الكاتب القدير محمد الرطيات متوقف حاليا عن الكتابة في صحيفة المدينة ...
وقد جلبت لكم بعض قديمه .. من موقعه الشخصي ...
.
.
.
(1)
وكل مسألة فيها قولان .. إلا " هليّل " !
فعندما يأتي ذكره ، تسمع ألف قول وقول .
نسبه ؟.. هناك من يقول أنه من قبيلة لا شأن لها بين القبائل ، وهناك من يقول أنه أتى نتيجة علاقة آثمة ، وهناك من يقول أنه من بقايا " الأرمن " الذين نجوا من مذابح " الأتراك " ، وهناك من يبتكر رواية رابعة لا تقلّ في الخيال و الحبكة والاثارة عن الروايات السابقة !
تنظر إليه ، وتـُصيبك الحيرة : هل هو أبيض أم أسود ؟!
نغمة صوته تقول لك أنه أسود ، وكذلك شكل الشفتين . بقية التفاصيل في ملامح وجهه تقول أنه أبيض ، لونه يقف ما بين اللونين !
عمره ؟.. هناك من يقول أنه بعمر مدينتنا الصغيرة ، وهناك من يُقسم بأنه أكبر منها قليلا !
الأكيد أننا ولدنا وهو موجود ، وعندما نسأل من سبقونا من " الشيبان " الأكبر سنا ً ، يقولون لنا :
نذكر وجوده بيننا .. ولكننا لا نتذكـّر من أين أتى ومتى أتى !
ما يزال الناس يتذكرون بعض " أقواله " وكأنها نبؤات ، أو عبارات لحكيم :
" باكر تجيكم عاصفة من غرب ، اللي مات يحمد ربه ، والحي يتمنى لو أنه ما أنولد ! "
أستعادت الناس عبارته تلك قبل فترة ، عندما هاجت الصحراء على أطراف مدينتنا ، وأصابتها نوبة من نوبات الغضب . يرددون هذا القول وهم يضحكون في العلن ، وكأنهم يسخرون من العبارة وصاحبها، ولكنهم مرعوبون في السر ، ويدعون الله بهمس أن لا تكون تلك " عاصفة هليّل " !
وهذا ما حدث عند الحرب على العراق ، أستعادوا عبارته التي يقول فيها :
" شقر الشعور ، زرق العيون ، باكر يجون ! "
وكم من مرة يسيّسون ما يقوله " هليّل " ، وكم من حادثة يحورونها قليلا ً لكي تكون ملائمة لإحدى عباراته .
كان يدخل البيوت ( حتى تلك المحافظة جدا ً ) دون أستئذان ، والنساء اللواتي لا يكشفن وجوههن للغرباء .. يكشفن أمام " هليّل " كأنه أحد الأقارب !
يمازحهن ، ويغني لهن بعض الأبيات من قصيدة عاميّة ( يُقال أنها له ، ويُقال أنها كُتبت في حبيبة سريّة لا يعرفها أحد ) بل أنه يتجاوز أحيانا ً ويقول لهن ما هو فاحش من الشعر ، وقبل أن تأتي ردة فعلهن الغاضبة لجرأته ، يلتفت إلى الصغار ويصرخ " فررررر" .. ويقوم بلف شماغه الممزق من جهة الأذنين على شكل اذان ذئب ، ويطاردهم في باحة المنزل ، ويقوم ببعض الحركات الضاحكة التي تُضحك الاطفال ... والنساء أيضا ، واللواتي وسط ضجيج المشهد والمرح ينسين ما قاله قبل قليل في قصيدته عن : النهد والخصر والضم في ليالي الشتاء الباردة !
طبعا ً .. لا يخرج إلا بعد أن يتناول الغداء مع أهل البيت ، وذلك بأصرار من " الرجال " عندما يعلمون بوجوده ، بالأضافة إلى حصوله على كيس يحتوي على بعض المعلبات والخبز ، وكيس آخر فيه بعض الملابس .. ويقبل أي شيء من الملابس ولأي موسم .. عدا الاحذية فهو لا يقبلها ، ويفضّل أن يمشي حافيا ً .
عندما نلتقي معه في الشارع ، وذلك بعد خروجه من أحد المنازل ، نسأله عن أبنتهم الحسناء " هل رأيتها " ؟.. " وش كانت لابسه " ؟.. " هي حلوة يا هليّل " ؟.. كان يغضب من أسئلتنا ، فهو يرفض أن يتحدث عن نساء أي بيت يدخله ، وكنا نعرف كيف نطفيء هذا الغضب ، ونستر أنفسنا لكي لا يفضحنا أمام أحد أخوتها .. وذلك بــ "خمسة ريالات " .. وما أسوأ حظك إن لم يكن لديك ورقة نقدية من فئة " الخمس ريالات " .. سيصرخ بأعلى صوته بأنك بخيل بالاضافة إلى بعض الصفات السيئة الاخرى .
كنا نسمـّيها " خمسة الازمات " وأحيانا ً " خمسة هليّل " .. نضعها في جيوبنا أحتياطا ً ، فمن الممكن أن نلتقي به في أي شارع و يطلب : " هات خمسة ريال "... تريد أن تعطيه " عشرة " ، أو " خمسين " ، او حتى " مائة " حتى تسلم من الفضيحة .. ولكنه لا يقبل !.. أما " خمسة " ، أو الفضيحة !
حتى أصحاب البقالات عندما يأتي " هليّل " إليهم .. من الممكن أن يأخذ ما سعره أكثر من خمسة بخمسة ريالات فقط .. لأنه دائما ً ما يحدث العكس أيضا ً فيأخذ ما قيمته أقل من خمسة ولا يقبل أن يأخذ الباقي .. كأن محفظته المهترئة والصغيرة لم تـُصنع إلا لحمل الخمسات !
يحكون عنه بعض الحكايات الخرافية ..
فهناك من يقول أنه شاهده في إحدى الليالي على أطراف المدينة ، في الصحراء ، حوله الكثير من النيران المشتعلة ، وأنه سمع أصوات أناس لا يراهم ، وكان " هليّل " وحده يغني ويرقص .. وتُروى مرة أخرى مع أضافة سماع أصوات الطبول !
ويحدث أن شخصين يرويان أنهما شاهداه في مكانين مختلفين في نفس الوقت !
وأصحاب هذه الروايات ، هم في الغالب من يروّج لنظرية أن " هليّل " جني .. وليس أنسي !
(2)
" هليّل " مات ..
ومدينتنا أصبحت بلا طعم بغيابه .
بل أن كل مدينة لا يُوجد فيها " هليّل " هي مدينة ناقصة .
(3)
حتى هذا اليوم – وبعد سنوات من موته – هناك من يقول أنه رآه البارحة !
محمد الرطيان
المفضلات