بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله، تفرّد عزًّا وكمالاً، واختصّ بهاءً وجمالاً وجلالاً، أحمده سبحانه وأشكره، تقدّس وتنزّه وتبارك وتعالى، وأسأله جلّ في علاه صلاحَ الشّأن كلّه حالاً ومآلاً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، أمرنا بعبادته وطاعته غدوًّا وآصالاً، وحذّرنا مغبّةَ التفريط لهوًا وإغفالاً، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أزكى الورَى خِصالاً، وأسنَى البريّة خِلالاً، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين بلغوا من السّؤدَد ذُراه، وتفيّؤوا من المجد ظلالاً، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد ... أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل (( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ))
عباد الله / بين يدي المأذون وبحضور الولي والخاطب والشهود وعند إجراء العقد تفاجأ الجميع بسؤال غريب من والد الخاطب.. لماذا جئنا هنا يا بني ؟ وما مناسبةُ اجتماعنا بهذا المكان ؟ أجاب الخاطب والده بقوله : اجتمعنا لعقد زواجي ...! صمت الوالد وصمت الجميع ثم تساقطت دموع الوالد ...ثم قال : لماذا أنا آخر من يعلم يا ولدي .. ألم تعلم أنني أفرح لفرحك وأحزن لحزنك .. ألم تعلم أنني سبب وجودك في هذه الحياة ... أُنفق.. وأشفق.. أتعب لترتاح .. وأشقى لتسعد أكد وأسعى، وأدفع عنك صنوف الأذى ؛ أنتقل في الأسفار وأجوب الفيافي والقفار، وأتحمل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش لك، أنفق عليك وأصلحُك وأربيك لأكون سبب في بقائك .
نعم عباد الله تهميش الآباء ظاهرة خطيرة ومعول هدم للمجتمعات الإسلامية المحافظة وطريق موصل لمحطة العقوق . الوالد يتطلع للإحسان، ويؤمّل الصلة بالمعروف ، فإذا بهذا الابن قد تناسى ضعفَهُ وطفولتَه وأُعجِب بشبابه وفتوته وغرّه تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته عن والده .
نعم عباد الله تهميش بعض الأبناء لآبائهم تجاوز الوصف حتى أن بعضهم لا يذكر أباه إلا عند مشكلة أو مصيبة أو عند الحاجة للمال بل ربما استغنى عن هذا وذاك واستقل بمرتبه الذي لا يعلم والده مقداره بل ربما لايعلم والده مكان عمله نسي هذا الولد أن للّه عليه نعمة الخلق والإيجاد، ولوالديه نعمة التربية والإيلاد .
أحد الآباء سألته عن ابنه فقال ابني منشغل بتجارته فقلت بأي تجارة منشغل ؟ قال لا أعلم ... ! يبيع ويشتري ويأتي ويخرج ولا أعلم شيئاً عنه ولم أذكر مبلغاً أعطاني إياه من بيعه وشرائه.
غَذَوتُـك مولـودًا وعلتُك يـافعًا تُعلّ بِمـا أَجْنِي عليك وتنَْهلُ
إذا ليلـةٌ نابتـك بالشَّجْو لَم أبت لشكواك إلا ساهـرا أتَململُ
كأنِّي أنـا المطروق دُونَك بالـذي طُرِقْتَ بـه دُونِي فعينِي تَهْملُ
تَخـاف الردى نفسي عليك وإنّنِي لأعلمُ أن الموت حتمٌ مؤجـلُ
فلمـا بلغت السّنَّ والغـايةَ التِي إليها مدى ما كنتُ فيك أُؤمّل
جعلـت جزائـي غِلظةً وفظـاظةً كأنك أنت الْمنعـمُ المتفضـلُ
فليتَـك إذ لَم ترْعَ حـق أبـوّتِي فعلتَ كما الجارُ الْمجاور يفعلُ.
عباد الله / قد يقول قائل : لماذا أخبر والدي عن كل صغيرة وكبيرة في حياتي ؟ أبي لا يقدم ولا يؤخر ولا فائدة في إشراكه في اتخاذ رأي أو طلب مشورة لأنه لم يعد له الدور الحالي في الحياة وهذا التهميش قد يسبب له الإحباط النفسي ويجعله عرضة للإصابة بضيق الصدر والشعور بالعقوق ، بل ويعرضه للأمراض النفسية والعضوية، وحجة من يفعل هذا الصنيع أن التعامل مع كبار السن صعب، وأنهم يحتاجون إلى زمن طويل للتفاهم معهم، ولذا آثروا البعد عن النقاش معهم وتهميشهم .
فنقول هناك أمور ينبغي أن يطلع عليها الوالد كشراء أرض أو مسكن أو زواج لك أو لأحد أحفاده أو شراء سيارة أو سفر أو اختيار صديق أو غير ذلك إسئناساً برأيه وكسباً لوده وبره وتطيباً لخاطرة وتواضعا ً له وليناً لجانبه بل ربما فتح الله لك أبوباً من الخيرات بفضل الله ثم برأيه وأنت قد غفلت عنها وغابت عنك .
وهذا الأدب مع الآباء متوارث بين الأمم والأجيال ، فهو منهج الأنبياء ، وخلق الأصفياء وقد حث على هذا الأدب نبينا صلى الله عليه وسلم فعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم " ، وقال صلى الله عليه وسلم :" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا "
وهذا التهميش للآباء ربما يرجع لأسباب منها:
1- الجهل بعواقب هذا التهميش للأب العاجلة والآجلة، وجهل ثمرات البِّر العاجلة والآجلة، قاده ذلك إلى طريق العقوق، وصرفه عن البر.
2- سوء التربية: فالوالدان إذا لم يربيا أولادهما على التقوى، والبر والصلة، وطلب المعالي، وحسن التعامل والأدب فإن ذلك سيقودهم إلى التمرد والتهميش.
3- الصحبة السيئة للأولاد: فهي مما يفسد الأولاد، ومما يجرئهم على الوالد، ويشجعهم على الاستقلالية بالرأي وتهميش الآباء .
4- عقوق الوالدين لوالديهم فإن كان الوالد عاق لوالديهم عوقبا بعقوق أولادهما- في الغالب- وذلك من جهتين:
أولاهما: أن الأولاد يقتدون بآبائهم في العقوق.
وأخراهما: أن الجزاء من جنس العمل.
5- قلة تقوى الله في حالة الطلاق: فكثير من الأزواج إذا حصل بينهما طلاق لا يتقيان الله في ذلك، ولا يحصل الطلاق بينهما بإحسان، كما أمر الله.
بل تجد كلَّ واحد منهما يغري الأولاد بالآخر، فإذا ذهبوا للأم قامت بذكر مثالب والدهم، وبدأت توصيهم بتهميشه بل بتركه وهجره ، أو أنفراد الأب بنفسه أو بزوجة جديدة وترك الأم والأولاد وشأنهم .
6- التفرقة بين الأولاد: فهذا العمل يورث لدى الأولاد الشحناء والبغضاء، فتسود بينهم روح الكراهية، ويقودهم ذلك إلى بغض الوالد وتهميشه بل وعقه .
7- قلة إعانة الوالد لأولاده على كمال الأدب وحسن التعامل معه إما بتهميشهم تارة وإما بالتسلط عليهم وأطرهم تارة أخرى .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَـٰلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً))
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
عباد الله / جاء رجل إلى عمر بن الخطاب يشكو إليه عقوق ابنه . فأحضر عمر الولد و أنّبه على عقوقه لأبيه و نسيانه لحقوقه عليه . فقال الولد : يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه ؟ قال : بلى ، قال : فما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : أن ينتقي أمه و يحسن اسمه و يعلّمه الكتاب أي "القرآن " . قال الولد : يا أمير المؤمنين إنّ أبي لم يفعل شيئاً من ذلك ، أما أمي فإنها زنجيّة كانت لمجوس ... و قد سمّاني جعلا أي " خنفسا " و لم يعلّمني من الكتاب حرفاً واحداً . فالتفت عمر رضي الله عنه إلى الرجل و قال له : جئت إليّ تشكو عقوق ابنك و قد عققته قبل أن يعقّك ، و أسأت إليه قبل أن يسيء إليك .
فاتقوا الله أيها الآباء في أبنائكم وكونوا عوناً لهم بعد الله على بركم والإحسان إليكم .
واعلموا أبناء الإسلام أن البر والعقوق دين ووفاء، فإذا أطعت أيها المسلم والديك أطاعك أولادك، وإذا أكرمت والديك أكرمك أولادك، وبالعكس إذا توليت عن والديك وأعرضت عنهما سلط الله عليك من ذريتك من لا يراعي فيك عهدا ولا يحفظ لك وداً ولا يقيم لك وزناً ولا يعرف لك حق أبوة ولا واجب بنوة جاء في الحديث: ((بروا آباءكم، تبركم أبناؤكم)) ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال تعالى قولاً كريما: ((إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً)) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
المفضلات