الخطبة الأولى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين


الحمدُ للهِ المبدئِ المعيدِ ، الفَعَّالِ لما يريدُ ، ذي العرشِ المجيدِ ، والبطشِ الشديدِ ، أشهد أن لا إلهَ إلا هو وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المبعوثِ بالقرآنِ المجيدِ ، صلى اللهُ وسلم عليه ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الوعيدِ ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ ) وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) : أما بعد : لقد كان النبيُّيبشّرُ المؤمنين بالنصرِ والتمكينِ ، وهم تحتَ وطأةِ التعذيبِ
عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً أخرجه الإمام مسلم في حديث عدد 2889 "
نعم سببزغ فجرالنصر، في أفق العز والشرف والكرامة ،و يُوشك أن تشرقَشَمسُ النصرِ ، فتحرق خفافيشَ ظلامِ الإجرامِ والعدوان من بني صهيون وأعوانهم ،فجنودُ اللهِ التي ينصرُ بها أولياءَهُ كُثر، ففي غزوةِ بني النضيرِ كان الرعبُ جندياً من جنودِ اللهِ، وفي غزوةِ بدرٍ ، كانت الملائكةُ والنعاسُ والمطرُ والحصى من جنودِ اللهِ ، وكانت الريحُ والعنكبوتُ وغيرُ ذلك من جنودِ اللهِ، وصدقَ اللهُ إذ قال : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هي إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ). فالنصر يأتي في شدة انتفاش البغي والظلم وتسرّب اليأس إلى قلوب الرسل فضلا عن المؤمنين ،يقولُ سُبحانه (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتبتلوا بما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهو شدة الحاجة والفاقة والضراء، وهي العلل والأوصاب ; ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني : ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهد حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون : متى الله ناصرنا. ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب، وأنه معليهم على عدوهم، ومظهرهم عليه، فنجز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
فقوله: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ) يدل على شدة ما أصابهم وزلزلهم من الضراء والبأساء، وقوله: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) بشارة من الله بالنصر في شدة الكرب، ووعد من الله لا يُخلِفُه وسيحققه لأوليائِه على أعدائِه. وقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الرعد: 110] أي : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذّبهم ، وظن الرسل أنّ أتباعهم المؤمنين قد شكّوا في صدقهم، وحاشا للرسل صلوات الله عليهم وسلامه أن ييأسوا من روْح الله وهم المعصومون ، وهم خير البشريّة .
فالنصر يأتي عندما يتسرب اليأس إلى نفوس أفضل المؤمنين يقينا ، وهم الرسل و تضيق عليهم الأرض بما رحبت ولكنهم لا ييأسون ، فيُنزل الله بأسه الشديدَ بالمجرمين ، جزاءً بما كانوا يعملون ،وقد كتب الله العز والعزةَ لِرُسلِهِ والمؤمنين ، والذل والذلة والصغار على أعدائه: فقالَ سُبحانه (كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 20].وسيحقق الله وعده للمؤمنين بنصرهم ، فَنَصرُ المؤمنين حق على الله أكده ، وكرر تأكيده ، لتقوية يقينهم بهذا الحق الذي تفضل به ، وفتح باب التفاؤل لهم ، ليستمروا في جهادهم وصبرهم ، وثباتهم على ذلك.قال الله سبحانه: (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].وقال الله سبحانه: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]فنصركُم أيها المجاهدون لرفع راية الإسلام والذود عن حوض الأمّة ، عند أرحم الراحمين ، والذي فضله ونصره وتوفيقه أقرب إليكم من حبل الوريد ، وكلما ازددتم له قربا بطاعته وتقربتم إليه بتحقيق عبوديته ، ازداد النصر والفلاح ، والفوز قربا إليكم.قال الله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [ الأنفال: 10].
قال أبو جعفر محمد بن جرير: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ)، يقول: وما تُنصرون على عدوكم -أيها المؤمنون- إلاَّ أن ينصركم الله عليهم, لا بشدة بأسكم وقواكم, بل بنصر الله لكم, لأن ذلك بيده وإليه, ينصر من يشاء من خلقه. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يقول: إن الله الذي ينصركم، وبيده نصرُ من يشاء من خلقه ، عزيز لا يقهره شيء , ولا يغلبه غالب، ألم تر ما فعل القاهر عزّ وجلّ بفرعون وجنوده ، ألم تر ما فعل الجبّار سبحانه وتعالى بالنمرود وأعوانه ..فإنّك أيّها العبد مهما تجبّرت لن تبلغ ما بلغه فرعون والنمرود من جبروت ..
عباد الله ، إنّ النصر لا يأتي إلا من عند الله ، وخاصة عندما يكون المؤمنون أحوج ما يكونون إليه، وعندما يتبرأ الناس من حولهم وقوتهم ، ويلوذون بحول الله وقوته، وعندما تغلق الأبواب في وجوههم، وتنقطع الأسباب دونهم ، فعند ذلك ينزل النصر. وهذه قضية عقائدية تكررت مرات عديدة في القرآن ، وفي تاريخ المسلمين.واستمع يا عبد الله إلى التكبير ، الذي يجلجل في فلسطين المحتلّة وغيرها من البلاد الإسلاميّة المقهورة ، وما يقذف الله في قلوب الطغاة وجنودهم من الرعب،مصداق قوله سبحانه وتعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [ الأنفال: 12].ولا يتمالك المسلم دموعه ، عندما تَلُجُّ الساحات بقولِهم: "ما لنا غيرك يا الله"،ألا فَأبشِروا بنصر الله (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)
عباد الله ،سيعود حكم الإسلام إلى الأرض كما أخبرنا الرسولصلى الله عليه وسلم؛ فعن ابْن حَوَالَةَ رضي اللهُ عنهُ عن رَسُولُ اللَّهِقَالَ: { يَا ابْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ، مِنْ يَدَيَّ هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ}رواه أحمد أبو داود والحاكم، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِقَالَ:{ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَر، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّه، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ} رواه الشيخان. أي : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم ، وظن الرسل أن أتباعهم المؤمنين قد شكوا في صدقهم.
فهذا هو سبب زراعة اليهود لشجرة الغرقد في أغلب الاماكن حتى يختبئون وراءها .
وهذا دليل صحيح صريح أن القوة ستكون للمسلمين، وأن هذه القوة سيسبقها عودة إلى الإسلام مصدر قوة المسلمين وعزتهم ، وتمسكهم بدينهم ، سبب ظهورهم ونصرهم ، وتمكين الله لهم ، واستخلافهم في الأرض من بعد عدوهم.
نسأل المولى العزيز العليم أن يحرّر أرض فلسطين شبرا شبرا من دنس آل صهيون، كما نسأله عزّ وجلّ التمكين للأمّة الإسلاميّة والثبات على الحقّ ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم .