مساء الخير
يتمتع الفاقدون لحاسة السمع بمجال بصري قوي وبقدرة ذات كفاءة كبيرة على استخدام حاسة الرؤية أعلى منها لدى الأشخاص العاديين، ويوظف الصم هذه القدرة في قراءة شفاه المتكلمين، لكن ذلك يؤثر على عمل أدمغتهم كما يقول الخبراء.
عندما يفقد أحدنا القدرة على السمع يبحث عن آلية أخرى تساعده على ذلك، وغالبا ما يكون ذلك من خلال رؤية و"قراءة" شفاه المتكلمين، لكن لا يمكن لفاقدي السمع التعرف إلا على 30 في المئة من الأصوات والكلمات عن طريق كشف حركات شفتي الشخص المتحدث، فإذا كان سياق الحديث معروفا لدى الفاقد للسمع غالبا ما تكفي نسبة الـ 30 في المئة هذه بالفعل لفهم معنى الجملة المنطوقة، غير أن الصم يتمتعون بقدرة عالية على ملاحظة ما يدور في مجالهم البصري ما يجعل قدرتهم البصرية أكثر كفاءة من الأشخاص العاديين المتمتعين بحاسة سمع كاملة، لكن هذه القدرة البصرية العالية تؤثر على عمل أدمغتهم كما يقول الخبراء.
وكان قد تمّ توظيف الأذن الصناعية منذ منتصف الثمانينيات لفاقدي حاسة السمع، وهي عبارة عن قوقعة صناعية تعويضية يتم زرعها لمساعدتهم على السمع بشرط سلامة العصب السمعي لديهم، وتعمل هذه القوقعة التعويضية عمل الأذن الداخلية التالفة حيث تحتوي على ميكروفون يستقبل الإشارات الصوتية القادمة من الخارج وعلى مُبدّل يحول هذه المعلومات الصوتية إلى إشارات كهربائية، تحفز العصب السمعي الذي ينقل بدوره هذه المعلومات الكهربائية إلى الدماغ في نهاية المطاف، ولكن الصوت الذي تنقله هذه الأذن الصناعية المزروعة لا يكون واضحا تماما، لذا قام الباحثون بإجراء دراسات حول آلية توظيف الدماغ لهذه الإشارات الصوتية وكيفية تأثيرها عليه وتم الحصول على نتائج بهذا الصدد. أحد هؤلاء الباحثين باسكال بارون من كلية الطب في جامعة تولوز الفرنسية.
قراءة الصم للشفاه تساعدهم على الفهم
فقد وجد باسكال بارون في أبحاثة أن الصم يستخدمون بعض مناطق النظام السمعي في أدمغتهم بما يخدم النظام البصري، ويتابع قائلاً :
"عندما يقرأ الصم البالغون شفاه المتكلمين بصرياً فإن مناطق السمع في قشرة أدمغتهم تكون نشطة أيضا، والمثير للاهتمام هو ما يحدث عندما يتم زرع الأذن الصناعية للصم، ففي هذه الحالة تصبح المناطق السمعية غير نشطة خلال قراءة الشفاه بصريا، لكن هذا الجزء السمعي من الدماغ يصبح نشطا مجددا في حال وجود أصوات، أي أنه يرجع إلى طبيعته المتمثلة في معالجة وتقييم المعلومات الصوتية".
الصم ذوو الأذان الصناعية بحاجة إلى مواصلة قراءة شفاه المتكلمين كي لا يفقدوا ملكتهم البصرية
لكن الأصوات التي يسمعها الصم بعد زرع قوقعة الأذن الصناعية لديهم تكون مشوهة وليست واضحة تماما، فعلى سبيل المثال هم يسمعون كلمة brother الإنكليزية والتي تعني أخ أو شقيق بشكل مشوه وغير واضح تماما، وهذا ينطبق على كل الكلمات والأصوات التي يسمعونها، وإذا كان الصم يعرفون معنى الكلمة، فإنهم يفهمونها، وبالتالي يمكنهم من خلال زرع الأذن الصناعية معاودة تبادل أطراف الحديث بشكل اعتيادي مع الآخرين.
ويؤكد باسكال بارون ذلك بقوله إن " الصم يعتادون على هذه المعلومات الصوتية المشوهة وبالتالي يفهمونها. النتيجة الإجمالية رائعة حقا".
لقد وجد العالم باسكال بارون أيضا أن الصم المزروع في آذانهم الداخلية هذه القوقعة الصناعية يستفيدون أيضا من حركة شفاه الأشخاص المتكلمين من أجل فهم أفضل، ويؤكد على أن " قراءة حركة الشفاه تساعد الصم على الاستيعاب الكامل بالإضافة إلى الأذن الصناعية، فالصم البالغون ذوو الأذن الصناعية يستطيعون فهم الكلمات المفردة بنسبة 80 إلى 85 في المئة بشكل صحيح دون قراءة حركة الشفاه، لكن إذا كان متاحا لهم قراءة الشفاه فإنهم يتمكنون من فهمها بنسبة 100 في المئة ".
الأذن الصناعية تقلل من القدرة البصرية للصم
بيد أن الصم يفقدون قدرتهم على التركيز البصري العالي بعد زرع القوقعة الصناعية في آذانهم الداخلية، فالمناطق السمعية الدماغية تستخدم في هذه الحالة فقط لسماع الأصوات، ما يجعلهم أقل مهارةً في قراءة حركة الشفاه، وعلى الصم تكثيف استخدامهم لقراءة الشفاه بالتوازي مع استفادتهم من الأذن الصناعية كي لا يفقدوا مقدرتهم على قراءة حركة الشفاه بشكل كامل كما يرى الباحث باسكال بارون:"نعتقد هنا في جامعة تولوز أن إعادة تأهيل الصم البالغين ينبغي أن تشمل تدريبهم على المهارات البصرية أيضا، ما من شأنه أن يحسن قدراتهم السمعية، ونحن ننطلق في رأينا هذا من حقيقة وجود تآزر وتعاون بين النظامين السمعي والبصري في الدماغ".
غير أن الصُّم لا يستفيدون من هذا التدريب السمعي البصري إلا إذا كانوا قد فقدوا سمعهم في مرحلة لاحقة من حياتهم عن طريق حادث مثلاً أو عن طريق مرض معين أو بسبب الهرم والتقدم في العمر، أما الأطفال الذين ولدوا وهم صم الآذان بشكل طبيعي، فيجب زرع قوقعة صناعية لهم تستبدل وظيفة آذانهم الداخلية وذلك قبل أن يُتمّوا الثلاث سنوات ونصف من العمر، بحسب الدراسة التي أجرتها الباحثة آنو شارما من جامعة كولورادو الأمريكية، والتي قامت خلالها بفحص إشارة الدماغ الكهربائية لألف طفل من الأطفال الرضع والأطفال الأكبر سنا منهم.
شابان فاقدان لحاسة السمع يتحدثان بلغة الإشارات
وخلصت دراستها أيضا إلى أنّ زرع الأذن الصناعية بعد سبع سنين من ولادة الأطفال يفوّت إمكانية السماع لدى الأطفال، فالأطفال بعد هذه السن لا يتمكنون من فهم الجمل والكلمات لأنهم لم يكونوا قد تعرفوا عليها ولم يكونوا قد تعودوا على سماع أصواتها من قبل، وكما تقول الباحثة آنو شارما: "يستطيع الأطفال الصم، ممن تجاوزت أعمارهم السبع سنوات والذين فاتت عليهم فرصة زرع الأذن الصناعية خلال الثلاث سنوات والنصف الأولى من أعمارهم، يستطيعون سماع الأصوات لاحقا إذا زرعت لهم الأذن الداخلية فالأصوات تصل بالفعل إلى قشرة أدمغتهم، لكنها لا تتعدى قشرة الدماغ إلى منطقة السمع في المخ، وبالتالي ينقطع التواصل بين قشرة الدماغ ومنطقة السمع، لذا يكونون غير قادرين على فهم معاني الكلام".
وخلاصة نتائج أبحاث آنو شارما وباسكال بارون هي أننا معشر البشر نستطيع السماع ليس بآذاننا، فقط بل بأعيننا أيضا. لكن عملية فهم المسموع لدينا تتم في الدماغ.
المفضلات