من قلب الصحراء
(خوينا) ما نصلبه بالمصاليب
(للتآخي عند البدو تقاليد طريفة, حيث يقف المتآخيان وسط حشد من الرجال وجها
لوجه, ويمسك كل منهما صاحبه من حزامه, ويرفعان اليمين ويرددان قسم الولاء
" والله, والله إخوان.. إخوان طول الزمان.. واللي يبوق يبوق به الله). هذا نص
من مقدمة كتاب رحلة إلى نجد الذي وثّق لرحلة ومشاهدات الرحالة البريطانية (آن
بلنت) التي طافت أجزاء من شمال الجزيرة العربية في الربع الأخير من القرن
التاسع عشر الميلادي. هذا التقليد (الشكلي) ربما اتخذته بعض القبائل التي كانت
تستقر في الشمال, لكن التآخي أو (الخوة) ميثاق ورابطة كانت راسخة في طبائع
كل سكان الجزيرة العربية وتقاليدهم.
من الإصدارات الحديثة ثمة كتاب صغير في حجمه غني بمادته وبوضوح منهجية
الباحث المحقق المدقق بعنوان مسائل الجوار والحماية عند البادية في الجزيرة
العربية للأستاذ قاسم بن خلف الرويس, وهو يبحث؛ وفقا لتقديم الناشر, في مسائل
الحماية والجوار في بادية الجزيرة العربية كموضوع يعطي تصورا عن الشيم
العربية النبيلة والعادات والتقاليد الأصيلة في تفصيل على عدة محاور شملت
النواحي الاجتماعية والقانونية والسياسية.
في تناوله لما كان يعرف بالثلاث البيض, وأحدها عهد الخوة, نقل الرويس ما يفيد
أن ما كان يسمى خوي الجنب أو الخوي المباري هو الرفيق أو المرافق في
الطريق الذي يجب تقديره واحترامه ومراعاته, وحمايته والأخذ بثأره إن قُتل أو ردّ
حقه إن سُلب أو وقع عليه اعتداء, وعدم تركه وحيدا إذا أصيب أو مرض خلال
ارتحال (الخويا). وفي معرض استشهاده بالأمثلة ذكر بيت الشعر التالي:
خوينا ما نصلبه بالمصاليب
ولا يشتكي منا الجفا والعزاري
وأسمع أن الشطر الأول من البيت سرى مسرى المثل, والدلالة أن (الخوي) لا
يترك وحده في المآزق مهما تكلف الأمر, ويقال إن الشطر كان شعارا اتخذه؛ قبل
عشرات السنين إبان دخول السيارات للمنطقة, مهربو الأطعمة والمواد الأخرى
عندما يجلبونها من الدول المجاورة فكانوا يتحاشون النقاط الحدودية تهربا من دفع
الرسوم الجمركية, وإذا وقع أحدهم في مأزق المطاردة كان (خوياه) يناورون
بالسيارات في محاولات لإبعاد الدوريات مرددين (خوينا ما نصلبه بالمصاليب),
ولهذا يشاع خطأ أن وراء البيت قصة حدثت لأحد المهربين. ويتردد بين كبار هواة
الصيد والترحال البري (المتخاوين) أحيانا هذا الشطر إذا واجهت أحدهم معضلة
تتطلب التدخل والمساعدة. لكن ما المقصود بالصلب والمصاليب؟
المصاليب- نقلا عن معجم التراث- للمؤرخ الأديب سعد بن جنيدل- مفردها
المصلاب وهي عصيّ الشداد وعصيّ المسامة التي تشد على رؤوسها ويركب
عليها, ولكل شداد أربع عصي. والشداد والمسامة مما يستعمل للركوب والحمل
على الإبل.
ولقد فرضت قديما قسوة تعايش بعض أبناء الصحراء في رحلات الغزو والاقتتال أو
الإصابة بالمرض أثناء الهرب والارتحال أن يتعاملوا مع الفرد المصاب بأحد
خيارين, الأول تركه عند جماعة يجدونهم في الطريق أو تركه وحيدا يفترش
الأرض ويلتحف السماء على أمل أن يشفى ويلحق بجماعته فيما بعد أو يواجه
مصيرا آخر فتنقطع أخباره. والحل الآخر حمله بمعيتهم في القافلة على ظهر ذلول
وشده على المصاليب.
وفي (من القائل) للأديب عبدالله بن خميس أورد قصة هذا البيت, وهي خلاصة لا
تخرج عما جاء في الجزء الرابع من كتاب (من شيم العرب), فتحت عنوان (لولا
وجود القصيدة لضاعت القصة) قال مؤلف الكتاب فهد المارك إنها حدثت في عام
1280هـ على وجه التقريب لنفر من بلدة الرس أثناء عودتهم من الحج, حيث
أصيب أحدهم واسمه جارد بن ذياب فلما تداولت المجموعة الأمر قرر قائد الحملة
واسمه صالح بن رخيص حمل المصاب على راحلة رغم عدم استطاعته تحمل ذلك
بينما برز من بين (الخويا) شاب اسمه خالد العلي الريس رافضا إجبار جارد على
ما لا يحتمله وقرر أن يبقى في المكان يعتني بصاحبه حتى يشفى أو يلقيان المصير
المحتوم, ولم يأبه بالقافلة وهي تتركهم في المكان لوحدهما. وبقي هذا الشهم
يعتني بصاحبه لمدة ثلاثة أشهر وقد عاشا على لحم الصيد ثم عادا لم برئ المصاب.
وثمة توثيق آخر لهذه القصة في كتاب شعراء من الرس لفهد الرشيد يحدد مكان
وقوف القافلة وهو جبل بلغة, وأن الرجل أصيب بمرض الجدري مما يفسر عدم
قدرته على الركوب ولا تحمل أن يشد جسمه على المصاليب, وأن الشاب الشهم
اسمه محمد بن منصور بن الريس الذي كان قد أرسل مع القافلة قصيدة (رسالة)
إلى والدته, ومنها:
يا بن رخيص كب عنك الزواريب //عمارنا يابن رخيص عواري
خوينا ما نصلبه بالمصاليب //ولا يشتكي منا الجفا والعزاري
لازم تجيك أمي بكبده لواهيب //تبكي ومن كثر البكا ما تداري
تسألك باللي يعلم السر والغيب //عن ابنها اللي لك خوي مباري
قل له قعد بعاليات المراقيب //في قنة ما حوله إلا الحباري
يتنى خويه لين يبدي به الطيب //والا فيجري له من الله جاري
وأكثر ما تعرف هذه الحادثة بقصة أبا الضلعان, وتفسير ذلك كما عرفته من اللواء
المهندس عبدالعزيز بن علي الضلعان, أن الشاب هو جد أسرة الضلعان من أهالي
مدينة الرس وأن أكبر أحفاده (الأحياء) هو محمد بن عبالله بن منصور بن محمد
بن منصور الريس الوهبي التميمي, وسبب التسمية بالضلعان نشأت بعدما قيل لأم
محمد الريس واسمها مزنة البريك أن ابنها ترك مع (خويه) في مكان تحيط به
الضلعان (جمع ضلع, ويقال للمكان المرتفع من كل شيء القنة). وكان أقرباء
وجيران الأم أثناء غياب ابنها آنذاك يسألونها بين فترة وأخرى (ما جاء محمد أبا
الضلعان), ولما عاد أطلق عليه اللقب وسمي فيما بعد محمد الضلعان.
بقي أن أختم بأبيات للشاعر عبيد بن علي الرشيد:
وذلك توضيح لعدم الخلط بين القصيدتين,
طلبت ربٍ يعلم السر والغيب = يقبل صلاتي له ويقبل صيامي
ويجعل لناعرضٍ نزيهٍ عن العيب = ويـفكنا من شر سوالآثامي
ابن ادمملفا الردى والعذاريب = لو ما فعل رميت عليه التهامي
جليت عن نفسي شبه الشك والريب = ولا احسب يلقون العرب بي كلامي
وربعيلقوبي عقب شيبي عذاريب = بتسطير كذب مفسرين الحلامي
قلت اخبروني ويش معنى هاك العيب = قالوا علـى ساقة رفيقك تحامي
قلت ان هذامن قديم ٍ لنا عيب = مستارثـينه مـن خوال وعمامي
العيب ترك المعرضة بالمواجيـب = ولا الرفيق بفزعته مانلامي
رفيقنا كنه بروس الشخانيب = في رأس حيدٍ نايفٍ ما يضامي
ورفيقنا مانجدعه للقصاصيب = يجبر بنا لو هو كسير العظامي
ورفيقنا لوهو من الجد بصليب = متعلقٍ معنا برأس السنامي
هاذي قدايمنا ليا عدوّا الطيب = ونذرا ليا هبـّت لنا بالولامي
ويوم الوغى ما نستشير الأزوارليب = ليا طار عن سود العيون اللثامي
ومركاضنا يشبع به الطير والذيب = ونروي معاطيش السيوف الظوامي
نلحق على سردٍ يجنك جناديب = بمطارقٍ مع مثل صـف النعامي
.
.
-------------
المفضلات