يا زمان الوصل في الجهراء (5)
دكان مرعي... وأشياء أخرى
فهد عافت
من قصيدة 'على حد العطش':
مـعـي فــي الـذاكـره بـنـتٍ توصّـيـنـي بـمـشـط وشـــال
وصـوت امّـي يوصّـي: لا تجـي ربعـك بخاطـر عمْـس
وانــا امّــك لا تـنــام فـــ لـيـلـةٍ وانـــته خـلــي الـبــال
وخــل ادنــى طـمـوحـك لا نـظــرت لنجمـتـيـن: الـلـمـْس
وانـا امـّك لا صعـدت اصعـد مثـل دعـوة فقيـر الحـال
ولا مـنّـك نـزلــت انـــزل مـثــل غـيــثٍ بـيـحـيي غـــرْس
كانت الريح متى هبّت أثارت الأتربة والغبار، في الليل يبدو صوتها جافا ومرعبا، كأنه أنفاس غاضبة لأشباح، الأمر الذي يتيح لحكايات الجن أن ترسخ في الأذهان حقيقة أبدية، وفي الليل والنهار كانت الرياح تثير بالنسبة إلى أهلنا الكثير من المتاعب، لم تكُن كل 'العشيش' متقنة البناء، معظمها كان يشتكي عيوبا ونواقص، خاصة أن بيوت 'العشيش' لا تُبنى على مرة واحدة، بل يتم تكبيرها وإحداث إضافات عليها كل فترة.
كان من السهل على العوائل وأبناء القبيلة الواحدة البقاء قريباً من بعضهم، أما الأسرة فلم تكن بحاجة إلى التخلي عن أحد أفرادها، ببساطة يهدم جدار من الحوش، وفي يوم واحد يتم بناء غرفة جديدة له ولعروسه، لكن بالنسبة إلينا نحن الصغار، فقد كانت الريح التي تخيفنا ليلاً تسبب لنا مسرات كثيرة في النهار، وكلما كانت عاتية كانت فرصتنا أكبر في الحصول منها على أشياء جديدة، لعب تدحرجت وطارت من مكان بعيد إلى أن وصلتنا، وحين تهدأ الريح قليلاً نبحث عن هداياها النقدية، وكثيرا ما كانت تلقي لنا ربع دينار أو نصف دينار، الأمر الذي كان يشكل ثروة كبيرة بالنسبة إلى أمنيات الطفولة وحاجاتها، ويكفي لإعادة حكاية الحصول على الفلوس إلى حين تتكرم السموم بمد يدها في جيب الفضاء مرة أخرى لمنحنا هدايا جديدة.
كانت خسائرنا نحن الصغار متوقعة: جروح، نظراً إلى تناثر 'القزاز' المكسور والمسامير في كل مكان، أما الخسائر الكبيرة والتي كانت تعني الكبار فقط، إلا إذا كنا بالصدفة جزءاً من المشكلة، فهي الحرائق أو وقوع أسقف وجدران بعض البيوت.
كانت الريح كريمة ولئيمة في الوقت نفسه، ومسألة الحكم عليها مرتبطة بالزاوية التي تنظر منها إليها، وكان شأن المطر كذلك أيضاً، أما بقالة 'مرعي: أبو حسن'، فقد كانت كريمة دائما ومن أي زاوية تنظر إليها، جاء 'أبو حسن' من سورية وفتح بقالته قريبا منا، أو ربما نقلها إلى حيث 'عشيشنا' من مكان آخر، و'عشيش' أخرى، وبسرعة كسب ثقة الجميع ومحبتهم، وصار بلحيته الكثة وكرشه الظاهرة وملامحه الغليظة الدافئة وثوبه الفضفاض، مضربا للمثل في الأمانة والإحسان، ويوم عرف أننا أيتام قال لخالي: كل طلباتهم أسجلها في دفتر إلى أن يشب أكبرهم ويتوظف، فكم كان عمر أكبرنا يومها، كان تسع سنوات فقط، وقد التزم ما قال، إلى أن يسّر الله لنا الأمر: تخيلوا! كل الأيتام والفقراء، كانوا يحبون 'مرعي'، وحين كنا نلعب أمام دكانه، كان من السهل عليه إعطاء كل واحد منا تفاحة أو قطعة حلوى، أما ميسورو الحال فقد كانوا يحترمونه، لأمانته وصراحته وبره بأخويه اللذين أعانهما في شق طريقيهما في دكانة خاصة وعمل خاص، 'كريّم' فتح محل بنشر، والأخ الثاني لمرعي فتح بقالة، على ما أظن، بعد أن عمل كل منهما فترة في بقالة 'أبو حسن'، التي كثيرا ما كان يتركها مفتوحة ويذهب للصلاة مع 'خوالي'، وكنا نحن الصغار نحرسها له، لكن هذا لم يمنعنا في الليالي المظلمة من التسلل إلى ثلاجتها الخشبية الموضوعة خارج 'عشة' البقالة تحت العريش، فقد كان طعم البطيخ الأحمر المثلج لا يُقاوَم.
كانت طفولتي سعيدة حقاً، مليئة بـ'الشيطنة' والمرح وحفظ الأغاني، لكنني لا أنسى حتى اليوم بعض ملامح الفقر الموجعة والمضحكة، ذات ليلة كان الجوع قاسيا ولم يكن عندنا طعام، فاضطرت والدتي، حفظها الله، إلى اللجوء إلى خيشة خبز، كانت مجهزة للأغنام، اخذت منها خبزا وبللته بالماء، فكانت وجبة عشاء لذيذة، وذات مرة، ولأنني كنت أصغر أشقائي و'مدللها'، طلبت منها أن تشتري لي حمامتين لأن أخي 'حسن' امتلك حمامتين، فأردت أن يكون لي مثله، لم تحل والدتي المشكلة، لكن 'حسن' حلها بسهولة وذكاء، قال لي: أنت صغير وعليك أن تربي ريشتين، وكل ريشة تكبر وتصير حمامة، وأعطاني من كل حمامة ريشة، فكنت أمرغهما في الماء فينقص، فأظنهما شربتا فعلا، وحين كانت الريح تهب كان 'حسن' يكمل خدعته العجيبة، فيقف في مكان معطيا ظهره للريح ويوقفني في مكان حيث وجهي إلى الريح، ويمسك بالريشتين ويطلب مني مناداتهما واحدة بعد الأخرى، وحين أنادي كانت الريشة تفلت من يده وتطير باتجاهي، وكان هذا دليلا على أنني كنت مدربا رائعا ومربيا ممتازا!
أما في مدرسة المعتصم، فقد ظللت عاجزا عن نسيان هذه الحادثة: في طابور الصباح كل سبت، كان الأساتذة يختارون الطلبة الأكثر نظافة، وكنت ممن يتم اختيارهم بين فترة وفترة، وفي إحدى المرات تمت التصفية إلى أن بقيت على اثنين، أنا وطالب آخر، وقد تساوينا في كل شيء تقريبا، نظافة القميص والبنطلون، تقليم الأظافر، الشعر، وصعب الاختيار، فما كان من الأستاذ الحكم إلا أن طلب منا خلع الأحذية، الطالب الآخر فعل ذلك سريعا، أما أنا فقد ترددت قليلا، ثم خلعت الحذاء، كانت 'الجوارب / الشّرّابات' نظيفة، لكنها كانت مشقوقة!
من قصيدة 'كيمياء الغي':
أبرقَت، أو هي طعوني؟!
أرعَدت، أو هو أنين؟!
والسهر... يحطب عيوني
رمث،
وأوراق،
وحنين:
-الفواصل،
كانت أقرب للمراجيح الصغيرة،
ليه ترسمها مقاصل؟
- يا بلادي...
- لا تواصل
- آه ، لو تدرين شلّلي..
- لا تواصل
- فيك حاصل
- لا تفاصل،
ردّها مثل المراجيح الصغيرة،
مثل حبّات الذّرَهْ
شيطنة لاعب كُرَهْ
ظِل شَعْرَه طيّرتها الرّيح
من قِذلة مَرَهْ
=====================
جميل أنت يافهد ... وافي ... لم تتغير ...
المفضلات