خطبة جمعة
بعنوان
( صفة الحج ويوم عرفة والإضحية )
لفضيلة الشيخ / حسين بن غنام الفريدي
إمام وخطيب جامع اللحيدان بحائل
أما بعد فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واقتفوا أثر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلقد كان لكم نعم الأسوة ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) فأطيعوه في جميع عباداتكم حتى تكون صحيحة مقبولة عند الله ، قال الله تعالى: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ). وقال تعالى: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
عباد الله / ألا ما أعظم أيام العشر ، ولله در من عمرها بالعمل الصالح الرشيد ونجا باستثمارها من هول اليوم الشديد ، ويا فوز من حج فيها حجة كحجة النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، فيا من يريد المسابقة بالخيرات ويا من يسعى إلى الفوز بعالي الجنات ، إليك وصفاً دقيقاً لحجة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون على بصيرة من أمرك ، فقد حج صلى الله عليه وسلم وأمر الناس أن يقتدوا به ويفعلوا مثل ما يفعل، فقال: (خذوا عني مناسككم ) أي: تعلموا مني كيف تحجون وتؤدون المناسك ، وذلك بأن تفعلوا مثل ما أفعل ، وهذا كلام جامع استدل به أهل العلم على مشروعية جميع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما قاله في حجه ، وجوباً في الواجبات ومستحباً في المستحبات ، وقد لخص شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله – صفة حجة النبي صلى لله عليه وسلم ، فقال ـ رحمه الله ـ : وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في " الصحيحين" وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة، فقال: " من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ، ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل ، فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ، فراجعه بعضهم في ذلك ، فغضب ، وقال: "انظروا ما أمرتكم به فافعلوه". وكان صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي ، فلم يحل من إحرامه . ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال: قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ، ولولا أن معي الهدي لأحللت"، وقال أيضا: " إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر". فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدي ، منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، فلما كان يوم التروية أحرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى ، فبات بهم تلك الليلة بمنى ، وصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب . ونمرة خارجة عن عرفة من يمانيها وغربيها، ليست من الحرم ولا من عرفة ، فنصبت له القبة بنمرة ، وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده. وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك ، فلما زالت الشمس ركب هو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بني مسجد نمرة ، وهو ليس من الحرم ولا من عرفة ، وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام هناك ، بينه وبين الموقف نحو ميل . قلت أنا ( إن المسجد بعد توسعة الدولة السعودية دخلت أجزاء منه في عرفة وهي مبينة بعلامات داخل المسجد ) ثم قال رحمه الله فخطب بهم خطبة الحج على راحلته وكان يوم الجمعة ، ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ، ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف عند الجبل المعروف بجبل الرحمة ، واسمه إلال على وزن هلال ، وهو الذي تسميه العامة عرفة ، فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس ، فدفع بهم إلى مزدلفة ، فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة ، وبات بها حتى طلع الفجر ، فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلساً بها زيادة على كل يوم ، ثم وقف عند قزح ، وهو جبل مزدلفة الذي يسمى بالمشعر الحرام ، وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن . فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جداً . ثم دفع بهم حتى قدم منى ، فاستفتحها برمي جمرة العقبة ، ثم رجع إلى منزله بمنى ، فحلق رأسه ، ثم نحر ثلاثا وستين بدنة من الذي ساقه وأمر علياً بنحر الباقي ، وكان مئة بدنة ، ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة . وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر، فرموا الجمرة بليل ، ثم أقام المسلمون أيام منى الثلاث ، يصلي بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى ، وهي الصغرى ، وهي الدنيا إلى منى ، والقصوى من مكة ، ويختتم بجمرة العقبة ، ويقف بين الجمرتين الأول والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلاً بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو ، فعلى هذا فإن المواقف ثلاثة : عرفة ، ومزدلفة ، ومنى . ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمي الجمرات هو والمسلمون ، فنزل بالمحصب عند خيف بني كنانة ، فبات هو والمسلمون في ليلة الأربعاء . وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن تعتمر من التنعيم ، وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة ، وقد بني بعده هناك مسجداً سمي مسجد عائشة ، لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه أحد قط إلا عائشة ، لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت ، وكانت معتمرة ، فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة" ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجع إلى المدينة ، ولم يقم بعد أيام التشريق ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرم إلى الحل إلا عائشة وحدها ..) ا. هـ كلامه رحمه الله وهو خلاصة جيدة لصفة حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
عباد الله / نستنبط من هذا أن أعمال الحج تكون على ثلاثة أقسام : ( الأول ) أركان لا يصح الحج أو لا يتم إلا بها: وهي ( الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة). (الثاني ) واجبات، وهي: ( الإحرام من الميقات المعتبر له ، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس لمن وقف نهاراً ، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل لمن وافاها قبل ذلك ، ورمي الجمار ، والحلق ، أو التقصير، والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق ، وطواف الوداع على غير الحائض والنفساء). (الثالث) مستحبات وهي : ما عدا هذه الأركان والواجبات ، فمن ترك ركناً من أركان الحج فإن كان الإحرام أو الوقوف بعرفة لم يصح حجه ، وإن كان غيرهما لم يتم الحج إلا به. ومن ترك واجباً فعليه دم ، ومن ترك سنة فلا شيء عليه. ألا فاتقوا الله عباد الله واحرصوا على التفقه في دينكم و إتمام نسككم على وفق الوجه المشروع . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...( الخطبة الثانية )
أما بعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى ، واحذروا أسباب سخط الجبار فإن أجسامكم على النار لا تقوى واشكروا ربكم فقد بين لكم دينكم وأتم عليكم نعمته ؛ فاسألوا الله أن الثبات . واستثمروا ما بقي من هذه الأيام المباركة بالقرب والطاعات ولتعلموا أن من بين هذه الأيام يوماً عظيماً قدره فيه كملت الملة وتمت النعمة ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ) يوم يحتشد فيه الحجاج على صعيد عرفات ، وفيه إلى الله يتضرعون ، وللعبرات بين يديه يسكبون ، هو اليوم المشهود ، تقال فيه العثرات ، وتغفر الزلات ، ويعتق الله فيه أولياءه من الدركات . عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته فيقول ما أراد هؤلاء ) رواه مسلم في صحيحه .صيام هذا اليوم يكفر السنة التي قبله والتي بعده وهو مستحب لغير الحاج . فيا خسارة من يفرط بالأجور العظيمة ويزهد بالقرب الجسيمة ويعرض عن الأعطيات الجزيلة . فلتكثروا عباد الله من التكبير والتهليل جهراً في الأسواق والمجامع والمساجد هذه الأيام بصفة مطلقة عموم أيام العشر إلى آخر أيام التشريق وبصفة مقيدة أدبار الصلوات الخمس اعتباراً من فجر يوم عرفة لغير الحاج ومن ظهر يوم النحر للحاج إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، وأكثروا من الصدقات ، واحرصوا على الذكر والدعاء فالذكر قوت القلوب والدعاء هو العبادة ، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير ) 0 ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن من أعمال هذه العشر ذبح الأضاحي يوم عيد الأضحى يوم النحر وهي سنة مؤكدة يكره تركها لمن قدر عليها لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ) رواه البخاري ومسلم . لا تكون الأضحية إلا من بهيمة الأنعام والواحدة من الغنم تجزئ عن الرجل وأهل بيته ولا بد في الأضحية أن تكون بالغة السن المعتبر شرعاً فلا يجزئ من الضأن إلا الجذع ولا من غيرها إلا المسن وأن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء وهي أربعة العوراء والعرجاء والمريضة والهزيلة ، ويدخل فيها ما كان أشد عيباً من ذلك ، وكلما كانت الأضحية أكمل بذاتها وصفاتها وأحسن منظراً فهي أفضل فاستكملوها واستحسنوها وطيبوا بها نفساً ، واعلموا أن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها لأنها من شعائر الله ، ووقت الذبح يبتدئ من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس آخر أيام التشريق والذبح في النهار أفضل جعلني الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين ووفقنا بفضله وكرمه للتزويد من الطاعات ، والأعمال الصالحات ، ووقانا برحمته الوقوع في المحرمات ، وغفر لنا ما أسرفنا به على أنفسنا من الزلات ، وأعتقنا جميعاً من الدركات إنه سميع قريب مجيب الدعوات .
عباد الله / اعلموا أن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه ...الخ
المفضلات