وكأنكم تركتوا لي صاحبي هذا عوضاً عن حاتم وليس لحاتمٍ عوض
أَبو تَمّام
188 - 231 هـ / 803 - 845 م
حبيب بن أوس بن الحارث الطائي.
أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنتين حتى توفي بها.
كان أسمر، طويلاً، فصيحاً، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمقاطيع.
في شعره قوة وجزالة، واختلف في التفضيل بينه وبين المتنبي والبحتري، له تصانيف، منها فحول الشعراء، وديوان الحماسة، ومختار أشعار القبائل، ونقائض جرير والأخطل، نُسِبَ إليه ولعله للأصمعي كما يرى الميمني.
يقول الصولي في رسالته لفاتك بن مزاحم في فضله:
حدثني محمد بن يزيد بن عبد الأكبر النحوي. قال: قدم عمارة بن عقيلٍ بغداد، فاجتمع الناس إليه، وكتبوا شعره، وسمعوا منه، وعرضوا عليه الأشعار، فقال له بعضهم: هاهنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طراً، ويزعم غيرهم ضد ذلك، فقال: أنشدوني له، فأنشدوه:
غَدتْ تستجيرُ الدمعَ خوفَ نوىَ غدِ**وعادَ قتاداً عندَهَا كـلُّ مَـرْقَـدِ
وأنْقَذَهَا مِنْ غَمْرَةِ الموتِ أَنَّهُ**صُدُودُ فِراقٍ لا صُدُودُ تَعَمُّدِ
فأَجْرَى لها الإِشْفَاقُ دَمْعاً مُورَّداً**من الدَّمِ يَجْرِي فَوْقَ خَدٍّ مُـوَرَّدِ
هيَ البدْرُ يُغنِيهاَ تَوَدُّدُ وَجْهِهاَ**إلى كُلِّ من لاقَتْ وَإِنْ لمتَوَدَّدِ
ثم قطع المنشد، فقال عمارة: زدنا من هذا، فوصل وقال:
ولكنني لم أحْوِ وَفْراً مُجَمَّعاً**ففُزْتُ بِه إلاَّ بشَمْلٍ مُبَدَّدِ
ولم تُعطِني الأيَّامُ نوماً مُسَكَّناً**أَلَذُّ به بنَوْمٍ مُشَـرَّدِ
فقال عمارة: لله دره، لقد تقدم صاحبكم في هذا المعنى جميع من سبقه على كثرة القول فيه، حتى لحبب الاغتراب، هيه!
فأنشده:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحَيِّ مُخْلِقٌ**لديباجَتَيْهِ فاغْتَرِبْ تَتَجدَّدِ
فإنِّي رَأيتُ الشَّمسَ زيِدَتْ مَحَبَّةً**إلَى النَّاسِ إذْ لَيْسَتْ عليهم بِسَرْمَدِ
فقال عمارة: كَمُل والله، إن كان الشعر بجودة اللفظ، وحسن المعاني، واطراد المراد، واستواء الكلام، فصاحبكم هذا أشعر الناس، وإن كان بغيره فلا أدري!
ومن ذكائه الحاد وسرعة بديهته أنه أنشد يمدح المعتصم فلم وصل الى قوله :
اقدام عمرو في سماحة حاتم**في حلم أحنف في ذكاء اياس
قيل له الأمير فوق ما وصفت وما فعلت في تشبيهه بأجلاف العرب فأطرق قليلاً ثم قال:-
لا تنكروا ضربي له من دونه** مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره**مثلاً من المشكاة والنبراس
ومن الحكم والأمثال المشهورة قوله:-
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى**مالحب الا للحبيب الأول
كم منزل بالأرض يألفه الفتى**وحنينه أبداً لأول منزل
وغيرها الكثير ولو تتبعنا حكمه ومحكم شعرة وعجائب طرائفه وقوة مواقفه لطال بنا المقام ولكن نختم حديثنا عنه بايراد أقوى وأشهر قصائدة بل وقصائد المدح على الإطلاق وهي قصيدته في فتح عمورية التي يمتدح فيها الخليفة العباسي المعتصم:
((السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ))
السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ**فِي حَدهِ الحَدُّ بَيْنَ الجِد واللَّعِبِ
بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي**مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ
والعِلْمُ فِي شُهُبِ الأَرْمَاحِ لاَمِعَةً**بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
أَيْنَ الروايَةُ بَلْ أَيْنَ النُّجُومُ وَمَا**صَاغُوه مِنْ زُخْرُفٍ فيها ومنْ كَذِبِ
تَخَرُّصَاً وأَحَادِيثاً مُلَفَّقَةً**لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ ولاغَرَبِ
عَجَائِباً زَعَمُوا الأَيَّامَ مُجْفِلَةً**عَنْهُنَّ فِي صَفَرِ الأَصْفَار أَوْ رَجَبِ
وخَوَّفُوا الناسَ مِنْ دَهْيَاءَ مُظْلِمَةٍ**إذَا بَدَا الكَوْكَبُ الْغَرْبِيُّ ذُو الذَّنَبِ
وَصَيَّروا الأَبْرجَ العُلْيا مُرَتِّبَةً**مَا كَانَ مُنْقَلِباً أَوْ غيْرَ مُنْقَلِبِ
يقضون بالأمرِ عنها وهْيَ غافلةٌ**مادار فِي فلكٍ منها وفِي قُطُبِ
لو بيَّنت قطّ أَمراً قبْل مَوْقِعِه**لم تُخْفِ ماحلَّ بالأوثانِ والصُّلُبِ
فَتْحُ الفُتوحِ تَعَالَى أَنْ يُحيطَ بِهِ**نَظْمٌ مِن الشعْرِ أَوْ نَثْرٌ مِنَ الخُطَبِ
فَتْحٌ تفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لَهُ**وتَبْرزُ الأَرْضُ فِي أَثْوَابِهَا القُشُبِ
يَا يَوْمَ وَقْعَةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفَتْ**مِنْكَ المُنَى حُفَّلاً مَعْسُولَةَ الحَلَبِ
أبقيْتَ جِدَّ بَنِي الإِسلامِ فِي صَعَدٍ**والمُشْرِكينَ ودَارَ الشرْكِ فِي صَبَبِ
أُمٌّ لَهُمْ لَوْ رَجَوْا أَن تُفْتَدى**جَعَلُوا فدَاءَهَا كُلَّ أُمٍّ مِنْهُمُ وَأَب
وَبَرْزَةِ الوَجْهِ قَدْ أعْيَتْ رِيَاضَتُهَا**كِسْرَى وصدَّتْ صُدُوداً عَنْ أَبِي كَرِبِ
بِكْرٌ فَما افْتَرَعَتْهَا كَفُّ حَادِثَةٍ**وَلا تَرَقَّتْ إِلَيْهَا هِمَّةُ النُّوَبِ
مِنْ عَهْدِ إِسْكَنْدَرٍ أَوْ قَبل ذَلِكَ قَدْ**شَابَتْ نَواصِي اللَّيَالِي وهْيَ لَمْ تَشِبِ
حَتَّى إذَا مَخَّضَ اللهُ السنين لَهَا**مَخْضَ البِخِيلَةِ كانَتْ زُبْدَةَ الحِقَبِ
أَتَتْهُمُ الكُرْبَةُ السَّوْدَاءُ سَادِرَةً**مِنْهَا وكانَ اسْمُهَا فَرَّاجَةَ الكُرَبِ
جَرَى لَهَا الفَألُ بَرْحَاً يَوْمَ أنْقِرَةٍ**إذْ غُودِرَتْ وَحْشَةَ السَّاحَاتِ والرِّحَبِ
لمَّا رَأَتْ أُخْتَها بِالأَمْسِ قَدْ خَرِبَتْ**كَانَ الْخَرَابُ لَهَا أَعْدَى من الجَرَبِ
كَمْ بَيْنَ حِيطَانِهَا مِنْ فَارسٍ بَطَلٍ**قَانِي الذَّوائِب من آني دَمٍ سَربِ
بسُنَّةِ السَّيْفِ والخطي مِنْ دَمِه**لاسُنَّةِ الدين وَالإِسْلاَمِ مُخْتَضِبِ
لَقَدْ تَرَكتَ أَميرَ الْمُؤْمنينَ بِها**لِلنَّارِ يَوْماً ذَليلَ الصَّخْرِ والخَشَبِ
غَادَرْتَ فيها بَهِيمَ اللَّيْلِ وَهْوَ ضُحًى**يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ
حَتَّى كَأَنَّ جَلاَبيبَ الدُّجَى رَغِبَتْ**عَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَم تَغِبِ
ضَوْءٌ مِنَ النَّارِ والظَّلْمَاءُ عاكِفَةٌ**وَظُلْمَةٌ مِنَ دُخَانٍ فِي ضُحىً شَحبِ
فالشَّمْسُ طَالِعَةٌ مِنْ ذَا وقدْ أَفَلَتْ**والشَّمْسُ وَاجِبَةٌ مِنْ ذَا ولَمْ تَجِبِ
تَصَرَّحَ الدَّهْرُ تَصْريحَ الْغَمَامِ لَها**عَنْ يَوْمِ هَيْجَاءَ مِنْهَا طَاهِرٍ جُنُبِ
لم تَطْلُعِ الشَّمْسُ فيهِ يَومَ ذَاكَ على**بانٍ بأهلٍ وَلَم تَغْرُبْ على عَزَبِ
مَا رَبْعُ مَيَّةَ مَعْمُوراً يُطِيفُ بِهِ**غَيْلاَنُ أَبْهَى رُبىً مِنْ رَبْعِهَا الخَرِبِ
ولا الْخُدُودُ وقدْ أُدْمينَ مِنْ خجَلٍ**أَشهى إلى ناظِري مِنْ خَدها التَّرِبِ
سَماجَةً غنِيَتْ مِنَّا العُيون بِهاعَنْ كل حُسْنٍ بَدَا أَوْ مَنْظَر عَجَبِ
وحُسْنُ مُنْقَلَبٍ تَبْقى عَوَاقِبُهُ**جَاءَتْ بَشَاشَتُهُ مِنْ سُوءِ مُنْقَلَبِ
لَوْ يَعْلَمُ الْكُفْرُ كَمْ مِنْ أَعْصُرٍ كَمَنَتْ**لَهُ العَواقِبُ بَيْنَ السُّمْرِ والقُضُبِ
تَدْبيرُ مُعْتَصِمٍ بِاللهِ مُنْتَقِمٍ**للهِ مُرْتَقِبٍ فِي اللهِ مُرْتَغِبِ
ومُطْعَمِ النَّصرِ لَمْ تَكْهَمْ أَسِنَّتُهُ**يوْماً ولاَ حُجِبَتْ عَنْ رُوحِ مُحْتَجِبِ
لَمْ يَغْزُ قَوْماً، ولَمْ يَنْهَدْ إلَى بَلَدٍ**إلاَّ تَقَدَّمَهُ جَيْشٌ مِنَ الرعُبِ
لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلاً ، يَوْمَ الْوَغَى ، لَغَدا**مِنْ نَفْسِهِ ، وَحْدَهَا ، فِي جَحْفَلٍ لَجِبِ
رَمَى بِكَ اللهُ بُرْجَيْهَا فَهَدَّمَها**ولَوْ رَمَى بِكَ غَيْرُ اللهِ لَمْ يُصِبِ
مِنْ بَعْدِ ما أَشَّبُوها واثقينَ بِهَا**واللَّهُ مِفْتاحُ بَابِ المَعقِل الأَشِبِ
وقال ذُو أَمْرِهِمْ لا مَرْتَعٌ صَدَدٌ**للسَّارِحينَ وليْسَ الوِرْدُ مِنْ كَثَبِ
أَمانياً سَلَبَتْهُمْ نُجْحَ هَاجِسِها**ظُبَى السُّيُوفِ وأَطْرَاف القنا السُّلُبِ
إنَّ الحِمَامَيْنِ مِنْ بِيضٍ ومِنْ سُمُرٍ**دَلْوَا الحياتين مِن مَاءٍ ومن عُشُبٍ
لَبَّيْتَ صَوْتاً زِبَطْرِيًّا هَرَقْتَ لَهُ**كَأْسَ الكَرَى وَرُضَابَ الخُرَّدِ العُرُبِ
عَداكَ حَرُّ الثُّغُورِ المُسْتَضَامَةِ عَنْ**بَرْدِ الثُّغُور وعَنْ سَلْسَالِها الحَصِبِ
أَجَبْتَهُ مُعْلِناً بالسَّيْفِ مُنْصَلِتاً**وَلَوْ أَجَبْتَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَمْ تُجِبِ
حتّى تَرَكْتَ عَمود الشرْكِ مُنْعَفِراً**ولَم تُعَرجْ عَلى الأَوتَادِ وَالطُّنُبِ
لَمَّا رَأَى الحَرْبَ رَأْيَ العين تُوفَلِسٌ**والحَرْبُ مُشْتَقَّةُ المَعْنَى مِنَ الحَرَبِ
غَدَا يُصَرفُ بِالأَمْوال جِرْيَتَها**فَعَزَّهُ البَحْرُ ذُو التَّيارِ والحَدَبِ
هَيْهَاتَ ! زُعْزعَتِ الأَرْضُ الوَقُورُ بِهِ**عَن غَزْوِ مُحْتَسِبٍ لاغزْو مُكتسِبِ
لَمْ يُنفِق الذهَبَ المُرْبي بكَثْرَتِهِ**على الحَصَى وبِهِ فَقْرٌ إلى الذَّهَبِ
إنَّ الأُسُودَ أسودَ الغيلِ همَّتُها**يَومَ الكَرِيهَةِ فِي المَسْلوب لا السَّلبِ
وَلَّى، وَقَدْ أَلجَمَ الخطيُّ مَنْطِقَهُ**بِسَكْتَةٍ تَحْتَها الأَحْشَاءُ فِي صخَبِ
أَحْذَى قَرَابينه صَرْفَ الرَّدَى ومَضى**يَحْتَثُّ أَنْجى مَطَاياهُ مِن الهَرَبِ
مُوَكلاً بِيَفَاعِ الأرْضِ يُشْرِفُهُ**مِنْ خِفّةِ الخَوْفِ لامِنْ خِفَّةِ الطرَبِ
إنْ يَعْدُ مِنْ حَرهَا عَدْوَ الظَّلِيم ، فَقَدْ**أَوْسَعْتَ جاحِمَها مِنْ كَثْرَةِ الحَطَبِ
تِسْعُونَ أَلْفاً كآسادِ الشَّرَى نَضِجَتْ**جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التينِ والعِنَبِ
يارُبَّ حَوْبَاءَ لمَّا اجْتُثَّ دَابِرُهُمْ**طابَتْ ولَوْ ضُمخَتْ بالمِسْكِ لَمْ تَطِبِ
ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِيضُ السُّيُوفِ بِهِ**حَيَّ الرضَا مِنْ رَدَاهُمْ مَيتَ الغَضَبِ
والحَرْبُ قائمَةٌ فِي مأْزِقٍ لَجِجٍ**تَجْثُو القِيَامُ بِه صُغْراً على الرُّكَبِ
كَمْ نِيلَ تحتَ سَناهَا مِن سَنا قمَرٍ**وتَحْتَ عارِضِها مِنْ عَارِضٍ شَنِبِ
كَمْ كَانَ فِي قَطْعِ أَسبَاب الرقَاب بِها**إلى المُخَدَّرَةِ العَذْرَاءِ مِنَ سَبَب
كَمْ أَحْرَزَتْ قُضُبُ الهنْدِي مُصْلَتَةً**تَهْتَزُّ مِنْ قُضُبٍ تَهْتَزُّ فِي كُثُبِ
بيضٌ ، إذَا انتُضِيَتْ مِن حُجْبِهَا**رَجعَتْ أَحَقُّ بالبيض أتْرَاباً مِنَ الحُجُبِ
خَلِيفَةَ اللَّهِ جازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَنْ**جُرْثُومَةِ الديْنِ والإِسْلاَمِ والحَسَبِ
بَصُرْتَ بالرَّاحَةِ الكُبْرَى فَلَمْ تَرَها**تُنَالُ إلاَّ على جسْرٍ مِنَ التَّعبِ
إن كان بَيْنَ صُرُوفِ الدَّهْرِ مِن رَحِمٍ**مَوْصُولَةٍ أَوْ ذِمَامٍ غيْرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيَّامِكَ اللاَّتي نُصِرْتَ بِهَا**وبَيْنَ أيَّامِ بَدْرٍ أَقْرَبُ النَّسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْرَاضِ كاسْمِهمُ**صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهَ العَرَبِ
المفضلات