الحمدُ للهِ الذي اهتدى بهديه ورحمتِهِ المهتدون ، وضلَّ بعدلِهِ وحكمتِهِ الضالون ، ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، بلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمّةَ ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ ، وتركَنا على المحجّةِ البيضاءِ ، ليلُها كنهارِها ، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ . صلى اللهُ عليه ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وأتباعِهِ ، وسلّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدينِ . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً): أما بعد:الأحبةُ في الله ، هذهِ رسالةٌ إلى كُلِّ من صاحبتهُ شدةٌ طالَ عليه أمدُها .. ولازمتهُ كربةٌ ، أَحكمتْ عليه حَلقَاتُها .. ونظرَ إلى أيامِهِ فرأى بعضَها يرققُ بعضًا .. يعيشُ في أرضٍ يعرفُها ، ولكنه غريبٌ عنها بهمومِهِ وأحزانِهِ .. يسكنُ في دارٍ فسيحةِ الأرجاءِ ، ولكنَّها تبدو في عينِهِ ، مع جمالِها وسعتِها ، كوخًا صغيرًا ، عاثَ الزمانُ به ، فأبلى بأخشابِهِ ، وقيّضَ أركانَهُ، لا يهنأُ بطَعمةٍ شهيةٍ ، أو شَربةٍ هنيةٍ، ولسانُ حالِهِ يقولُ:
عجبــًا للزمـانِ في حالتيــِهِ
ولأمْرٍ دُفعـتُ منه إليــــهِ
رُبَّ يومٍ بكيـتُ منــه فلمــا
صـرتُ في غيرِهِ بكيتُ عليــهِ
إليهِ ليعلمَ أن الدُنيا ، لن تصفوَ من غيرِ كدرٍ .. ولن تحلوَ من غيرِ ألمٍ أو مرارةٍ. ولكن مهما اشتدَّ البلاءُ ، فإن الفرجَ يعقبُهُ . ومهما قويَ العُسرُ فإنَّ اليُسرَ يغلبُهُ (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تَذكرَ أنَّكَ ليس وحيدَ الحالِ ، ولا فردَ الطريقِ ، بل الشدةُ والبلاءُ ، طريقٌ سارَ فيه الأنبياءُ ، وسلكَها الصالحون الأولياءُ .. فتمحصتْ القلوبُ ، وعادتْ نقيةً لا شائبةَ فيها ، تأمّلْ فقط في يعقوبَ عليه السلامُ، وهو يفقدُ وليدَهُ وحُشاشةَ فؤادِهِ، يفقدُ يوسفَ عليه السلامُ ريحانةَ القلبِ، وزينةَ الدارِ، وكحلَ العيونِ، فما يملكُ إلا أن يقولَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ) ثم يفقدُ ابنَهُ الآخرَ، فاجتمعتْ عليه الهمومُ والأحزانُ، فيرددُها توكلاً ويقينًا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا) وكان الفرجُ مع العيرِ (وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ * قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ* فَلَمَّا أَن جَاء ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ثم تأمّلْ في يوسفَ عليه السلامُ، وكيف أُلقيَ في الجبِّ ، وبِيعَ بَيْعَ الرقيقِ ، ثم ابتُليَ بامرأةِ العزيزِ ، فصبرَ ونجحَ ، ثم رُميَ زورًا وإفكًا فَلَبِثَ في السجنِ بضعَ سنينٍ، وبعد كلِّ هذا كان الفرجُ (وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) فكانتْ له القوامةُ على خزائنِ الأرضِ.وتأملْ حياةَ المصطفى r.. كم تعرضَ للشدائدِ والابتلاءاتِ، وكم مرتْ به الخطوبُ والْمُضايقاتُ .. وهُوَ سيدِ الأولينَ والآخرينَ ، ألمْ يُرمَ بالشتائمِ والسبابِ من كُفّارِقريشِ ؟ ألمْ يرجعْ من الطائفِ ، والأطفالُ يرمونَهُ بالحجارةِ ،حتى أدموا قدميهِ الشريفتين ؟ أما أوذِيَ وأوذِيَ أتباعُهُ ؟ ألم يُحصرْ هو وأصحابُهُ في الشعبِ ؟ ألم يُمكرْ به لِيُخرجَ أو يُثبَتَ أو يقتلَ ؟ ألم يُخرجْه قومُهُ من أرضِهِ التي هي أحبُّ أرضِ اللهِ إليه ؟ ألم يُشجَّ رأسُهُ وتُكسرُ رباعيتُهُ ؟ ألم يُبتلَ في إِفكِ الأفاكين ، على زوجِهِ المصونِ ، فقضى شهرًا من الأسى واللوعةِ ؟ ألم تأتِ عليه أيامٌ ، حَزَمَ الحِجَارةَ على بطنِهِ من شدةِ الجوعِ ؟ ألم يمرَّ الهلالُ ثم الهلالُ ثم الهلالُ ، ولا يوقدُ في بيتِهِ نارٌ ؟ ألم يمتْ r وهو لم يشبعْ من الشعيرِ قط ؟ ألم يَهُدَّهُ المرضُ هدًّا ، حتى إنه ليوعَكُ كما يوعَكُ الرجلانِ ؟ ألم يعالجْ شدةَ الموتِ والسكراتِ ، فيأخذَ الماءَ بيدِهِ الشريفةِ ، ويضعَهُ على وجهِهِ وهو يقولُ: {لا إلهَ إلا اللهُ إن للموتِ سكراتٍ}فتأمّلْ أولائك الأصفياء الأتقياء الأنقياء ، الذين هم أكرمُ خلقِ اللهِ عليه ، وأحبُّهم إليه،ماذا كابدوا من الشدةِ والبلاءِ والضيقِ ،وهم منْ هُم ؟ وما ذَكرتُ لكَ غيضٌ من فيضٍ، وقَطرةٌ من بَحرِ الحياةِ، ولو تتابعَ الحديثُ لطالَ الْمُقامُ ..ولكِنَّ خيرُ الكلامِ ما قلَّ ودلَّ ، لتعلمَ أنك لستَ وحيدًا فريدًا غريبًا في هذا الطريقِ، ولتعلمَ أنك لم تبلغْ معشارَ ما بلغوا من الفضلِ والكرامةِ .. ولن تبلغَ معشارَ ما بلغوا من الشدةِ والبلاءِ والضيقِ ،
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ،
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم منكلِّ ذنب ، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقهِ وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وحدهُ لا شريكَ لهُ ، تعظيماً لشانه ، وأشهد أنَّ نبينا محمّداً عبده ورسولُه ، الدّاعي إلى رضوانه ، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه ، وسلّم تسليماً مزيداً ، أيها المكــروبُ:-إليك هذه الوصايا .. وأنت تعالجُ شدتَكَ وضيقَكَ ، أسوقُها إليكَ من النبعِ الصافي .. لتكونَ نبراسًا لك في حياتِكَ .. ولتنفتحَ أمامَكَ سبلُ الأملِ القريبِ، ولتعلمَ أن الأمرَ دون ما تُقاسي .. وأنَّ الفرجَ أقربُ إليك من شراكِ نعلِكَ.فأوصيكَ أولاً بتقوى الله تعالى ... (وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ) وأكثرْ من قولِ [لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ] واذكرُ اللهَ في الرخاءِ يذكرْكَ في الشدةِ ، فإن يونُسَ عليه السلامُ ، لما وقعَ في بطنِ الحوتِ قالَ اللهُ تعالى: ( فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) وعليك بالاستغفارِ فإنه سببٌ لتفريجِ الكروبِ وإزالةِ الغمومِ ، قال تعالى: ( فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) وجاءَ عن المعصومِ r قولُهُ: { من لزمَ الاستغفارَ – أو أكثرَ من الاستغفارِ – جعلَ اللهُ له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيقٍ مخرجاً، ويرزقُهُ من حيثُ لا يحتسبُ } وأكثرْ أخي من الأدعيةِ التي وردتْ عن الحبيبِ r ، فإن فِيها ذهابَ الهمومِ والغمومِ ، ومن ذلك قولُهُ r{لا إلهَ إلا اللهُ العظيمُ الحليمْ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ العرشِ العظيمْ ، لا إلهَ إلا اللهُ ربُّ السمواتِ وربُّ العرشِ الكريمْ ، لا إلهَ إلا اللهُ الحليمُ الكريمْ } [متفق عليه].وأخرجَ أحمدُ بسندِهِ عن النبيِّ r أنه قالَ : {دعوةُ ذي النونِ عليه السلامُ إذ هو في بطنِ الحوتِ: لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَكَ إني كنتُ من الظالمينَ ، لم يدعُ بها مسلمٌ ربَّهُ في شيءٍ قطٌّ إلا استجابَ له}واعلم يقيناً أن الذي يكشفُ البلوى هو اللهُ، فاعتصمْ به ، واعتمدْ عليه ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ * فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـٰهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَـٰبِدِينَ )عبادَ الله صلّوا رحمني الله وإياكم على الهادي البشيرِ ، والسراجِ المنيرِ ، كما أمرَكم بذلك اللطيفُ الخبيرُ ، فقال سبحانه قولاً كريما ( إِنَّ اللهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيْ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُواْ صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) وقد قال عليه الصلاةُ والسلامُ { حيثما كنتم فصلوا عليَّ فإنَّ صلاتَكم تبلغني }وقال{ من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشراً } اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدِك ورسولِكَ محمدٍ ، وارضَ اللهم عن أصحابِهِ الأطهارِ ، ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ ، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين ، وعن التابعينَ وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعنَّا معَهم بمنِّكَ وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ .اللهم أعزَّ الإسلامَ المسلمينَ ، ودمرْ أعداءَ الدينِ من اليهودِ والنصارى ، وجميعِ الكفرةِ الملحدينَ ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَالمغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللّهُم اجعلْ رزقَنَا رغداً ، ولا تُشمتْ بنا أحداً ، اللهم إنا نسألُكَ ، بعزِّكَ الذي لا يرامُ ، وملكِكَ الذي لا يُضامُ ، وبنورِكَ الذي ملأ أركانَ عرشِكَ ، أن تكفيَنا شرَّ ما أهمَنا وما لا نهتمُ به ، وأن تعيذَنا من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا ، اللهم رَغّبْنا فيما يبقى ، وَزَهّدْنا فيما يفنى ، وهبْ لنا اليقينَ ، الذي لا تسكنْ النفوسُ إلا إليهِ ، ولا يُعوَّلُ في الدينِ إلا عليهِ ، اللهم أيدْ إمامَنا بتأيدِكَ ، وانصرْ بهِ دينَكَ ، ووفقْهُ إلى هُدَاكَ ، واجعلْ عمَلَهُ في رضاكَ ، وارزقْهُ اللهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ ، التي تدلُهُ على الخيرِ ، وتعينه عليه، اللهم احفظْ بلادَنا وولاةَ أمرِنا وعلماءَنا ودُعاتَنا ، اللهم وحِّدْ كلمتَنا وقوي شوكتَنا ياربَّ العالمينَ ، واجعل هذا البلد رخاءً سخاءً آمِناً مُطمَئِناً ، وسائر بلاد المسلمين يا ربَّ العالمين ، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنيين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، اللهم ربنا ( آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)
الخطبة بصوت الشيخ :
المفضلات