في يوم من أيام العام 1894م، رُزِق صيّاد السمك "سالم الشبيب الشمري" بابنه الوحيد الذي سماه "صقر"، كان سالم الشبيب فرحًا بوصول ابن له سيحمل عنه بعضًا من تكاليف الحياة الثقيلة، وبدا ينتظر الأيام والسنين ليكبر "صقر" كي يعلمه حرفة صيد الأسماك. إلا أن القدر كان له رأي فيما يتعلق بالمسار الذي سيسلكه "صقر" ففي عُمر التاسعة أصيب الصبي الصغير بالعمى، مما أحبط آمال والده في تعليمه حرفته، لذا بدأ بعدها الوالد في توجيه ونصح ابنه ليكون واعظًا وخطيبًا في المساجد، فبالنسبة لحال "صقر" وأمثاله تضن الحياة عليهم بالكثير من الأشياء ومن بينها بل على رأسها اختيار أعمال ووظائف، تلبي له حاجاته الضرورية من مأكل وملبس ومأوى، وكانت وظيفة الوعظ والخطابة في المسجد تعِدُ بالكثير لـ"صقر".
شباب صقر
ولم يكد "صقر" يُنهي العقد الثاني من عمره، حتى فُجِع بفجيعة أخرى...فقد توفت والدته، ولم يبق له في الحياة سوى والده وأختين صغيرتين.
كان وقت ذاك قد بدأ يهتم بالشعر، وقراءة كتب الأدب بمساعدة أصدقائه، هذا الأمر كان كافيًا لإحداث نزاعٍ مع والده الذي كان ينصحه أحيانًا ويوبخه أحيانًا أخرى بشأن اهتماماته الشعرية، فوالده رجل فقير من بيئة أكثر فقرًا سيطر عليها التخلف لزمن طويل، يعتمد في انزعاجه من الشعر على الآية القرآنية { والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ، طبعًا كان الوالد من طينة كثير من أبناء مجتمعه، لا يرى إلا الجزء الفارغ من الكأس، فلو أمعن قليلاً في قراءة القرآن لكان دواءه جاهز، ففي الآية التالية المباشرة يقول الحق تبارك وتعالى { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }..استثناء لم يتدبره...بل لم يقرأه والد صقر ولا غيره من أبناء بيئته.
على وقع هذا النزاع مع والده كان صقر يترك البيت أحيانًا، ولا يعود إلا لرؤية أختيه الصغيرتين، وذلك حين يكون الوالد ذاهبًا للخارج.
وفي عام 1914م على أرجح الأقوال، ارتأى "صقر" أن يرحل إلى "الإحساء" مركز العلوم الشرعية آنذاك.
فذهب إلى هناك..يحدوه الأمل ببيئة أفضل من بيئته، ببيئة أهلها ذو عقول متفتحة ومتنورة، ببيئة خصبة له ولأمثاله من المهتمين بالأدب والشعر، إلا أنه فوجئ بوجود بيئة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي غادرها ...بيئة ملأها التخلف...والصراعات...والانغلاق نحو الخارج، ورفض كل جديد.
فانكب هناك على قراءة ما تيسر له من كتب الأدب، وهناك وللمرة الأولى تقع يدُه على كتب توأمه الروحي "أبو العلاء المعري"، فقرأ له كتبه وإشعاره، وتأثر به وبطريقته ومنهجه الشعري.
وخلال إقامته هناك، أصيب "صقر" بالحمى، أقسم على إثرها حال شفاءه أنه لن يعود أبدًا إلى "الإحساء":
لئن عُدتُ إلى الإحساءِ يومًا فإنني***لألأم خلق الله طرًّا وأفجر.
العودة إلى الكويت
بعد عودته إلى كويت والتي تؤرخ بحدود العام 1916م أي في أشد سني الحرب العالمية الأولى ضراوة، عمل خطيبًا بالمساجد، الأمر الذي أعاد علاقته مع والده إلى وضعها الطبيعي، وكان "صقر" يأمل بشدة في أن يُدرِّس في "المباركية"، ولكن طلبه قوبل بالرفض لأنه...بكل بساطة "أعمى"، فقال والأسى والحزن وخيبة الأمل اجتمعت كلها فيه:
يقولون لي:يا صقر مالك عاطلاً ***وقد وظفوا مـن لم يُقاربك في الأدب
فقلت لهم:في رثة الثوب ما نعي***رقـى إلـى تلك المــنـاصـب والرتــب
يُولى هنا المرء الوظيفة جاهلاً ***على شرط أن تلقى ملابسه قشب
فانكب على قراءة كتب الأدب للمعاصرين من الأدباء والشعراء، مما أعاد الجفوة بينه وبين والده، عاش في ظل علاقته معهم بضع سنين من الراحة، على قِلتِها فقد كانت مؤقتة وفي فترات متفرقة.
وكان ممن يرتبط بعلاقة طيبة معهم الشيخ "سالم المبارك " حاكم الكويت، وعلاقته معه تمتد إلى ما قبل توليه سُدة الحكم في الكويت، ففي عام 1918م توفي "سالم الشبيب" تاركًا لأبنه "صقر" أختين وبيتًا خربًا، خاليًا من قوت يوم واحد، فرأى "صقر" أن يتقدم للشيخ بأبيات شعرية يلوح فيها بورطته، قال في بيت منها:
فيا فرحتي إن نلت عندك حاجتي***ويا حسرتي إن لم أنلها ويا خسري
واستجاب الشيخ لطلبه، فأمر أن يُهدم البيت من أساسه، وان يُبنى بيت جديد على الكيفية التي يُريدها الشاعر، وكانت أختاه قد تزوجتا قبل أن يتم الانتهاء من بناء المنزل، الذي عاش فيه فيما بعد وحيدًا. ولم تدم علاقته مع شيخه المحبوب طويلاً ففي عام 1921م توفي الشيخ سالم المبارك، وكان حزن الشاعر عليه كبيرًا وشديدًا، مما جعله يذكره في كل مناسبة بعد ذلك.
وكان ممن أثرى فكر وعقل "صقر الشبيب" الشيخ "عبدالعزيز الرشيد" مؤرخ الكويت الأول، فقد رأى "صقر" في الشيخ عالم الدين الورع، وفقيه الدنيا المنفتح العقل المستنير الفكر، وقد وصف الشيخُ "عبدالعزيز الرشيد" صقرًا بـ"شاعر الكويت" وذلك في كتابه "تاريخ الكويت"، وأيضًا فإن الشيخ "عبدالله بن خلف الدحيّان" يُعتبر من أقرب الناس إلى نفس وعقل "صقر الشبيب"، فالشيخ "الدحيّان" كان عونًا كبيرًا لـ"صقر" في حياته الأدبية والمادية، فقد أخذ يُمهد لـ"صقر" سبيل الاتصال بمن يزوره من العلماء ويقدمه في مجلسه، ويدعوه إلى زيارته إذا تأخر عن المجيء إليه، وعلى الناحية المادية فقد كان الشيخ "الدحيّان" يحرص على حل مشاكل "صقر" المالية، بحيث كان لا يخلو مجلسه يومًا منه، حتى إذا توفى الشيخ "عبدالله بن خلف الدحيّان" عام 1930م، رثاه "صقر" بعدد من القصائد تدل لكثرتها على شدة الكارثة التي أصابته بوفاة أستاذه وصديقه، كما تعكس تلك الأزمة النفسية التي أخذ يُعاني منها بسبب وفاته.
ولعل علاقة الشاعر مع الشيخ "عبدالله السالم" كانت كذلك من أجمل فترات حياته، فقد كان الشيخ "عبدالله السالم" يحب الشاعر ويقدره، وكان "صقر" يزوره مرتين في الشهر، وكان قد توظف آنذاك بإدارة المعارف، فخُصِصَت له غرفة يجلس فيها لتدريس من يُحِب أن يدرس القواعد، فكانت غرفته تعجُّ بالناشئين، وكانوا يتناقشون معه في الأدب، وداوم في هذه الغرفة ما يقرب العام انقطع بعدها عن الدوام ولزم بيته، كما انقطع عن زيارة الشيخ "عبدالله" مُتعللاً بكثرة السيارات في الطريق، فكان المرحوم بإذن الله "عبدالله السالم" يُرسل له سيارته لتنقله إلى "قصر الشعب" للاجتماع به.
ثم رفض "صقر" أن يخرج من بيته حتى بسيارة الشيخ، وأرسل للشيخ قصيدة يعتذر فيها عن تلبية طلبه، قال فيها:
لئن لم أزُرْ في كل يوم محل من***عليَّ له فضلٌ يجلُّ عن الشكرِ
ومنها:
فـلـيــس لصـقـر أن يُبــارح وكــره***إذا سُدت العينين منه يـد الضـر
فما طار مكفوف الصقور فسالمت***جناحيه قبل اليوم عادية الكسر
إلى أن قال:
لهاتيكم الأسباب قلَّت زيارتي***وإن كنت من شوقي إليكم على جمرِ
فوافقه الشيخُ على طلبه، وأعفاه من زيارته، وطلب سموه من إدارة المعارف آنذاك، أن تُجري له راتبًا من غير أن تكلفه القيام بعمل ما.
في الجزء الثاني والأخير...سنتعرف على الأيام الأخيرة في حياة صقر الشبيب، وهل حملت في طياتها أحزان أخرى أم لا
غانم العبدالله
الجزء الثاني.....
السنوات الأخيرة:
تزوج "صقر" ثلاث مرات في حياته، وأطول مدة بقيت فيها زوجة على ذمته لم تتجاوز ثلاثة أشهر، ويعزو أسباب الطلاق إلى مضايقتها له في كثيرٍ من الأحيان.
وكانت الفترة التي أعقبت وفاة "عبدالملك بن صالح المبيض" أعز أصدقائه هي أحلك الفترات في عمر "صقر"....وربما آخرها.
فاعتزل صقر الناس ورفض الخروج من داره، لقد كان كما وصفه خالد الفرج "معرى الكويت" فأصبح رهين المحبسين، لكن المطالع لحاله يجزم بأنه رهين محابس كثيرة.
وفي يوم السادس من أغسطس 1963م، أتت لجنة التثمين إلى بيت "صقر" لتبشره بتثمين بيته، فلعله يكون هذا اليوم فصل جديد ولكن سعيد ومليء بالخير لرجل فقد كل أمل له في حياة هنيئة، لرجل فقد كل من يُحبه، لرجل عاش ولم يفارقه سوى ثلاثة أشياء الحزن والأسى والبؤس الشديد.
لكن هل سيفرح بقدومهم؟ هل سينسى آلامه ومآسيه خلال عقود مضت؟ هل سيعوضه هذا عن نعمة البصر التي فقدها منذ الصغر؟ هل سيعوضه هذا عن فقدان الأحبة بدءًا بوالديه...والشيخ سالم المبارك...والشيخ الدحيّان...وصديقه عبدالملك المبيض؟
من يدري ذلك...ومن يهتم فـ"صقر" كان في مكان آخر ...بعيد كل البعد في ذلك اليوم، وهنا نترك رفيق دربه الأستاذ أحمد البشر يحدثنا عن أغسطس عام 1963م كفصلٍ أخير من فصول معاناة "صقر الشبيب".
قال الأستاذ أحمد البشر: (في السنوات السبع الأخيرة من حياته ملَّ الدنيا، وسأم تكاليف الحياة، وكان فصل الصيف من كل سنة من السنوات السبع يخيفه أشد الخوف، هذا مع وجود مكيف في غرفته، وكان ينبه على من اعتاد زيارته أن ينقطعوا عن زيارته في الأشهر الثلاث التي تبدأ بشهر يوليو إلا عند الضرورة القصوى).
ويُضيف الأستاذ البشر: (حاولت زيارته بتاريخ 14/7/1963م فقرعت عليه الباب فلم يُجِب، فعزوت عدم إجابته لي أنني بالأشهر الممنوع زيارته فيها، وفي مساء 24/7/12963م تقرر سفري إلى اليمن، فذهبت صباح ذلك اليوم إلى البيت لوداعه، غير أنه لم يجبني عندما قرعت بابه، وفي المساء سافرت إلى القاهرة، ومنها إلى صنعاء عن طريق عدن، وعدت من اليمن إلى القاهرة يوم الأحد 18/8/1963م، وذهبت فورًا إلى السفارة الكويتية، فإذا بالمعزين يستقبلونني بالتعزية بوفاته.
أما كيف مات، فإنه مرض خمسة أيام، ولم يستعن بطبيب، وفي اليوم السابق لوفاته طلب من الخادم أن يستدعيني، ولما علم أنني غير موجود في الكويت سكت، ولما طلب منه الخادم أن يستدعي أحدًا غيري من الأخوان أو الأصدقاء قال له ليس هنالك من داع لذلك، ولم يكن الخادم معه في البيت، بل كان يمر عليه ساعة واحدة باليوم، ولما أراد الخادم أن يخرج من عنده وذلك صباح يوم 6/8/1963م، طلب منه أن يضع بقربه إناء الماء، وكان على سريره، وأوصاه وشدد عليه في أن لا يخبر احدًا بمرضه، وأن يقفل عليه الباب ويأخذ المفتاح معه.
فخرج الخادم من عنده، وفي صباح يوم الأربعاء 7/8 فتح الخادم الباب ودخل عليه فوجده على الأرض نائمًا على ظهره وقد فارق الحياة، وفي الحال اخبر الأخوان، فشيعت جنازته من قبل أهل المحلة، ولم يتجاوز عدد مشيعيه العشرين).
انتهى كلام الأستاذ البشر مع بعض التصرف.
انتهت بذلك حياة بائس من البؤساء...انتهت حياته الطويلة والكثيرة بالمعاناة...انتهت فصول مآسيه وآلامه وحيدًا كما كان ...بعيد عن الناس كما كان...حزينًا كما كان.
نثرًا يمكن وصف "صقر الشبيب" بـ(رجلٍ أقبلت عليه الدنيا بمصائبها وأحزانها، وأدبرت عنه بخيرها وأفراحها).
هل كان مصادفة أن يُنشد أبو القاسم الشابي قصيدة قبل ثلاثين عامًا بالتمام من وفاة "صقر الشبيب"... يمكن وصف أبياتٍ منها بأنها إيجاز شعري لإجمالي مسيرة حياة "صقر":
ماذا جنيت من الحياة ومـن تجـاريـب الدهـور
غير الندامة والأسـى واليـأس والدمـع الغزيـر
هذا حصادي من حقول العالم الرَّحب الخطير
هذا حصادي كله، فـي يقظـة العهـد الأخـيـر.
هذا هو صقر سالم دهيرب الشبيب الاسلمي الشمري
احد اعلام الشعر والادب في الكويت. 06-08-2008, 16:57
المفضلات