بسم الله الرحمن الرحيـــــــم
الخطبةالأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد:
أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله خير زاد يقرب إلى رضوان الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
عباد الله / سمعنا وشاهدنا ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة مما يفعله بعض المسلمين اليوم في بعض البلاد الإسلامية من مظاهرات دامية راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء ؛ وتسعى جاهدة بعض وسائل الاتصال المختلفة لنقل هذا الداء لبلاد الحرمين الشريفين وهذه المظاهرات – عباد الله - لم تعرف في تاريخ المسلمين من قبل، وأشبه ما تكون، بفعل من خرج على عثمان رضي الله عنه، ورميهم إياه بالحصى وهو على المنبر، ومحاصرتهم بيته، طالبين منه التنحي عن الخلافة، حتى قتلوه رضي الله عنه وأرضاه شهيدا وهؤلاء هم المبتدعة الخوارج .
ولم تعرف المظاهرات بشكلها الحالي، إلا مع وجود الديمقراطية الغربية، فأصلها غربي كافر، ظهرت بظهور الديمقراطية، ولم تعرف في بلاد المسلمين من قبل.
عباد الله / لقد قامت المظاهرات على أصل عقدي فاسد، أصل تحكيم الشعب وإطلاق الحريات للجميع، وهو ما يسمى بالديمقراطية، والتي معناها باليونانية: حكم الشعب للشعب، أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه، فالشعب يكون حاكما ومشرعا ومصدرا لجميع السلطات، ولهم مطلق الحرية في اختيار ما يريدونه ، ومن ذلك أنهم إذا لم يرضوا بحكم تظاهروا وأعلنوا سخطهم وعدم موافقتهم لذلك الحكم، وإذا أرادوا حكما ما، تظاهروا وأعلنوا رغبتهم في ذلك الحكم، أيا كان هذا الحكم، فإذا اختار من اختار من الشعب، الكفر بالله، فلهم أن يخرجوا في الشوارع منادين بذلك، وإذا اختار من اختار الشذوذ، فلهم أن ينادوا بذلك، وهلم جرا، فهو تحكيم لأهواء الناس وشهواتهم، وما جاءت الشريعة إلا لتخليص العباد من عبادة الهوى، وتعبيدهم لله وحده لاشريك له، وأن يكون الحكم لله وحده: (إِنِ الْحُكْمُ إلاّ لِلَّه).
فإذا فُتح هذا الباب، جاز لكل ضال ومبتدع وصاحب هوى، أن ينادي بباطله، بكل جرءة ووقاحة، فالحكم للشعب، ما أراده الشعب كان، وما لم يرده لم يكن.
عباد الله/ إن المظاهرات تترتب عليها مفاسد عظيمة، يشهد لها الواقع قبل الشارع، فمن تلكم المفاسد: سفك الدماء، وذهاب الأمن، وضياع الأموال.
فكم من مظاهرة بدأت سلمية، ثم انتهت دموية، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لِزَوَالِ الْدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الْلَّه مِن قَتْل مُؤْمِن بِغَيْر حَق) رواه ابن ماجه من حديث البراء . فكيف بقتل المئات؟!
وقد كان عمر رضي الله عنه يُقَّدِم حفظ دماء المسلمين على فتح البلاد وينهى جنده عن المغامرة بأرواح المسلمين في الجهاد فكيف بغيره؟
وإذا زال الأمن - عباد الله - خاف الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، ولم يتمكنوا من إقامة عباداتهم التي أمرهم الله بها، فالأمن والإيمان قرينان، فشتان بين من كانوا يصلون آمنين مطمئنين، وبين من تركوا صلاة الجماعة خوفا على بيوتهم وأعراضهم، وشتان بين من كان يقوم الليل أو ينامه مطمئنا، وبين من يسهر لحراسة أهله وجيرانه من المفسدين، أيسر المرءُ أن تكون هذه حاله؟
ومن مفاسد هذه المظاهرات أنها سبب لرد الحق، خلافا لما يظنه البعض من أنه سبب لإقامة الحق، فأي حاكم قوبل بالمظاهرات والعنف، فإنه يزداد عنادا وتصلبا وضلالا، وما الواقع عنا ببعيد.
ثم إن الطريقة الشرعية الصحيحة في الدعوة إلى الحق، لا تكون بمثل هذا العنف والغوغائية، وإنما تكون بالنصح والرحمة واللطف، وقد أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام، بالتلطف مع فرعون أشد الناس كفرا، وأعظمهم ظلماً واضطهاداً لعباد الله، فقال سبحانه: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) فكيف بنصيحة حاكم مسلم؟!
عباد الله / الشريعة الإسلامية بينت الطريقة الصحيحة في مناصحة الحاكم، وحذرت أيما تحذير من الخروج على الحاكم المسلم الظالم، وذلك لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة التي تربو على المصالح المتوهمة، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
و خرج الإمام البخاري في صحيحة عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ .
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ، لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ، قَالَ: قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضَرِبَ ظَهْرُكَ وَأَخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ).
فهذا كلام من؟ هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس كلامي ولا كلام فلان، فهل نرده لأنه لا يوافق أهواءنا، أو يخالف عاطفتنا، ورغبتنا في الانتقام ممن ظلمنا؟!
قَالَ صلى الله عليه وسلم : (تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضَرِبَ ظَهْرُكَ وَأَخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ)
ولم يقل صلى الله عليه وسلم اخرج للمظاهرة، واخلع الأمير، وأحدث الفتن، كل ذلك دفعا للمفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى، فظلم الحاكم مفسدة، لكن الأعظم منها مفسدة الخروج عليه، لما يترتب عليه من سفك للدماء، وهتك للأعراض، وسلب للأموال، وذهاب للأمن والاستقرار، وتسلط للأعداء والمتربصين، وما حال الصومال والعراق وليبيا عنا ببعيد!
وروى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَتَكُونُ أَثَرَةٌ –أي استئثار بالأموال- وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ: (تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ).
قال النووي رحمه الله في شرحه للحديث: (وَفِيهِ : الْحَثّ عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَة ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا ، فَيُعْطَى حَقّه مِنْ الطَّاعَة ، وَلَا يُخْرَج عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَع ؛ بَلْ يُتَضَرَّع إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي كَشْف أَذَاهُ ، وَدَفْع شَرّه وَإِصْلَاحه) انتهى كلامه رحمه الله.
فمع استئثار الحكام بالأموال دون الشعوب، ومع وقوع المنكرات منهم، أمر عليه الصلاة والسلام بالصبر، وسؤال الله تعالى رفع المظالم، وليس هذا محبة في الظالمين ولا تكريما لهم، نعم عباد الله، ليس هذا محبة في الظالمين ولا تكريما لهم، لا والله، كيف والله تعالى يقول: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) بل حقنا لدماء المسلمين، وحفظا لأعراضهم وأموالهم وأمنهم وبلادهم، فمع الظلم قد يقتل الرجل والرجلان، أو أكثر من ذلك، وقد تسلب الأموال، ولكن مع الفتنة والخروج يقتل المئات، وتنتهك الأعراض، وتضيع شعائر الإسلام، ويختل الأمن، ويتسلط العدو، فالله تعالى أرحم بنا من أنفسنا وأحكم وأعلم بما يصلحنا، وقد أمرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما هو خير لنا في الدنيا والآخرة، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَىالرَّسُولِ إِلَّاالْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
لذلك قد بين العلماء أنه لا يجوز للمرء أن يسترد حقه من الظالم، إن كان يترتب على هذا العمل مفسدة أعظم، وتعد على حق الغير، فجواز استرداد الحق من الظالم مشروط بعدم التعدي، وألا يترتب عليه مفسدة أعظم إذ لا ترد المفسدة الصغرى بالمفسدة العظمى.
عباد الله / ومن مفاسد المظاهرات دخول المشركين والمبتدعين واللصوص والمفسدين فيها، فإن المتظاهرين لو سلموا من الفساد والإفساد، فإنه يندس بينهم من يحدث الشرك والبدع والفوضى، ويفسد في الأرض، ويسرق الأموال.
وقد يُتخذ هؤلاء ذريعة لتسلط الحاكم الظالم على المتظاهرين وقتلهم وتشريدهم، بحجة أنهم هم الذين فعلوا ذلك.
اللهم إنا نسألك الأمن بالأوطان والصحة بالأبدان ونعوذ بك من الفتن ماظهر منها وما بطن برحمتك ياأرحم الراحمين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عظيمِ الإحسان، واسعِ الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيراً، أما بعد :
عباد الله / اتقوا الله تعالى حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لايَحْتَسِب )
عباد الله / ولدرء المفاسد العظيمة الناتجة عن المظاهرات أكدت وزارة الداخلية في بلاد الحرمين الشريفين منع كافة أنواع المظاهرات والمسيرات والاعتصامات والدعوة لها لتعارضها مع مبادئ الشريعة الإسلامية وقيم وأعراف المجتمع السعودي .
وأكدت هيئة كبار العلماء في بيانها الصادر يوم الأحد الأول من ربيع الثاني من هذا العام ألف وأربعمائة واثنان وثلاثين من الهجرة أهمية اجتماع الكلمة وتوحد الصف على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في ظل قيادة حكيمة لها بيعتها الشرعية . وأضافت هيئة كبار العلماء في بيانها أن المملكة العربية السعودية قائمة على الكتاب والسنة والبيعة ولزوم الجماعة والطاعة فإن الإصلاح والنصيحة فيها لاتكون بالمظاهرات والأساليب التي تثير الفتن وتفرق الجماعة ، والهيئة تؤكد على حرمة المظاهرات في هذه البلاد وتؤكد الهيئة على أهمية اضطلاع الجهات الشرعية والرقابية والتنفيذية بواجبها كما قضت بذلك أنظمة الدولة وتوجيهات ولاة أمرها ومحاسبة كل مقصر .
مع بيان أن الواجب على المسلمين اعتزال الفتن وسد أبوابها وزجر طلابها ومروجيه مع ضرورة لزوم منهج الكتاب والسنة وفق منهج سلف الأمة ونبذ كل أسبا والتفرق والاختلاف (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَاللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْفَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً )
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه , وأن يجمع كلمتنا على الحق وأن يصلح ذات بيننا ويهديَنا سبل السلام , وأن يريَنا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه , ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه , وأن يهديَ ضال المسلمين , ونسأله أن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح العباد والبلاد إنه ولي ذلك والقادر عليه , هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير .....
رد مع اقتباس
المفضلات