بسم الله الرحمن الرحيم
أول جمعة في رمضان 33هـ
الحمد لله ، الذي نور بجميل هدايته قلوب أهل السعادة ، وطهر بكريم ولايته أفئدة الصادقين ، فأسكن فيها وداده ، وحرس سرائر المؤمنين ، فطرد عنها الشيطان وذاده ، أحمده سبحانه من إله ؛ حليم لا يعجل ، وكريم لا يبخل ، رفع السماء بغير عمد ، وبسط الأرض ومهد ، غني لا يحتاج لأحد ، من اطاعه رشد ، ومن كفر به ، أدار عليه دائرة السوء وأباده .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة أرجو بها الحسنى وزيادة . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الهادي إلى سبيل السعادة ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، الذين أوضح الله بهم حجج الدين وأحكام العبادة ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله ، اتقوا الله بفعل أوامره ، وبالبعد عما نهاكم عنه ، فإنكم في شهر التقوى ، يقول تبارك وتعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
ذكر الإمام أحمد في مسنده ، أن ثلاثة من أصحاب النبي من الأنصار ، كانوا متآخين ، جمعت الأخوة الإسلامية بينهم ، فخرج أحدهم في سرية ، فمات شهيدا ، ثم بعد ذلك بفترة ، خرج الثاني أيضا في سرية ، ومات شهيدا ، وبقي الثالث ، فعاش بعدهما فترة من الزمن ، وكانت فترة طويلة ، ثم مات على فراشه ، فكان الناس يتمنون أن لو مات الثلاثة كلهم شهداء ، ليكونوا عند الله في منزلة واحده .
يقول أبو طلحة الأنصاري وكان من المتعجبين من أخوة هؤلاء الثلاثة ، يقول : فسألت الله أن يريني إياهم في المنام ، فرأيت عجبا ! ما ذا رأى أيها الأخوة ؟
رأى الذي مات على فراشه ، يسبق الشهيدين منزلة عند الله . يقول : فتعجبت ، وذهبت إلى النبي ، فقلت : يا رسول الله ! رأيت عجبا ! وقص عليه ما رأى ، فقال : (( أليس قد صلى بعدهما كذا وكذا صلاة ؟ أليس قد أدرك رمضان فصامه ؟ )) قلت : بلى يا رسول الله . قال : (( فو الذي نفسي بيده ، إن ما بينهما لأبعد مما بين الشرق والمغرب )) .
فتأملوا أيها الأخوة ، بماذا أدرك هذا الصحابي تلك المنزلة عند الله ؟ أدركها بصلاته وصيامه .
فإدراكنا لشهر رمضان ـ أيها الأخوة ـ نعمة والله نُغبط عليها ، كثير هم الذين حرموا هذه النعمة ، وحيل بينهم وبينها ، أنتم معشر الأخوة ، في هذه الشهر ، ما بين صيام وقيام ، وصدقة وقراءة قرآن إن أحسنتم ؛ ولكن هناك من يتمنى ، أن يتهيئ له مثل هذه الأعمال الصالحة العظيمة ، ولكنه لا يستطيع ، لا يستطيع إما لمرض ، وإما لضلال وفساد وانحراف ، وإما وافاه الأجل ، فمات قبل أن يدرك شهر رمضان .
فاحمدوا الله ، احمدوا الله ـ أيها الأخوة ـ ففي الحديث عن أبي هريرة يقول : (( كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله : إلا الصيام فإنه لي وأنا اجزي به ، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي . للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) .
فهنيئا لكم ـ معشر الصائمين ـ هذا الأجر وهذا الثواب من الله .
أيها الأخوة ؛ الأعمال تضاعف ، الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصيام ، فالصائمون ، أجرهم يتعدى المضاعفه ، أجرهم لا يعد ولا يحصر ولا يحصى ، لأن الصيام من الصبر ، كما جاء في الحديث المرفوع عن سلمان : (( هو شهر الصبر ، والصبر ثوابه الجنة )) والصابرون كما قال : إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ يوم القيامة ، أهل الأعمال الصالحة ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ تحسب أعمالهم ، الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلا أهل الصيام ، إلا أهل الصبر ، الذين صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصية الله ، وصبروا على اقدارالله ، وهذه كلها في الصيام ، فإنهم يوفون اجورهم بغير حساب ، نسأل الله من فضله ، فهنيئا لكم معشر الصائمين ، هذا الأجر العظيم ، والثواب الجزيل ، من الكريم سبحانه .
ايها الأخوة المؤمنون :
إن هذا الشهر العظيم ؛ ماهو إلا أيام قلائل ، كما قال تبارك وتعالى : أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ، تأمل أخي ؛ أيام معدودات ، سرعان ما تنقضي ، وسرعان ما تنتهي ، كم ؛ ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما ، ما أسرعها ، فيجب على المسلم أن يتقي الله ويحفظ هذه الأيام ، يحفظها عن الحرام ، يصونها عما لايليق بها ، يتقرب إلى الله بترك شهواته وملذاته ، كما في الحديث : (( إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي )) يتقرب إلى الله ببعده عن معاصيه ومخالفة أوامره ، يقول النبي : (( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) وفي حديث آخر يقول : (( ليس الصيام من الطعام والشراب ، إنما الصيام من اللغو والرفث )) وقال بعض السلف : أهون الصيام ترك الشراب والطعام . ويقول جابر : إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ، ودع اذى الجار ، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء .
ايها الأخوة المؤمنون :
احفظوا صيامكم ، وصونوا أعمالكم ، فإن النبي يقول : (( رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر )) فاتقوا الله عباد الله ، لا سيما في هذا الشهر العظيم ، تأدبوا بآداب الصيام ، صوموا جوارحكم ، كما تصومون بطونكم ، فالأذن تصوم ، والعين تصوم ، واللسان يصوم ، احفظوا هذه الجوارح عما حرم الله ، جعلني الله وإياكم في هذا الشهر من الفائزين .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
وكما سمعتم في الأية ، عن مقدار رمضان ، فما هو إلا أيام معدودات ، وللنفس مع هذه الأيام حيل شيطانيه ، فإنها تبرر للصائم ، أو لبعض الصائمين ، بأن يقضي وقته بما لا ينفع أحيانا ، فتجعله مثلا يكثر من النوم ، أو يصير شغله الشاغل الطعام والشراب ، فإذا أصبح صار همه فطوره ، وإذا أمسى صار همه سحوره ، أو يكثر من مخالطة الناس في الأسواق ، وهذه الأمور ـ أيها الأخوة ـ من مفسدات القلب والعياذ بالله ، يقول أبن القيم رحمه الله تعالى : وأما مفسدات القلب الخمسة فهي التي أشار إليها من كثرة الخلطة والتمنى والتعلق بغير الله والشبع والمنام ، فهذه الخمسة من أكثر مفسدات القلب ,
فا الله الله أيها الأخوة ، احفظوا أوقاتكم وخير ما تحفظ به الأوقات كتاب الله تعالى ، فشهر رمضان هو شهر القرآن.
أيها الأخوة المؤمنون :
ومما لا شك فيه ، أن كل واحد منا يتمنى لو يصوم يوما ويكتب له عند الله أياما ، فعلى من أراد ذلك صادقا جادا ، فعليه أن يبذل من ماله ، أو يبذل من طعامه وشرابه ، فالرسول يقول : (( من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيء ))
فكلما فطرت صائما كتب لك يوما كصيامه .
اسأل الله العظيم ـ رب العرش العظيم ، أن يوفقنا لهداه ، وأن يجعل عملنا في رضاه ، وأن يجنبنا ما يسخطه ويأباه ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك عز الإسلام ونصر المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين ، اللهم عليك باليهود المعتدين ، وبالنصارى الحاقدين ، وبكل من عادى عبادك المؤمنين .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين ، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
عباد الله :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون .
المفضلات