يذكرنا شعر الشاعر العربي من سوريا بدوي الجبل، بفحول الشعر العربي إبان عصور ازدهاره وتألقه: لغة وتدفق طبع وافتتان تعبير.
في شعره لفح شعر المتنبي وتوهجه،
وفيه إحكام أبي تمام وبراعة فنه وصنعته،
وفيه سلاسة البحتري وموسيقاه وانسيابيته،
في مزاج مرهف، غذته طبيعة الشام الآسرة،
وسكبت فيه صورها البديعة اللافتة، فاكتمل له نسيج متفرد بين شعراء عمره بوجه عام، وشعراء سوريا بوجه خاص.
ولد محمد سليمان الأحمد - الذي عرفه القراء باسمه المستعار بدوي الجبل الذي اتخذه لنفسه في مستهل حياته الأدبية - في إحدى قرى محافظة اللاذقية عام 1905،
وتتلمذ على يدي أبيه العالم اللغوي والفقيه الديني سليمان الأحمد، ثم أتم دراسته في حماة، حيث تفتحت مواهبه وشد إليه اهتمام الناس، الذين بهرهم شغفه بحفظ الشعر وروايته وإقباله على كتب اللغة والأدب، وإبداعه الشعري المبكر، المؤذن بالنبوغ والتفوق.
وفي عام 1925 نشر بدوي الجبل ديوانه الأول، فاستقبله كبار شعراء عصره بالاهتمام والتقدير، وكتب عنه الأخطل الصغير: بشارة الخوري، وخليل مردم ومحمد كرد علي وعبد القادر المغربي وآخرون من أعلام الأدب والبيان.
وانتهت رحلة الشاعر مع الحياة عام 1980 في دمشق، مخلفا ثروة شعرية ضخمة، وتأثيرا عميقا في الشعراء من بعده.
والقصيدة التي نعرضها من شعره، هي إحدى روائعه الحافلة بأسرار فنه وشاعريته، في مسحة من الشجن الشفيف واللوعة الحارة، حركها في نفسه سؤال ملهمته عن سن الخمسين التي بلغها وما فعلت به، وفجر السؤال ما كتمه الشاعر طويلا فباح، مصارحا ومواجها غير وجل ولا هياب، وليكن بعد ذلك ما يكون! يقول بدوي الجبل:
تأنق الدوح يرضي بلبلا غردا=من جنة الله، قلبانا جناحاه
يطير ما انسجما، حتى إذا اختلفا=هوى، ولم تغن عن يسراه يمناه
الخافقان معا، فالنجم أيكهما=وسدرة المنتهى والحب أشباه
غمرت قلبي بأسرار معطرة=والحب أملكه للروح أخفاه
وما امتحنت خفاياه لأجلوها=ولا تمنيت أن تجلى خفاياه
الخافيان وفوق العقل سرهما= كلاهما للغيوب: الحب والله
كلاهما انسكبت فيه سرائرنا=وما شهدناه، لكنا عبدناه
حمنا مع العطر ورادا على شفة=فلم نغر منه لكنا أغرناه
تهدلت بالجنى المعسول، واكتنزت=والثغر أملؤه للثغر أشهاه
نعب منه بلا رفق ويظمئنا=فنحن أصدى إليه ما ارتشفناه
لم تعرف الحور أشهى من سلافتنا= رف الهجير ندى لما سقيناه
مدله فيك، ما صبح ونجمته=موله فيك، ما قيس وليلاه
من كان يسكب عينيه ونورهما= لتستحم رؤاك السمر لولاه
سما بحسنك عن شكواه تكرمه= وراح يسمو عن الدنيا بشكواه
أتسألين عن الخمسين ما فعلت؟=يبلى الشباب ولا تبلى سجاياه
في القلب كنز شباب لا نفاد له=يعطي ويزداد ما ازدادت عطاياه
فما انطوى واحد من زهو صبوته=إلا تفجر ألف في حناياه
يبقى الشباب نديا في شمائله=فلم يشب قلبه إن شاب فوداه
تزين الورد ألوانا ليفتننا= أيحلف الورد أناما فتناه
صادي الجوانح في مطلول أيكته=فما ارتوى بالندى حتى قطفناه
هذا السلاف أدام الله سكرته=من الشفاه البخيلات اعتصرناه
جل الذي خلق الدنيا وزينها= بالشعر، أصفى المصفى من مزاياه
يا من سقانا كئوس الهجر مترعة=بكى بساط الهوى لما طويناه
إن كان يذكر أو ينسى فلا سلمت=عيني ولا كبدي، إن كنت أنساه
يحب قلبي خباياه ويعبدها= إذا تبرأ قلب من خباياه
طفولة الروح أغلى ما أدل به=والحب أعنفه عندي وأوفاه
قلبي الذي لون الدنيا بجذوته=أحلى من النور نعماه وبؤساه
لم يرده ألف جرح من فواجعه=حتى أصيب بسهم منك أرداه
إن نحمل الحزن لا شكوى ولا ملل=غدر الأحبة حزن ما احتملناه
قد هان حتى سمت عنه ضغينتنا=فما حقدنا عليه بل رحمناه
يرضيه أن يتشفى من مدامعنا= لم نبك منه ولكنا بكيناه
حسب الأحبة ذلا عار غدرهمو=وحسبنا عزة أنا غفرناه!
صحا الفؤاد الذي قطعته مزقا=حرى الجراح ولملمنا بقاياه!
محبكم أبو جواد : خاتمة : وعاجز الرأي مضياع لفرصته ....حتى إذا فات أمراً عاتب القدرا
المفضلات