الخطبة الأولى
الحمد لله منّ علينا بخير الشرائع وأوفاها، وعلِم جهر كل نفس ونجواها، وعظّم شأن أمْنِهَا تعظيمًا لا يتناها، وحفظ لها دينها وأنفسها وعقولها وأموالها مبدأها ومنتهاها ، أحمده تعالى وأشكره، سبحانه من إله عظيم، وربٍّ رحيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، المبعوث بأشرف الملل وأزكاها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا .
أمّا بعد: أيها الناس / خيرُ ما يَُتَواصى به الْمؤمنون الكرام ، تقوى الملكِ العلّام ، فتقواه حفظ للسالف والأمام ، قال ربُّ الأنام
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))
عباد الله / أُمّتُنا الإسلاميةُ اليومَ تُعاني ويلاتُ الحروبِ المدمرة ، والكوارث المهلكة ، جرّاء تسلط الأعداء ، وتكالبُهم على قَصْعتهم الواضح ، واعتدائِهم على ثرواتنا الفاضح ، واستيلائهم على مواردنا ومقدراتنا ، وفي المقابل يطرقُ الخـُلّص منهم أبوابَ النّصر والتمكين ؛ والّتي منها مارواه البخاريُّ عن مصعبَ بن سعدٍ رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال (( هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُم (( فالإسلامُ عُنِيَ بمبدأ الترابطِ بين عمومِ المسلمين ، وخصوصاً بشأن الفقراء والمساكين ومن على شاكلتهم من اليتامى والأرامل ، فَكم وكم من بين المسلمين اليومَ من فقيرٍ قتله الجوعُ الماحص ، ومسكينٌ أهلكه البردُ القارص ، وعائل يتلمس الطعام ، ليُشبِعَ أبناءَه الفئام ، وأرملة حول القمامة من الجوع تتضور ، لتطعم أطفالها الصغار القصَّر ؛ فلا ناصرَ لهم إلا الله ثم أنتم عباد الله فهم ضعفى مظلومونَ ودعاؤُهم أرجى بالقَبول لأنهم يستشعرون بتخلي جميعُ الأسباب الْمُعِينة لهم مع صبرهم على الأقدار فيزدادون افتقاراً واضطراراً ولجوءً وتضرعاً إلى الله فيأتي النصر من الله؛ لاسيما وأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ )) رواهُ أبوداود وصحّحه الألباني رحمه الله .
فيا أيها المسلمون الكرام/ أيْنَ الأُخُوّةُ والْوِئَام ، ونحن أمّةُ الأُلفة والتراحم ، وأهلُ العطف والتلاحم ؟ ألسْنا مسلمين ، أخوة متحابين ؟ ألم تقرءوا قول الله : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )) أم لم تتأملوا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم عندما قال كما في حديث عائشةَ رضي الله عنها (( لَيْسَ بِالمُؤْمنِ الّذي يبيتُ شَبْعاناً وجارُهُ جائِعٌ إلى جَنْبِهِ )) صححه الألباني رحمه الله .
عباد الله / المالُ تِمْحيصٌ لِلأغنياء ، وابتلاءٌ للفقراء ، فَكُلٌّ يغدوا في ميدان التسابق ، ويَجْري في مِضمار التلاحق ، لِيبتليَ الله الشاكرَ ، ويُعَلِّمَ الصابر ، فيا أيها الأغنياء الموسرين ، تفقّدوا الفقراءَ المنكسرين ، والمساكين المعوزين ، تكونوا من الفائزين ، وتنالوا رضا العزيز العليم (( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )) وقال صلى الله عليه وسلم ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ )) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
عباد الله / كما أنّ دينَنا دعا إلى النفقة المبذولة فإنه جعل ركناً عظيماً من أركانِ الإسلام ومبانِيهِ العِظام، هو ركنُ الزكاة فريضةٌ واجِبة ، فَهي حقٌّ معلوم ،وجُزء مَقسوم ،وسَهم محتوم، أوجَب الله على كلِّ من ملَك نصابًا وحال الحولُ عليه إخراجَه إلى من لا مالَ له ، ولا كِفاية عِنده ، وِقايةً لمالِ الْمُزَكّي من الآفات، وسَببًا للزيادة والتَّضعيف وحصولِ البركات.
عباد الله / في إيجابِ الزّكاةِ مواساةٌ للفقراء ،ومَعونة للبُؤَساء والضعفاء ،وصِلةٌ بين ذوِي الحاجاتِ والأغنياء ,وعونٌ على مجانبة البُخل والشّحِّ والإباء عن العطاء؛ فكم سدَّت مِن خَلّة، وكَم جبرت من فاقَة، وكم فرَّجت عن معسِر ، فضائلُها لا تعَدّ وبَركاتها لا تحَدّ ، هي بُرهانٌ وعنوان على صِدق الإيمان، وفُرقانٌ بين المنافقِ الجَموع المَنوع ، قد توعد الله مانِعَها بقوله ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ))
وقال صلّى الله عليه وسلّم (( من آتَاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرَع له زبيبتان، يُطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه ـ يعني بشِدقَيه ـ ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزك))، ثم تلا: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) رواهُ البخاري فيا مانِعَ الزَّكاةَ، أنسِيتَ أن الأموالَ عارِيَةٌ عند أربابها وودِيعةٌ عند أصحابها؟! أنَسيتَ أنّ الزّكاة يعود نفعُها عليك ويرجِع ثوابها إليك؟ ويامَن وفَّقك الله لِأدائها وأعانَك على إخْراجها، جعلها الله لك طَهورًا ،ونورًا ،وقربَة ،وهناءَةً ،وسرورًا، وآجَرك الله فيما أعطَيتَ، وبارك لك فيما أنفَقتَ، ((وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ)) بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمَعون واستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيِّدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد .. عباد الله / اتّقُوا الله َوراقِبوه وأَطِيعوه ولا تَعْصَوْه، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))
عباد الله / هَلّا تذكرنا في لحظة النشوةِ والفرحِ والسعادة ، أنّ هناك أناسٌ يَعيشون حياةَ الْبُؤْسِ والْحُزْنِ والألمِ والمرض وشِدّةِ الْجُوع ، نَنْعَمُ بخيرِ الأطعمة ، وأجْود أنواعِ المشروبات ، وأفْضل أنواعِ الألْبسةِ وَهُم على النّقيض من هذا .
فأنْفقوا أيّها الناسُ مِنْ أمْوالِكم ، أَطْعِمُوا الْبَاِئسَ الْفقيرَ ، اُكْسُوا العُراةَ من المْسلمين ، احْمِلُوا الْحُفاة منهم ، فالجنّة هناك ، والْعَوْنُ من الله هناك ، قال صلى الله عليه وسلم ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا ، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ ، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا جَلَسَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيَمَنْ عِنْدَهُ ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ )) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
عباد الله / إنّ الله أمَرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثَنّى بملائكته المسبّحة بقُدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون من جنِّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))
* حسب تعميم وزارة الشؤون الإسلامية .
المفضلات