خطبة جمعة بعنوان
خضر المنابت
في مناقب
زيت بن ثابت
رضي الله عنه
خطبها / عبدالله بن فهد الواكد
الخطبة الأولى
أيها الأحبة المسلمون : قد يكون آخر عهدكم بكتاب الله قبل قليل إذ كنتم تقرؤون كتاب الله ، وتعلمون أن الله عز وجل أنزله رحمة بالعالمين ، رحمة بكم أيها العباد ، ومن تمام وكمال الرحمة ، أن الله تكفل بحفظه ، قال تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) تكفل الله بحفظه ، وأجرى أسباب حفظه في الصدور وفي السطور ، ومن هؤلاء الذين أجرى الله على يديهم أسباب حفظه ، ونال شرف وأجر جمعه لأجيال الأمة جيلا إثر جيل شاب حَدَثٌ ، في أعمار هؤلاء الزهور ، المتناثرون بينكم في هذا الجامع ، شاب حدث يافع ، من أهل المدينة المنورة ، من قبيلة الخزرج من الأنصار ، الذين نصروا الله ورسوله .. نشأ يتيماً في بيت زوج أمه : عُمارةُ بن حزمٍ رضي الله عنه وعن زوجته ، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وهذا الغلام ، لما يبلغ الحادية عشرة من عمره ، ومن تيسير الله وتوفيقه ، وصُنعه لهذا الفتى ، أن نزل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بدارٍ قريبةٍ من دار هذا الفتى ، ليترعرع هذا الغض العبق بالهداية والتوفيق ، وينشأ هذا المرهف الحاذق ، وهو يرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بُكرةً وعشياً .
كان عُمارةُ بن حزم ، زوجُ أمِّ هذا الشاب ، أحدَ النقباء ، الذين شهدوا بيعة العقبة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم رجع هو وَمَن معه من أصحابه إلى قومهم مُنذرين ، وداعين إلى سبيل الله ومبشرين بقرب مقدَم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . فبدأ عُمارةُ فور مقدمه بزوجته فأسلمت ، ثم بابنها هذا الشاب ، فأسلم ولمّا يبلغ الحاديةَ عشرةَ مِن عُمره رضي الله عنه. أسلم هذا الصبي الصحابي الجليل وحفظ ما سمع من القرآن ، فما قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلا وقد أتمَّ رضي الله عنه حفظَ سبعَ عشرةَ سورةً من القرآن . صاحبنا اليوم ، وموضوع خطبتنا اليوم ، هو علم الأعلام ، ومنار الأيتام ، ويافع الصحابة الكرام زيدُ بنُ ثابت بنِ زيد النجاريُّ الخزرجيُّ الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأتى إليه زيدٌ يسلم عليه ؛ فقالوا : يا رسول الله – هذا غلامٌ من بني النجار ، وقد حفظ مما أُنزل عليك سبع َ عشرة سورة قال زيدٌ فقرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه ذلك – وفي رواية : فاستقرأني فقرأتُ ق – وقال صلى الله عليه وسلم : يا زيد تعلّم لي كتابَ يهودٍ فإني والله ما آمنهم على كتابي . قال : فتعلمتُه ، فما مضى لي نصفُ شهر حتى حذَقتُه ، وكنت أكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كَتَبَ لهم ، تعلم السريانية في سبعةَ عشر يوماً ، وتعلم الرومية والحبشية ، لم يتعلمها في معهد ، ولا أكاديمية ، ولا في دولة أوربية ، ولا ليستخدمها في السفرات ومشاهدة الأفلام الأجنبية ، تعلمها ليُرضي بها اللهَ ورسولَه ، ويُعزَّ بها دين الإسلام ، ويقف بها في وجه المتربصين الحاقدين ،
وهكذا تتعلق نفس هذا الصبي بمعالي الأمور
وتسموا عن السفاسف ، وهفوات الصبا
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
حفظ القرآن ، ثم تعلم اللغات التي تؤهله لمكانة مقرَّبة من صفوة خلق الله ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعلم ما يؤهله لمكانةٍ يرى منها سياسات خير سائس كيف ترسم ، وكيف تدبر ، ولما يبلغ الثانية عشرة من عمره ، تعلّم الكتابة ، وكان قليلٌ من قومه من يُحسنها فصار كاتباً من كتّاب الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما يجاوز الثانية عشرة من عمره فربما كان حاضراً ، وربما كان غائباً فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بأن يكتب فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ليكتب ما أوحى الله به إليه ، وربما كتب كاتب آخرُ من كتاب الوحي .
وهكذا نشأ زيدٌ على عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نشأ محبا للقرآن ، شغوفاً به ، مشغولا به عما يشتغل به الغلمان في مثل سنه .. حتى أراد الله به خيراً عظيماً ، وقد ادَّخر الله له ذلك الشرف الباذخ إلى زمنٍ تُوفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتهر زيدٌ بين الناس بضبطه وحِذقه للقرآن ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد . قيل لأنس : من أبو زيد ؟ قال : أحد عمومتي . استعداد زيد ، وحُسن تربية هذا اليتيم من قبل إمه وزوجها ومن ثم النبي صلى الله عليه وسلم جعله في موضع المسؤولية في مهمة خطيرة كبيرة ، احتاج إليها كلُ مسلم ، حتى أنتم أيها المسلمون بل في كل زمان ومكان ، وصار لزيد أجرُها مع من تعاون معه فيها . ألا وهي مهمة جمع المتفرق من القرآن في مصحف واحد وكان زيدٌ أحقَّ بهذه المهمة وأهلاً لها رضي الله عنه . فحباه الله بها خصوصية عظيمة ، ومزية كريمة ، وشرفاً عاليا ، ومجداً ساميا فلا يُذكر القرآن وجمعه إلا ويُذكر زيدٌ في الأكرمين . وقد كان جمعه في صدره حفظاً ثم جمعه في المصاحف كتابةً . فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبيد بن السبّاق رحمه الله أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه بعد مقتلِ أهلِ اليمامة - فإذا عمر بن الخطاب عنده . قال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استَحَرَّ يومَ اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى إنْ استحر القتلُ بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . قال : قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : هذا والله خير .
فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت الذي رأى عمر . قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه
قال زيد بن ثابت رضي الله عنه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقلَ عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن . قال : قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم . قال : هو والله خير . فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدرَ أبي بكر وعمر .
فقمتُ فتتبعتُ القرآن أجمعه من العُسب واللخافِ وصدورِ الرجال ... فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة . خ
كان زيد بن ثابت إلى علما من أعلام الصحابة رضي الله عنهم ، كان فقيها قاضيا مفتيا ، وكان أعلم الصحابة بالفرائض والمواريث حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) حم ت ن هـ ك
اللهم ارض عن عن أصحاب نبيك ، وارزقنا حبهم ، وحسن التأسي بهم ، واجعلنا من الذين اتبعوهم بإحسان أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُخَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الثانية
أما بعد أيها المسلمون :
فانظروا – رحمكم الله – إلى حُسن تربية هذا اليتيم كيف نهضت به إلى مدارج العُلا . وانظروا كم لأمه ولزوجها من أيادٍ بيضاءَ ، تزوّج زيدٌ أولَ ما تزوج من امرأة لها ولدان – هي أم جميل العامرية – وعاش ولداها في كنف زيد رضي الله عنه ، كما عاش هو في كنف زوج أمه ، ثم تزوّج ثانية من أم سعدٍ بنت سعدِ بن الربيع وكانت يتيمة تربت في حجر أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ كان أبوها قد استُشهد يوم أحد فأراد زيدٌ إكرامَها ، وجبرَ قلبها إذ كان حالها كحاله لما كان صغيراً كلاهما نشأ يتيماً – فتزوّجها وفرح بها ، وفرحت به ، وكانت امرأة نجيبة أنجبت له أولاداً كثيرين ، كان منهم خارجةُ بن زيد عالمُ المدينة وفقيهُها ؛ أحدُ الفقهاء السبعة المشهودِ لهم بالعلم والسبق رحمهم الله فاللهم ارض عن صحابة نبيك ، وألحقنا بهم في جنتك اللهم ارزقنا حبهم ، واجعلنا من الذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم
صلو وسلموا على محمد
المفضلات