خلق الله سبحانه وتعالى الانسان بقدرات محدودة وامكانات محدودة، فحواس الانسان كلها مقيدة في حدود لا تتعداها في الحياة الدنيا، وانظر الى قوله تعالى في سورة الحاقة “فلا أقسم بما تبصرون(38) وما لا تبصرون(39)” وفي سورة الإنسان “نحن خلقناهم وشددنا أسرهم(28)”.
يوم القيامة ترفع بعض الحجب وتتكشف للانسان بعض المغيبات عنه فيسمع ما لم يكن ليسمع ويرى ما لم يكن يراه في الحياة الدنيا، وتدبر قوله تعالى في سورة السجدة “ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون(12)” وفي سورة (ق) “ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد(20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد(21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد(22)” وفي سورة الفرقان “يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا(22)” وها هو الشيطان يقف يوم القيامة ليعترف على رؤوس الأشهاد فيراه الجميع ويسمعونه وهو يقول “.. إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا انفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم(22)” (سورة إبراهيم).
مخلوقات مجهرية
والحقيقة ان ما لا نبصره وما لا نسمعه وما لا نشعر به لا يعني فقط المغيبات عنا مثل الملائكة والجن وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، بل يعني كذلك الكثير الكثير من المخلوقات الموجودة في الأرض وفي السماوات مما تؤثر في حياتنا سلبا وايجابا من دون ان نشعر بها.
قف امام جدار على بعد امتار عديدة منك، وحاول ان ترى نملة تقف أو تتحرك على ذلك الجدار فلن تراها، ولكنك حين تقترب من الجدار كثيرا فسوف تراها وتتضح امام عينيك كلما اقتربت اكثر واكثر حتى يمكنك في النهاية ان تميز أرجلها وجسدها، فهل كانت النملة موجودة على الجدار قبل ان تراها؟ ولماذا لم تبصرها عيناك إلا بعد ان اقتربت منها كثيرا؟
وإنك حين تنام فإنك تنظر الى الوسادة جيدا لترى إن كان عليها شيء أو حشرات فلا ترى شيئا، عندها تنام مستريحا قرير العين، ولكن الحقيقة غير ذلك، فهناك عليها من الكائنات الدقيقة ما لا تستطيع العين ان تبصره، ولو طالعت هذه الكائنات من خلال مجهر (ميكروسكوب) لما ذقت طعم النوم ولكنك والحمد لله لا تبصرها بعينيك.
وهكذا فهناك من المخلوقات ما لا حصر لها تحيط بنا من كل مكان، وتعيش على ملابسنا وجلودنا وداخل أجسامنا ولا تمكننا رؤيتها بأعيننا، ولكننا عرفناها عندما اكتشفنا المجهر الضوئي الذي استطعنا بوساطته ان نرى المخلوقات الدقيقة حتى البكتيريا، ثم المجهر الالكتروني الذي رأينا بوساطته الفيروسات، وذلك لأن المجهر يقوم بتكبير صور تلك المخلوقات عشرات ومئات وآلاف المرات فنرى تلك (الصور) بأعيننا وكأننا نرى تلك الكائنات حقيقة.
هذا نوع مما لا نبصر، موجودات حقيقية ومخلوقات في كل مكان. لا تستطيع العين رؤيتها وذلك ان شبكية العين مهيأة لتمييز الأشياء التي تصل اليها صورتها في حدود محددة من الحجم والمساحة، فكلما صغر الشيء أو بعد عن العين ضاقت وصغرت زاوية الصورة الواصلة الى العين فلا تستطيع الشبكية تمييزها إلا إذا زادت على حد معين، ولذلك فأنت ترى الطائرة حين تقلع للطيران بحجمها الطبيعي ثم يصغر حجمها امام عينيك كلما بعدت حتى تختفي تماما، فهل يعني ذلك انها غير موجودة؟ كلا، بل هي موجودة ولكن لا نبصرها وهكذا الحال بالنسبة لكل جسم أو شيء بعيد عنا سواء على الأرض أو في السماء.
حاجزا المكان والزمان
وبالطبع فإننا لا نبصر الأشياء التي يحول بيننا وبينها حاجز كبناء أو جبل أو غير ذلك، كما لا نبصر الأشياء التي يحول بيننا وبينها حاجز الزمان سواء الماضي أو المستقبل، فهل يستطيع أي انسان ان يرى بعينيه ما حدث منذ لحظة أو سنة أو قرن من الزمان، أو أن يعلم عنه شيئاً إلا بخبر صادق ممن رآه، أو يأتي الخبر من الخالق سبحانه وتعالى، كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله تعالى: “ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل(1) ألم يجعل كيدهم في تضليل(2) وأرسل عليهم طيرا أبابيل(3) ترميهم بحجارة من سجيل(4) فجعلهم كعصف مأكول(5)” (سورة الفيل)؟ فهذا حدث لم يره الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن رآه كثير من أهل مكة ولذلك لم ينكر أي واحد منهم ما قصته السورة عن تلك المعجزة، وينقل القرآن الكريم الناس الى موقع الأحداث مبينا بعض تفاصيلها ويؤكد حدوثها رغم ان أحداً من معاصري الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرها. ولذلك تبدأ تلك الآيات دائما بقوله تعالى “ألم تر” و”ألم يروا” وهي في كتاب الله كثيرة وكلها أمثلة لما لم نبصر ولا نبصر بأعيننا ولكن يأتينا خبرها، وكذلك الحال في أخبار القرون الأولى وأخبار المعاصرين، وما يخبرنا عنه القرآن الكريم عن أحوال الآخرة من بعث وحساب وثواب وعقاب وجنة وجحيم.
والحقيقة العلمية تؤكد الحقيقة القرآنية بأن العين لا تبصر كل شيء، فالعين ترى ما يصل اليها من مكونات الضوء الأبيض، وهي الألوان التي نراها عند تسليط شعاع ضوئي على مخروط زجاجي، أو عند تشتت ضوء الشمس بوساطة جزيئات الماء والبخار في الأيام الممطرة فنرى ما يعرف ب (قوس قزح) وهي الألوان الأحمر والأصفر والبرتقالي والأخضر والنيلي والأزرق والبنفسجي.
ويتحدد اللون بطول الموجات الضوئية، ولذلك فما خرج عن تلك الألوان لا تراه العين أي لا نبصره، مثل الموجات تحت الحمراء وفوق البنفسجية وحتى ألوان تستطيع بعض الحيوانات والطيور تمييزها ورؤيتها. وهناك بعد ذلك موجات لا حصر لها لا تستطيع العين البشرية تمييزها أو رؤيتها، مثل الأشعة السينية وأشعة ألفا وأشعة بيتا وأشعة جاما وغيرها مما لا ندري عنه إلا القليل، وقد استطاع الانسان بآلاته ان يكتشف وجود بعض تلك الاشعاعات بل ويستفيد منها في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والطبية والهندسية وغير ذلك، وكلها تدخل ضمن (ما لا تبصرون) رغم وجودها وآثارها في حياتنا.
تمثل الملائكة
ويخبرنا الحق تبارك وتعالى عن الملائكة وكيف انهم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، كما جاء في أول سورة (فاطر) ولكننا لا نبصرهم فهل رآهم أحد على هيئتهم تلك؟ وهم قادرون على التحول الى صورة بشرية بحيث تمكن رؤيتهم والتحدث اليهم، كما حدث مع إبراهيم عليه السلام “ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ(69) فلما رءآ أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا الى قوم لوط(70)” (سورة هود) فهم لا يأكلون طعاما ولا يشربون، وقد ذهبوا الى لوط عليه السلام فرآهم وتحدث اليهم ورآهم قوم لوط “ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب(77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات..(78)” (سورة هود)، وتمثل الملك للسيدة مريم عليها السلام “فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا(17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا(18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا(19)” (سورة مريم) وتستمر المحاورة بينهما كما جاء في السورة، وذلك زكريا عليه السلام يسمع نداء الملائكة “فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب(39)” (سورة آل عمران)، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يرى جبريل عليه السلام ويرى الملائكة، ورأى الصحابة جبريل عليه السلام في الحديث المشهور عندما جاء يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان وعن الساعة وأشراطها.. فالملائكة مخلوقون من نور، جوهرهم غير جوهرنا، يروننا ولا نراهم، يتمثلون بصورنا ولا نتمثل بصورهم، وقدراتهم غير قدراتنا وأكبر وأشمل، ومع واقع وجودهم فنحن لا نبصرهم.
عالم الجن
وكذلك الجن ومنهم الشياطين لا تمكننا رؤيتهم إلا إذا تمثل أحدهم في صورة انسان أو غيره، وقد رأى آدم عليه السلام ابليس الرجيم في الجنة قبل هبوطه منها حين حذره الله سبحانه وتعالى منه ومن عداوته وكيده “... إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117)” (سورة طه) وقد سخر الله الجن لسليمان عليه السلام يعملون له اعمالا كثيرة ويبنون له تماثيل ومحاريب وجفاني كبيرة وقدوراً راسيات وغير ذلك، وكان العرب قبيل ظهور الإسلام يسمعون أصوات الجن، وتمثل أحدهم للرسول عليه الصلاة والسلام فأمسك به الرسول صلى الله عليه وسلم وكاد ان يربطه بسارية المسجد لولا ان تذكر دعوة أخيه سليمان عليه السلام “رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي” كما جاء في الحديث الصحيح، كما تمثل لأبي هريرة يطلب منه مالاً اكثر من مرة كما جاء في الصحيح، وقد تمثل للكفار قبيل غزوة بدر في صورة حليفهم سراقة بن مالك وقال لهم “لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب(48)” (سورة الانفال) فقد رأى الملائكة ورآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم بعض الصحابة رضوان الله عليهم. ولكننا لما خلقنا الله عليه وفطرنا لا نبصر الملائكة ولا الجن إلا إذا شاء سبحانه وتعالى.
أصوات لا نسمعها
أما السمع فإننا كذلك لا نكاد نسمع شيئا من مخلوقات الله في الأرض أو السماء، فإن ما نسمعه بالنسبة لما لا نسمعه يكاد يقترب من الصفر، وذلك أننا نسمع الأصوات التي تقع ذبذبات ترددها من عشرين إلى عشرين ألفاً في الثانية الواحدة، وما قل عن ذلك لا نسمعه وما زاد على ذلك لا نسمعه، والحقيقة ان هناك من الأصوات ما يزيد تردد موجاتها على العشرين ألفاً والمائة ألف واكثر واكثر الى ما لا نعلمه، ومن الأصوات ما يقل تردد موجاتها عن العشرين من الثانية وأقل وأقل الى حدود لا نعلمها، وبالتالي فإن مجال مسموعات الأذن البشرية محدود للغاية، كما اننا لا نسمع الأصوات التي تقل شدتها أي قوتها عن حد معين مثل اصوات الحشرات والميكروبات والنباتات بل اصوات ما يحدث داخل اجسامنا من أنشطة وتفاعلات لا حصر لها وإلا اصبحت حياتنا ازعاجا لا يطاق.
هل سمع احدنا ما يصدره الوطواط من اصوات تلتقط أذناه صداها بسهولة وسرعة فائقة فيحدد اتجاه حركته وسرعته أثناء طيرانه؟ وهل تعلم ان اكتشاف الانسان لذلك هو الذي أدى الى اكتشاف الرادار وموجاته التي لا نسمعها كذلك؟
إن كوننا لا نسمع الأصوات الضعيفة أو البعيدة لا يعني انها غير موجودة بل يعني اننا لا نسمعها، فعندما تجلس في غرفة أو في أي مكان فإن هناك أصواتاً لا حصر لها تحيط بك ولكنك لا تسمعها، فقط شغل جهاز الراديو وحرك مؤشر الموجات فستسمع الأصوات القادمة اليك من كل انحاء العالم، ولكنك لا تسمعها.
وهكذا فإننا لا نرى ولا نسمع أكثر مخلوقات الله عز وجل رغم وجودها واكتشافنا لوجود كثير منها، فكيف بالخالق عز وجل الذي ليس كمثله شيء، والذي يدرك الابصار ولا تدركه الأبصار، والذي قال الرسول عليه الصلاة والصلام عنه سحبانه وتعالى حينما سئل: هل رأيت ربك؟ فكانت اجابته “نور أنى أراه”؟ تعالى الله سبحانه عما يقول المشركون علوا كبيرا.
موجودة.. ولكن لا نراها
يتحدد اللون بطول الموجات الضوئية، ولذلك فما خرج عن تلك الألوان لا تراه العين، أي لا نبصره، مثل الموجات تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وهي ألوان تستطيع بعض الحيوانات والطيور تمييزها ورؤيتها، وهناك بعد ذلك موجات لا حصر لها لا تستطيع العين البشرية تمييزها أو رؤيتها، مثل الأشعة السينية، وأشعة ألفا، وأشعة بيتا، وأشعة جاما، وغيرها مما لا ندري عنه إلا القليل، وقد استطاع الانسان بآلاته ان يكتشف وجود بعض تلك الاشعاعات، بل ويستفيد منها في مختلف المجالات.
المفضلات