أنا عاطل.. أريد عملاً!
يشكو “بدر”، ومعه زملاء كثيرون، من هَمّ البطالة، يُفرد صفحات لكتابة معاناة كان يمكن أن يختصرها في جُمْلة ”أنا عاطل.. أريد عملاً”، لكن يبدو أنّ سنوات الانتظار مرّت عليه كثيراً؛ فلم تعد لديه قدرة على الاختصار، بل أصبحت الكتابة عنده وسيلة للتنفيس ينتقل بها هنا وهناك! بعد أن ملّ كلّ شيء، حتّى الوعود التي يقول إنّه ينتظرها اقتنع بأنّها لا تتجاوز كونها وعوداً لفكّ اختناق طارئ، وفضّ اشتباك نفسي قد يحدث!
مشكلة ”بدر”، ومعه زملاء كثيرون، تكمن في الانتظار؛ فهو يعتقد أنّ كلّ شيء أصبح ضده، حتّى المجتمع لم يعد ـ كما يقول ـ يتعاطف معه ومع زملائه في قضيّة التعيين! ويحيل ذلك الأمر إلى ”التطنيش”! ولعلّ “بدر” حسّاس إلى درجة كبيرة، ويتأثر بأول موقف يصطدم به في الحياة، وينسى أنّ هناك أناساً كثيرين سبقوه إلى المشكلة ذاتها، لكنّهم غسلوا أيديهم من الأمل في التعيين، واتجهوا إلى ميادين أخرى أرحب وأوسع في الرزق!
لن أقول إنّ ”بدر” مخطئ حين يعيش على أمل قد يأتي، وقد لا يأتي، لكنني مؤمن بأنّ الخريج إذا رُكن عن التعليم فترة طويلة من الزمن فإنّه يفقد جزءاً كبيراً من أهليته التعليمية، وحساسيّته التربوية!
وهنا تكمن المعضلة! منطقياً لا يوجد ارتباط وثيق بين ما يتعلّمه الطالب الجامعي وما يُدرّسه في المستقبل إنْ اتجه إلى التعليم العام، وعلينا بعدها أن نُحلّل المشكلة!
في هذه الحالة علينا أن نقيس حالة الاصطدام بين عالم جديد يتعلّق به وعالم افتراضي كان يستقي من خلاله علومه ومعارفه. ولأنّ الواقع يقول إنّ الخريج يصطدم بواقع تعليمي مختلف؛ فما يدرسه في الجامعة لا يرتبط بشكل مباشر مع ما يُعلّمه لطلابه؛ فكيف به إنْ رُكن عمراً يتجاوز عمره الدراسي، ويُقال له بعد كلّ هذا الركن: تعال.. لقد تمّ تعيينك! حينها يكون قد فقد أهليّته بشكل كامل!
لدينا أكثر من ”بدر”، وأكثر من ”علي”، وأكثر من ”منصور”؛ لدينا ”فاطمة” و”نورة” و”عائشة”؛ لدينا أناس كثيرون ينتظرون التعيين! لكن علينا أن نسلّم بأنّ التعليم لا يمكن أن يستوعب كلّ هذه الأعداد، في ظلّ التكدّس المستمرّ دون حلّ، وفي ظلّ القبول المتزايد في أقسام أدبيّة لا مكان معتقداً لأصحابها بعد التخرّج إلاّ التّعليم!
يكتب ”بدر” - وما أكثرهم لدينا - أنّه واحد من اثني عشر ألف معلّم في تخصص اللغة العربيّة، ولكم أن تتخيّلوا ”بدر” وزملاءه الذين ينتظرون سنوات لكي يُدرّس، في حين أن باستطاعة ”بدر” أن يبحث عن أقرب مخرج؛ ليتجاوز الاختناق الحاصل، ويبحث له عن منافذ ربما تكون أجمل، وأنفع، وأكثر رزقاً!
يحكي لي صديق عن فرضيّات الخطأ والصواب في حياتنا، فيقنعني بحادثة صديقه الذي عمل في التجارة فخسر كلّ شيء نتيجة أزمة اقتصاديّة، وحين أعلنت إحدى المؤسسات التعليميّة حاجتها إلى عاملين تقدّم صديقه هذا راضياً بمبلغ زهيد، لم يكن ليرضى به قبل أن يخسر كلّ شيء، لكنّه اعتقد أنّ هذا هو الحلّ الوحيد! لكنّ صديقه لم يكن من الناس الذين تمّ ترشيحهم، فكانت ردّة فعله أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واعتقد أنّ باب الرزق قد أُغلق في وجهه، لكنّ مقاومة داخليّة افترضت ألاّ حاجة إلى بكاء أو عويل على رزق هنا قد يأتي وقد لا يأتي!
فعاد إلى مكانه الأول الذي جاء منه؛ ليعيد التجربة بمغامرة أخرى في المكان الأول الذي كان مصدر صدمته الأولى! اليوم يتحدّث صديقي هذا عن صديقه فيقول: أصبح اليوم تاجراً كبيراً يُشار إليه بالبنان، وفي كلّ جلسة يحمد الله على أنّه لم يركن إلى وظيفة تعطيه دخلاً ثابتاً ومحدوداً؛ فهو سعيد لأنّه لم يكن من المقبولين هناك؛ فكان بابه هنا مفتوحاً على مصراعيه.
أعود إلى ”بدر” وأصدقائه؛ فأقول: لم يعد أحد اليوم صغيراً كان أو كبيراً في القدر والمقام يجهل ما وصل إليه أمره وأمر زملائه، لكنّ الواجب على ”بدر” ألاّ ينتظر القطار؛ فربما توقّف في محطّة أخرى بعيدة قد لا تصل إليه الآن، وقد لا تصل إليه في أيّ وقت آخر! لكنّ الانتظار الطويل يُفقد ”بدر” ويُفقد زملاءه ويُفقد الوطن ثروات مهدرة يمكن أن تُكتسب في أجزاء أخرى من الحياة! فقط نحتاج إلى توسيع دائرة التفكير، والنظر إلى أبعد من تعيين منتظر، ووظيفة معلّم!
المفضلات