنَّهُ لا يُجمَعُ بينَ الظُّهرِ والعصرِ ، وقالوا الجمعُ خاصٌ في الليلِ ، وأفتى أعضاءُ اللجنةِ الدائمةِ للإفتاءِ وعلى رأسهِمْ بنُ بازٍ رحمَهُ اللهُ ( بجوازِ الجمعِ بينَ المغربِ والعشاءِ من أجلِ المطرِ الذي يبُلُّ الثيابَ ويحصلُ معهُ مشقةٌ من تكرارِ الذهابِ الى المسجدِ لصلاةِ العشاءِ )
أيها المسلمون : مذهبُ أصحابِ الشافعيِّ وأحمدَ واختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمَهُمُ اللهُ تعالى ، أنهُ لا تفريقَ بينَ هذاَ وهذاَ ، ما دامَ قدْ ثبتَ الدليلُ عنِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنهُ قدْ جَمَعَ بينَ الظهرِ والعصرِ ,وكذا بينَ المغربِ والعشاءِ ، فلا تفريقَ بينهُما ،
أيها الإخوةُ في اللهِ : لنعلمَ جميعاً أنهُ لا يكونُ الجمعُ بينَ العشائينِ إلا بوجودِ عذرٍ شرعيٍّ كالمطرِ والبردِ والريحِ ونحوِ ذلكَ ، ويتأكدُ ذلكَ في الظُّهرينِ فيحرمُ الجمعُ بينَ الظهرِ والعصرِ إلا بوجودِ مشقةٍ عظيمةٍ وعذرٍ شرعيٍّ كمطرٍ شديدٍ جداً أو بردٍ ورياحٍ شديدةٍ ، خروجاً من خلافِ العلماءِ ، في مسألةِ جمعِ الظهرِ والعصرِ
أيها المسلمون : ولا يُجمَعُ بينَ صلاةِ الفجرِ وبينَ أيِّ صلاةٍ أخرى، ولا بينَ صلاةِ العصرِ والمغربِ ولا يُجمعُ بينَ صلاةِ الجمعةِ والعصرِ ، وأما كميةُ المطرِ الذي يُجمعُ لأجلهِ فقدْ قالَ أهلُ العلمِ : أنهُ المطرُ الغزيرُ الذي يَحملُ أوساطَ الناسِ على تغطيةِ رؤوسِهم ، وكذلك قالوا: المطرُ الذي يبلُّ الثيابَ، وكذلك قالوا : المطرُ المؤذي ، فلا يجوزُ الجمعُ للرشِّ الخفيفِ جداً الذي لا يؤذي ولا يسببُ وحلاً ولا طيناً ولا زلقاً ، وكذلك اشترطوا استمرارَ نزولِ المطرِ حالَ الجمعِ قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ : ولا يُجمعُ إلا والمطرُ مقيمٌ في الوقتِ الذي يُجمعُ فيه وكذلكَ ذكرَ العلماءُ أنهُ يجوزُ الجمعُ في الطينِ, والوحلِ إذا كان فيه خطورةُ الانزلاقِ, ولو كانَ المطرُ واقفاً.
ومن الأسبابِ التي يجوزُ الجمعُ بسببِها الريحُ الشديدةُ الباردةُ قالَ شيخُ الإسلامِ : يجوزُ الجمعُ للوحلِ الشديدِ، والريحِ الشديدةِ الباردةِ في الليلةِ المظلمةِ ونحوِ ذلكَ ، وإنْ لم يكنْ المطرُ نازلاً في أصحِّ قولي العلماءِ, وذلكَ أولى من أنْ يُصلوا في بيوتِهم ، والأصلُ في الرخصةِ أنها تَعُمُّ ، إذ يجوزُ الجمعُ حتى لمن كانَ بابُ بيتِهِ قريباً من المسجدِ, ومن كانَ يذهبُ إلى المسجدِ بالسيارةِ , ومنْ كانَ يمشي تحتَ سَقفٍ في طريقٍ مظللٍ فيجوزُ له الجمعُ، لأنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لم يفرقْ بينَ القريبِ والبعيدِ, وكانَ عليه الصلاةُ والسلامُ يخرجُ من بيتِهِ الملاصقِ للمسجدِ فيصلي بالناسِ ويجمعُ ،
نأتي أيها المسلمونَ للمسبوقِ وهوَ الذي دخلَ المسجدَ فوجدَهُم قد انتهوا من الصلاةِ الأولى وبدؤوا بالصلاةِ الثانيةِ فإنَّهُ يدخلُ معهم بنيةِ الصلاةِ الأولى وإذا دخلَ المسجدَ بعدَ انتهاءِ المصلينَ منَ الجمعِ كُلِّهِ جازَ له الجمعُ في مذهبِ الإمامِ أحمدَ رحمَهُ اللهُ تعالى وغيرِهِ ، وكذلكَ فإنَّ السننَ الرواتبَ تُرتَّبُ حسبَ ترتيبِها ، فإذا جمعوا المغربَ والعشاءَ ، فإنهُ يُصلي سنةَ المغربِ, وبعدها سنةَ العشاءِ, وبعدها قيامَ الليلِ إن شاءَ ولا حرجَ عليهِ إن شاءَ اللهُ تعالى
نسألُ اللهَ سبحانَهُ وتعالى أن يفقهَنا وإياكم في دينِه، وأن يعلمَنا ما جهلْنا, وأن ينفعَنا بما علمْنا إنه سميعٌ مجيبٌ ، أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الذي لا إلهَ إلا هوُ وحدهُ لا شريكُ له, له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، أشهدُ أنه اللهُ الحيُّ القيومُ ذو الجلال والإكرام، وأشهدُ أن محمدا ً عبدُهُ ورسولُه صلى اللهُ عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة المسلمون :
نأتي لموضوعٍ آخرَ ألا وهوَ الآذانُ والنداءُ بالصلاةِ في الرَّحالِ فقد اتفقَ الفقهاءُ على مشروعيَّةِ قولِ المؤذِّنِ عندَ المطرِ أو الرِّيحِ أو البردِ:"ألا صلُّوا في رِحَالِكم"، أو " الصلاة في الرِّحَال" ، استدلُّوا على ذلك بأدلَّةٍ,منها : حديثُ بنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما في صحيحِ البخاري :" أنه أذَّن بالصلاةِ في ليلةٍ ذاتِ بردٍ وريحٍ ثم قالَ: ألا صلوا في الرحالِ، ثم قالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ كانَ يأمرُ المؤذنَ إذا كانتْ ليلةً ذاتَ بردٍ ومطرٍ يقول:"ألا صلوا في الرحالِ"
ومنها حديثُ أسامةَ الهُذليِّ رضيَ اللهُ عنهُ عندَ أبي داوودَ وصححَهُ الألبانيُّ :" أنَّ يومَ حُنينٍ كانَ يومَ مطرٍ, فأمرَ النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ مناديهِ أنِ الصلاةَ في الرحالِ"
وحديثُ أسامةَ الهُذليِّ رضيَ اللهُ عنهُ عندَ ابنِ ماجه وصححهُ الألبانيُّ أنهُ قالَ:"لقد رأيتَنَا معَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ يومَ الحديبيةِ وأصابتْناَ سماءٌ لم تَبُلْ أسافِلَ نعالِنَا، فنادى منادي رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ :"صَلُّوا في رحالِكُم"
واختلفَ الفقهاءُ في موضعِ هذهِ الجملةِ: "الصلاةُ في الرحالِ"أو" ألا صلّوا في رحالِكُم" بعدَ اتفاقِهِمْ على مشروعيَّتِها، هل تُقالُ أثناءَ الأذانِ أمْ بعدَ الفراغِ منهُ ؟ على ثلاثةِ صِفَاتٍ :
أولُها : أنها تُقالُ في أثناءِ الأذانِ بدلاً منْ حيَّ على الصلاةِ ، وهو قولٌ للشافعيةِ وظاهرُ مذهبِ الحنابلةِ
والثاني : أنها تقالُ في أثناءِ الأذانِ , ولكنْ يقولُها بعدما يقولُ حيَّ على الصلاةِ وهو قولٌ للشافعيةِ
الثالثُ : أنَّها تُقالُ بعدَ الفَرَاغِ منَ الأذانِ كلِّهِ ، وهُو مذهبُ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ، وقولٌ للشافعيَّةِ
والأمرُ في هذا واسعٌ، سواءً قالَها في أثناءِ الأذانِ أو بعدَ الفراغِ منهُ فكلُّهُ جائزٌ، وكلُّها ثابتةٌ في السُنَّةِ ، ولكنْ الأولى أنْ يكونَ بعدَ الفراغِ منَ الآذانِ ، وهو رأيٌ لبعضِ الحنفيةِ، ومذهبُ الشافعيةِ
ليبقى نظْمُ الأذانِ على وضعِهِ" هذا وصلوا وسلموا على خيرِ البريةِ محمدِ بنِ عبدِاللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ