من قصيدة «الليل»:
يــــــا لــيــلــةٍ... لـيـلــهــا: زرنـــيـــخ مــنــفــي يـــابـــسٍ... بـُـــــور
لــــي لـيـلــةٍ، كـــــان: حــضـــن أم... وثــلاث أيــتـــام وصــغـــار
لــيـــل: آتـشـمـشــم بـــــه الــلـــي مـــــر... نـكــهــة خــبـــز تـــنّـــور
ولــيــل: آتـجــشّــم بـــــه أهــوالـــي، لـحــالــي... وأصــبـــح كــثـــار
أنــا أصــدق الـنـاس... واعدلـهـم... وانــا البهـتـان والـــزور!
يا قطعة النّرد... شوفي وش بقى لي... بي... من اعذار
فـــــي داخــلـــي: قــصـــة غـــيـــابٍ غـــريـــبٍ يــشــعــل حْـــضـــور
هــــذا الـيـبــاس بـعـروقــي... يـلـعــن ام الــوقــت...لا... جـــــار
غـاب الطفـل، قلـت: طـيّـب... غــاب بـعـد الطـفـل عصـفـور:
طـيّـب... وغــاب الثـمـر... طـيّـب... وغـابــت كـــل الاشـجــار
غـابـوا محبـيـن...، طـيّــب... غـبــت أنـــا: طـيّــب... بـكــت دور
طـيّـب وبعـديـن يــا طـيّـب؟!... وش الـلـي ظــل مــا صـــار؟
حين أعيد قراءة الأجزاء الثلاثة السابقة، من 'يا زمان الوصل في الجهراء' أكتشف من جديد، والأصح أنني أكتشف للمرة الأولى تقريبا، روافد الشعر ومنطلقاته، بالنسبة لي ويتبين لي أنني لم أعرف ذلك من قبل، كيف كانت طفولتي مليئة بالشعر والغناء، لقد تعرفت مبكرا، مبكرا جدا، على صوت 'حجاب بن نحيت'، وأغاني 'فيروز'، وآخرين: 'بطي البذالي'، و'مفرح الضمني'، و'خلف العتيبي'، و'عبدالله فضالة'، و'صباح'، و'فايزة أحمد'، و'هيام يونس'، و'ذياب مشهور'، و'حسين جاسم'، و'وردة الجزائرية'، و'سميرة توفيق'، و'فيصل عبدالله'، و'أحمد يحيى'، و'عبدالحميد السيد'، و'أبو بكر سالم'، و'طلال مداح'، وغيرهم، غير أنني أريد التحدث عن آخرين: الشمس دافئة الضحى، والعريش يحاول، دون فائدة، بسط ظله، على كامل فرشة الجلسة، التي بدأ ضوء الشمس، يتهادى على طرف أو طرفين منها، كان خالي 'أبو صبار'، يُجْلِس ربابته، في حضنه، يتأكد من غزالتها، ويجر عليها بصوت شجي حزين ودافئ، أغنيات عذاب، كنت أجد في ذلك مسرة عظيمة لولا أنني كنت أفشل دائما في فهم الكلمات الأخيرة، في ما بعد عرفت أن تداخل الكلمات الأخيرة (القوافي)، وذوبانها في الصوت، جزء من ثقافة الغناء على الربابة، لم يكن خالي يغني أمام أحد، كان يكتفي بعائلته الصغيرة يغني لها ولنفسه، كان صوته عذبا ومؤثراً، ولا أتذكر أنه طلب منا السكوت مرة واحدة للاستماع، فقد كان صوته بإحساسه الجميل كفيلاً بالذهاب بنا بعيدا، في صمت مهيب للاستماع، بينما الذباب يحوم حول 'استكانات' الشاي مطمئناً، مستفيداً من لحظات الوجوم، كان صوت ربابتنا في العشيش أجمل وأعمق أثرا مما هو حين انتقلنا إلى 'الشعبيات القديمة'، هل كان ذلك لأنني كنت أصغر، أم لأن الخشب يجيد التفاعل مع الأحاسيس أكثر من الأسمنت؟ لست أدري. الأكيد أن الكهرباء عندما دخلت بيوتنا أنهت شيئا مهما، في حياتنا: 'الدّحّة'! ذلك لأن الكهرباء ما أن وصلت إلى 'الشعبيات القديمة' حتى نجحت في التقدم شيئا فشيئا، إلى 'العشيش' التي تركناها، وبقي فيها معظم جماعتنا، وهناك في 'العشيش' كانت الأعراس شيئا آخر من السعادة والفرح والمسرات، لا يمكن لأفخم قصور الأفراح اليوم الوصول إلى شيء من قدرتها على الغمر، وكانت رقصة 'الدّحّة' بالنسبة لـ'الزقاريط' من 'شمر' شيئا لا يمكن للأعراس أن تمر من دونه، أو ألا يكون الجزء الأهم منها مع زفة 'المعرس' في عرض غنائي جماعي، يشق فيه الرجال الذين يتوسطهم 'المعرس' حوش العشة، بينما تنزوي النساء على الأطراف، و'راكبٍ فوق حرٍّ يذعره ظله... مثل طيرٍ كفخ من كف قضّابه'، و'يا الطنايا حياة اليوم ملعونة... بالجزيره غديتوا تقل جيراني... داركم لعن ابوكم لا تخلونه... مشترينه بدم ارقاب صبياني'! أما 'الدّحّة' فقد كانت شيئا رائعا بالنسبة لطفل صغير مثلي، وكنت أحب شعراءها، وكان عمّي بالرضاعة 'مرزوق الرويتع' - رحمه الله - و'مدلول الغامض' أطال الله عمره، ومتعه بالصحة يشكلان بالنسبة لي مصدراً لسعادة غامرة فعلا، حين يبدأ أحدهما الغناء فيرد عليه الصف الآخذ، شيئا فشيئا، شكلاً هلالياً كبيراً، وفي حين كان صوت 'مدلول الغامض' شديد العذوبة والرقة والصفاء والأناقة فإن عمي المرحوم 'مرزوق الرويتع' كان يمتلك طريقة في الأداء تلهب الحماس في نفوس الجميع بشكل لا مثيل له، وحين كنت أسمع عنهما بعيدا عن هذا ما يؤكد السمعة الطيبة لكل منهما أحس أنني شريك في هذه المدائح. لقد كان لكل منهما من الأعمال الإنسانية الطيبة ما يثلج الصدر، ويبعث على الفخر حقا، كم أحببتهما ومازلت ممتناً لهما على أشياء كثيرة، غير هذه التي أحدثكم عنها، أعني 'الدّحّة' تلك الرقصة العجائبية ذات الطقوس الخاصة والتي كانت المرأة تشارك فيها الرجال الرقص بالسيف أحيانا، و بالعصا معظم الوقت، لكن الكهرباء قتلت 'الدّحّة'، ذلك لأن أجواءها كانت مرتبطة بالظلام الساتر، حتى أنني أتذكر أن خلافا حادا نشب ذات ليلة وكاد يتحول إلى مشهد دموي لمجرد أن شخصاً جاء أحد الأعراس وقت رقصة 'الدّحّة' ولم يطفئ أنوار سيارته، إلا بعد أن اقترب أكثر من اللازم من الصفوف، فكيف بالكهرباء إذن؟. الأكيد أن طفولتنا في 'عشيش الجهرا' كانت مليئة بالركض البهيج والشيطنة الفرحة ورحابة القلوب حتى وإن كانت مليئة بالذباب أيضاً!
من قصيدة «دخيلك يا مساعد»
تذكّرت الحصير، وغدفة امّي، والثياب سمال
قميص المدرسه، برد ومطر، وايدين مرتجفه
ولد يتشعبط الجدران حافي... ما عليه نْعَال
عشان بنيـّةٍ، عفريتـةٍ، مغرورةٍ، ترفه
كُبَرْ، وهْي كبَرَتْ، واللي مضى سمّوه: لعب عيال
نساها... ونْـسِتَهْ... ما فيهم اللي بَـّر في حِلْفَه
كتَب شيٍّ ، وظن انّه طريف، وقال اقول، وقال
تعَجّب: كيف هلّت دمعة اصحابه من الطّرْفَه
عَرَف درب القصيد، وجَمّعْ الدنيا ف حَبـّة خال
وقال ان القمر: تلميذةٍ، وان السما: شُرْفَه
===============
ويأبى فهد عافت إلا أن يبكي كل من سكن حب الجهراء قلبه .... وسلام حار للعم مدلول الغامض أطال الله في عمره
المفضلات