[align=justify]حين يتعبك البحث عن وطن لك بين الأحياء ، وحين تضيق بك الأرض بما رحبت ، وتشعر أنّك قد أوشكت على أن تكون من سقط المتاع ، وحين يتخيّل إليك أنّك سائر نحو الّلاّشيء ومتّجه نحو اللاّ معلوم ، فإنّ شعوراً غريباً ينتابك مفاده : أنه لا مناص لك من البحث عن وطن بين أجساد الأموات ، وفي الزوايا المظلمة للمقابر ، ونظراً لأنّ أحداً من الأموات لم يعد ليخبرك الحقيقة ، فإنك تجد نفسك مضطرّا للذهاب بنفسك للبحث هناك ، وحتماً أنت كغيرك إن ذهبت فلن تعود حتى تخبرنا الحقيقة ، مما سيضطرّ غيرك للسير على خطاك ليذهب إلى حيث ذهبت ويستقرّ هناك ويتركنا لنفس التساؤل : "هل هناك من وطن" ؟! ، وهكذا حتى تغطّي كثبان الرمال هنا آثار أقدام ذهبت ولم تعد .
صفعة هناك أضرمت ناراً في جسد هزيل فوجّهت صفعات على خدود البشرية نتج عنها بركان غضب ما لبث سريعاً أن انفجر ليحول المكان بأسره إلى نار تلظّى يصطلي بنارها الأسعد والأشقى على حدّ سواء .
وهنا ... صفعات تتلوها صفعات وركلات تعقبها ركلات ، وقلوب تموت في اليوم آلاف المرّات حزناً وكمداً ، وأحلام تغتال على مرأى ومسمع من أصحابها ، وطفولة تبيع الابتسامات على شفاه الأرصفة ، وشباب يقرأ في تجاعيد شيبانه وعجائزه ما لم يخطر ببال غاندي وجيفارا ، ولولا مزيد صبر وبقيّة إيمان يبدو أن الله قد خصّ بهما قلوب المصفوعين ، لعانقت ألسنة النيران عنان السّماء ، ولأضاءت لها أعناق الإبل ببلاد سام .
جسد هزيل سرعان ما اشتعل وسرعان ما انطفأ ، اختار بنفسه النهاية التي يريد وسيحاسبه الله الذي هو أرحم به من الجميع ، لكنّه لم يعلم بأن رسالته التي أرسل لم يتجاوز تأثيرها نصف ليلة ، قام البعض على إثرها بإقامة حفل شواء من التصاريح الكاذبة على تلك النار التي أضرمت في ذاك الجسد الهزيل ثمّ ! .... عادت ريمة لعادتها القديمة ، وكأنّ ناراً لم تضرم ، وكأنه لا يوجد أجساد قد أيبستها السنون العجاف وهي قابلة للاشتعال حزناً وكمداً في أي لحظة .. والله المستعان .
غادر وترك لأهله إكمال بقية فصول المعاناة بعده والتي ستكون أوّلها بلا شك معاناة استخراج شهادة وفاة لرجل مات حرقاً قبل أن يشعل النّار في نفسه ! ، غادر وترك لنا النقاش في الأسباب المؤدية لمثل هذا الفعل مع أنها واضحة وضوح العيان للجميع وإن كان أولها ضعف التوكل على الله ولا شكّ ، وأنها مهما تعددّت فإن مصدرها واحد ، وهو نفسه مصدر الحزن الذي يشتعل في صدور الكثيرين منذ عقود ، والذي أضعفهم عن مواجهة أي حزن آخر فباتوا كالجمل المتعب والذي ظنّ السفهاء أن ظهره قد انقصم بسبب قشّة !.
غادر في ليلة ظلماء .. أم ليلة ظلم ؟! لا أحد يدري .. ولكنّه ربما أراد أن يعيد صياغة ذاك المثل الشهير مرة أخرى ليصبح : وفي ليلة "الظلم" ينتحر "البدرُ" !.[/align]
المفضلات