الخطبة الأولى
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن مِنْ حِكْمَتِه سُبحانَه, أَنْ يَبْتَلِيَ عِبادَه المؤمنينَ بِالقِيامِ بِنُصرةِ هذا الدين, والاعتزازِ به, والحرصِ على ظُهُورِه, وعَدَمِ اليَأْسِ مِنْ ذلك. لأَنَّ اللهَ تعالى وَعَدَ بِظُهُورِ هذا الدِّينِ على جميعِ الأَدْيان, واستمرارِه إلى قيامِ الساعة, كما قال تعالى: (( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )) وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( لا تَزَالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهرين، حتى يأتِيَهُم أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظاهِرُون ). وقال أيضاً: ( لَيْبُلغَنَّ هذا الأمْرُ ما بَلَغَ الليلُ والنهار, ولا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أَدْخَلَهُ اللهُ الإسلام, بِعِزِّ عَزِيزٍ, أو بِذُلِّ ذَلِيل. عِزّاً يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإسلام, وذِلاً يُذِلُّ اللهُ به الكُفْر ). فَدِينُ اللهِ لابُدَّ وَأَنْ يَظْهَرَ وَيَعْلُوَ على جميعِ الأديان. والغَلَبَةُ لأهلِه بإذنِ الله, وَلَوْ كَرِهَ الكافرون, واسْتَبْعَدَ ذلك المنافقون والمُخَذِّلُون. فَيَجِبُ على المسلمين أَنْ يَعُوا ذلك, وَأَنْ يَبْذُلُوا أسبابَ نُصْرَةِ هذا الدينِ بالطُّرُقِ المُشْروعة, فإنْ فَعَلوا نَصَرهُم الله, وَإنْ تَخاذَلُوا وَرَكَنُوا إلى الدنيا, فإنهم لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شيئاً, وَسَوْفَ يَذْهَبُ بِهِم, ويَسْتَبْدِلُهُم بِخَيْرٍ مِنْهُم, كما قال تعالى: (( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )) وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) وهذه الآيةُ يا عِبادَ الله, فيها فوائدُ عَظيمَة, يَجْدُرُ الإشارَةُ إلى بعضِها ، والّتي مِنْهَا :
أَنَّ اللهَ يَغارُ على دينِه, وغَيْرَةُ اللهِ على هذا الدين, أَشَدُّ مِنْ غَيْرَةِ عبدِهِ المؤمن, قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( المؤمنُ يَغار, واللهُ أشَدُّ غَيْرا ). ولذلكَ إذا تَخَلَّى المؤمنونَ عن نُصرَةِ دِينِه, ذَهَبَ اللهُ بِهِم, وأتَى بِقَومٍ خيرٍ منهم, يَنْصُرُونَ دِينَه, ويُعْلُونَ كلمتَه.
ومِنَ الْفَوائِد المُسْتَنْبَطةِ مِنْ الآيةِ السّابِقَةِ : البِشارةُ للمسلمين بَأَنَّ الظُّهُورَ لهذا الدين, كما سمعتُم مِن الأدلة.
وَأَنَّ مَنْ أرادَ نُصْرَةَ هذا الدين لابُدَّ وَأَنْ تَتَحَقَّقَ فيه الأسبابُ الشرعية, والأوصافُ التي ذكَرَها الله تعالى في كتابِه, وذكرَها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم في سُنَّتِه.
ومِنَ الْفَوائِد : أَنَّ هذه الأمةَ وَسَطٌ في أُمُورِ العقيدةِ والشريعة. والوَسَطِيَّةُ واضِحَةٌ تَمَامَ الوُضُوحِ مِنْ خِلالِ قَولِه: (( أَذِلَّةٍ على المؤمنين أَعِزَّةٍ على الكافرين )) فَهُمْ وَسَطٌ بَينَ فِكْرِ الخوارجِ الذين يَسْفِكُونَ دِماءَ المسلمين, وَبَينَ دُعاةِ الإنفلاتِ الذين لا يُقِيمُونَ لِعقيدةِ الوَلاءِ والبَراءِ وَزْنا.
فالخوارجُ ودعاةُ الغُلُوّ: قَدْ نالُوا مِنْ المسلمينَ فِي دِمائِهِم وأموالِهم وأعراضِهِم أَكْثَرَ مِمَّا نالُوا مَنَ الكفارِ وأعداءِ الإسلام. فَبَدَلاً مِنْ أنْ يَكونُوا أَذِلَّةً على المؤمنين, صارُوا عَذاباً عليهِم, وسيفاً مَسْلُولاً عليهِم. وهذا أمرٌ واضحٌ يَرَاهُ الناسُ ويَسْمَعُونَ به عَبْرَ جَمِيعِ الوَسائِل والقَنَوات, ويَعِيشُونَه واقعاً مريراً, لا يُنْكِرُهُ إلا صاحبُ هوى, أوْ مَنْ هوَ راضٍ بأفعالِهم. وأما دُعاةُ الإنفلات: وَمَنْ يَتَغَنَّوْنَ بالديمقراطيةِ والدولةِ المدنية, فَقَدْ باعُوا عقيدتَهم بِسَبَبِ ذلك, فلا فرقَ عندهم بين المؤمنينَ والكفار, ولا يَدِينُونَ بالحُبِّ في اللهِ, والبُغْضِ في الله. مَعَ العلمَ أَنَّ الولاءَ والبَرَاءَ رُكْنٌ في التوحيدِ, لا يَصِحُّ توحيدُ العَبْدِ إلا بِه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَىْ إِحْسَاْنِهِ ، وَالْشُّكْرُ لَهُ عَلَىْ تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَاْنِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَاْ إِلَهَ إِلَّاْ اللهُ ، وَحْدَهُ لَاْ شَرِيْكَ لَهُ تَعْظِيْمَاً لِشَأْنِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ الْدَّاْعِيْ إِلَىْ رِضْوَاْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَعَلَىْ آلِهِ وَأَصْحَاْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرَاً .
عبادَ الله: اتقوا اللهَ تعالى, واعْلَمُوا أن مِنْ أعظمِ أوصافِ المؤمنين الذين وَعَدَ اللهُ بِنَصْرِهِم في الآيةِ الكريمةِ التي سَمِعْتُمُوها, قَوْلَه: (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )) فَهُمْ لِلمؤمنينَ أَذِلَّة, مِنْ مَحَبَّتِهم لَهُم، ونُصْحِهِم لَهُم، ولِينِهِم ورِفقِهم ورأفتِهم، ورحمتِهِم بهم وسهولةِ جانِبِهم. وأَمَّا على الكافرينَ بالله، المُعانِدِين لآياتِه، المُكَذِّبِين لِرُسُلِه, أَعِزَّةٌ، قَدْ اجْتَمَعَتْ هِمَمُهُم وعزائِمُهُم على مُعَاداتِهم، وَبَذَلُوا جُهْدَهُم في كُلِّ سَبَبٍ يَحْصُلُ بِه الانتصارُ عليهم، مُقْتَدِين فِي ذلك بِسَلَفِ هذِه الأُمَّةِ, وَعَلى رأسِهِم محمدٌ صلى الله عليه وسلمَ وأصحابُه, الذين وَصَفَهُم اللهُ بِقَولِه: (( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ )) فالغِلْظَةُ والشِّدَّةُ على أعداءِ اللهِ مِمَّا يُقَرِّبُ العبدَ إلى اللهِ، ويُوَافِقُ العبدُ ربَّه في سَخَطِهِ عليهم. ولا تَمْنَعُ الغِلظَةُ عليهم والشدةُ, دعوتَهم إلى الإسلامِ بالتي هي أحسن. فَتَجْتَمِعُ الغِلْظَةُ عليهم، واللِّينُ في دعوتِهم، وكِلا الأمرينِ مِنْ مصلحتِهم, ونَفْعُهُ عائدٌ إليهم.
اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا ، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا بِرَحْمَتِكَ يَاْ أَرْحَمَ اَلْرَّاْحِمِيْنَ . اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا ، وَخَيْرَ أَعْمَارِنَا آخِرَهَا ، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ أَنْ نَلْقَاكَ ، وَاجْعَلْ آخِرَ كَلاَمِنَا مِنَ الدُّنْيَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله . بِرَحْمَتِكَ يَاْ أَرْحَمَ اَلْرَّاْحِمِيْنَ .
المفضلات