جاء إليَّ أحد هؤلاء الذين أهتم لأمرهم وأحزن عليهم في مصابهم . .
جلس بقربي يشكوا همّه وحزنه وكأنه يريدني أن أشاركه فيها . .
قال لي :
أني تجرّعت مرارة الحياة من همومها وآلامها ومتاعبها ما كفاني منها..
وأخذت من خيبة الآمال في سوء حظي كل ضعفي وعجزي حتى أكاد لا أجد في داخلي
أملاً في البقاء فيها.. وأني اليوم قد وجدت قلبي قد هوى ورأيته كالوليد في براءته..
فتفتحت له منابع الحياة كما تتفتح الورود في ربيعها.. وبدأت الآمال تجري بين شرايينه
وعروقه بعدما كان مستظلاً في ظلامه لا يرى حتى نفسه..
لقد أحببتُ امرأة تكبّرني خمسة أعوام من عمري.. ووجدت فيها طهارة روحها وصفاء قلبها
ونبّلَ أخلاقها.. فأحببتها حباً يفوق حبي لنفسي.. ومنحتها قلبي مثلما منحتني روحها وقلبها..
حتى أنني عاهدتها كما عاهدتني بأن تكون لي لا لإحدٍ سوايَّ..
وحينما عزّمتَ من أمري حتى أتقدم على خطبتها وجدت أن جميع من حولي يعترض على طريقي..
وأنهم يرون أنها لا تناسبني أبداً.. وأن هناك أخرى غيرها قد وجدوها لي.. وكانوا ينتظرون الوقت المناسب لخطبتها
دون حتى أن يأخذوا رأيي قبلها.. فبقيت على موقفي حتى يأس أمري من إقناعهم..
فتبدّلت حالتي من حالة إلى حاله أخرى.. وعدت إلى وحدتي وحزني وشقائي..
وأني وصلت إلى صراعاً بيني وبين نفسي.. وجدت بعده أني أخشى منهم لوماً وغضباً وعتباً
إن لم أتبع رغبتهم فأصبح من الخاسرين..
فقلت له :
بعدما واسيته في أمره وأخذت بيده ووضعت أمامه بعض الأشياء التي يمكنها أن تساعده في واقعه..
فلا يحيا العاشق في عشقه حياة حقيقية إلا إذا بلغ من العشق والهوى مبلغ الإرادة القوية في صدقها
ووفاءها وهيبتها.. فأن أستطاع أن يملكها ملك في داخلهِ يقيناً صارماً يتمتع به في كل جوارحه. .
أن للروح العشق قوة فوق قوة المجتمع وما يحيط به.. لا يدري بها ولا يشعر بسَـرَيانها إلا إذا اجتمعت
في داخله هذه الإرادة وتلك الروح.. وهذا هو ما يناله وما يصل له العاشق بصدق مشاعره وصفاء قلبه..
وكثيراً ما يحلَّ على العشاق نكبات تكابد منها قلوبهم ومشاعرهم فتقلَّ وتضعف منهم همتهم وتذهب بهم
إلى غير طريقهم أو إلى متاعب الحياة وهمومها.. وكلما شعروا بضعفهم لـجَّ بهم خوفهم من فقدانهم
لأحبتهم وعشاقهم.. ولكن من قوتهم وصدقهم وطهارتهم سرعان ما تجد أنه قد حُـسنت حالهم
وانتعشت أرواحهم وظهرت إرادتهم بقوة هيامهم وحبهم.. وأنه وجب عليهم الحق أن يؤدوا واجباتهم
كعاشقين أمام صدق عشقهم.. وأن يبذلوا في سبيل حبهم ما يستطيعوا بذله على أن تجتمع
قلوبهم مع من تنفّسَ فيها وسكن أقرب الشرايين إليها..
فيا عزيزي العاشق لا أحب لكَ أن تكون ضعيفاً بين نفسك وبين من تعشقه وتحبه..
فأرتشف من قوة صدقك قوة تبلغ فيها مقاصدك الطاهرة كما العاشق الذي يرتشف من عشقه
ما تبلَّغ منه صدقه وأصبح يبلغ الودِّ والأتـّصال.. فشهد الملأ الأعلى والأدنى عليها..
فأن لم يكن هذا ولا ذاك هـوِيت إلى هـوَّةٍ عميقة لا تنتهي منها حتى يملأ بك الضجر واليأس
ما يملأوا منك فلا تعرف بعدها لا مذهباً ولا مستقراً..
فأني وجدت أكثر العاشقين في العصور القديمة عشاق يستمدون عشقهم من صدق أعماقهم
وقوة إرادتهم ولا يستمدونه من ضعفهم وقلة حيلتهم.. فتجدهم ذات علـوَّ الهـمَّـة ويتحملون
في سبيل عشقهم ما لا يتحمله بشر.. حتى نالوا مقاصدهم..
فأعلم أن من وقف بطريقك وحال بينك وبين من تحب فقد أخطأ في حقك خطأً جمّـاً
بعيداً عن غاية شأنهم في أمرك وقربهم بقرابة العرق منك..
فكان يجب الرأفة منهم اتجاه مشاعرك مستحسنين لا مستهجين..
ولكنهم وقعوا في فساد ذوق المشاعر بداخلهم.. فلا تشعر أن أحداً منهم يشعر بفساد مشاعره
وأنها لا تقدّر بقية المشاعر الأخرى التي يعيشها غيرهم.. وقد تجد أن هناك الكثير في بقاع الأرض
من ينتمي إلى هذه الحالة الفاسدة..
فأهلك يا صديقي موقفهم منك كموقف بقية المجتمعات الأخرى.. فلقد أرادوا لأنفسهم
ما يجدونه لنفسك ونسبك ومكانتك.. ونسوا أن أحوال العاشقين تكمن في أكمام إرادتهم وما يريدونه
من هذه الحياة.. ولكن للأسف الشديد أن حال العاشق الحقيقي لا يعلمه إلا صاحبه
ومن كان له مثل عشقه فيرى مثل ما يرى..
فما أنت ذا ترى غير أنهم أكفاف في أبصار قلوبهم يقتلون الأنفس وهم لا يعلمون..
ويجلبون الشقاء لغيرهم ولا يحسّونَ ولا يحتسبون..
فالأكثر أسفاً أن أشدَّ عقاب يوقعه الأباء على الأبناء في حياتهم هو اعتراضهم على رغباتهم
وهم في أصدق وأطهر حالاتهم . . . ولا يدركون
وكأنهم قطعوا من أعضاء أبنائهم . . . ولا يشعرون
فلا يعبؤون بهذه الاستثناءات من المشاعر بأجمعها في خيرها وشرّها.. فالأحرى بهم أن تتسع صدورهم
وعلى الأقل منهم فعل ما يجب فعله.. فلا يختاروا لأبناءهم قبل أن يأخذوا منهم مشورتهم فيها..
ولا يحالوا بينهم وبين من اختارته أرواحهم.. فيبثّون في نفوسهم تلك الهموم فتتفانى قلوبهم
أحتراقاً على عشقهم بعدما أرقت أعينهم تحت ستار الليل دموعهم في كل مكان من حولهم..
فلا أعلم ماذا يستفيدون من ذلك.. ؟ وأيُّ أمـرٍ من أمور الحياة يستحق منهم أن يجعلهم يحملون
أبناءهم ويبعثون بهم بعيداً عن ما تفكر به عقولهم وما تخالجه أرواحهم وما تشعر به مشاعرهم
حتى تأجّـجّـت بحزنها وبؤسها..
هل هو خوفهم عليهم ما دفعهم لاعتراض رغباتهم.. !!؟
أم أنه فساد ذوق مشاعر بسبب جهلهم وعدم قدرتهم على إدراك ما يحسَّ بِـه غيرهم.. ؟
ولكن يا صديقي أن عزائي لك هو أني لا أظنّ إلا أنّ مشيئة ربّـكَ فوق كل مشيئة . . .
فوالله لا تغيب شمسك في يومك هذا . . إلا أن تجني ما كتبه الله لك قبل غروبها..
لم يقل بعدها شيئاً سوى بضع كلمات تبدو أنها كلمات ضعيف الحيلة وغني الشقاء ولم أسمع
في حياتي من نبرات الأصوات أحزن وأصدق وأنبل من نبرات صوته..
فأحزنني أمره.. فلقد كان طاهر القلب وطيب الأخلاق ولا يستحق ذلك اليأس ولا تلك الهموم..
قد جرى الدهر عليهِ ما جرى . . . وكفى بهِ من طعنهِ ما كفى
ولكن يبدو أنه من الصعب جداً أن يتذوق المرء سعادة الحياة والهناء فيها دون أن يتذوق منها مرارتها..
وأن لم يعاني ألامها ومتاعبها وهمومها في ماضيها فلن يقدّر مستقبلها في آمالها وسعادتها..
المفضلات