نظرات في سورة الأنفال.(للشيخ أبو إسحاق الحويني ).
إن سورة الأنفال من السور المليئة بالدروس الإيمانية، وقد نزلت هذه السورة عقب وقعة بدر، وذكر الله في مطلعها أحكام الأنفال والصفات التي ينبغي للمؤمنين الاتصاف بها ليتحقق لهم النصر .
افتتح الله عز وجل سورة الأنفال التي نزلت بعد غزوة بدر، بأوصاف الذين آمنوا:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4].
ذكر هذه الأوصاف في ذكر بدر؟ أن نكون مسلمين، إذا أردتم أن تظفروا على عدوكم، ولو كان عددكم وعتادكم قليلاً، كما كان إخوانكم من الأسلاف في بدر، ونصرهم الله نصراً مؤزراً برغم أنهم لم يأخذوا أهبة غزوهم، وما خرجوا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين فقط، وكان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، وكانوا يقتسمون التمرات، وكانوا جياعا:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26].
غزوة بدر: جاءت على خلاف مراد الصحابة: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7].
الطائفة الأولى: العير، والطائفة الثانية: النفير.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة لإصابة الطائفة الأولى، وقوله: .(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ).
لابد من النصر والظفر، لأن الله عز وجل قال:. (وَإِذْ يَعِدُكُمُ)،أنه لابد أن يظفر المسلمون أو يغنموا.
الطائفة الأولى: العير، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً لما علم بالعير، وكان موقناً أنه إذا ظهرت العير سيأخذها؛ لضعف حاميتها، خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كما في الصحيح، وأرسل أبو سفيان -لما علم بما عزم عليه المسلمون- وعدل أبو سفيان عن طريق القافلة المعتاد وسلك طريق الساحل وهرب، ففاتت الطائفة الأولى على المسلمين. ظنوه نصراً عاجلاً مختطفاً، يأخذون العير ويرجعون، لكن أمر الله قدرٌ مقدور: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، (غير ذات الشوكة) هي العير، ما فيها شوكة ولا فيها حرب.
أنتم تودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [الأنفال:7].
إذاً: لابد أن تصيبوا الطائفة الثانية وتقع حرب؛ لأن المسألة مسألة إظهار الحق.
فلما أفلتت العير علم المسلمون أي الطائفتين أراد الله، فكان النفير. بدأ بعض الصحابة يقول: نحن غير مستعدين، نحن ما خرجنا لقتال، فدعونا حتى نأخذ أهبة: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ [الأنفال:6]. العير أفلتت، فلم يبق إلا النفير.
يجادلونه في الحق الذي تبين وظهر:. (بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:6].
ونظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالغ في الدعاء، وفي رفع يديه؛ إشارةً إلى الاستسلام الكامل والانخلاع من الحول والقوة:
اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراةٌ فاكسهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض.
حينئذٍ أمسك أبو بكر بمنكبيه صلى الله عليه وسلم وقال:. (يا رسول الله! بعض مناشدتك ربك، فإنه منجزٌ لك ما وعد ) .
سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث فضالة بن عبيد الذي رواه أحمد وابن حبان والحاكم : .(من المؤمن؟ قال: من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم. قالوا: ومن المسلم؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قالوا: من المجاهد؟ قال: من جاهد نفسه في ذات الله أو في طاعة الله. قالوا: من المهاجر؟ قال: من هجر الخطايا والذنوب) . إن الذي يزرع النخل لا ينتظر نتاجها، وإذا قيل له: لم تزرع النخلة وهي لن تعطيك البلح ولن تنضج إلا بعد عشر سنوات أو بعد سنوات؟! يقول: كما زرع أجدادي وأنا آكل من غرسهم، كذلك أزرع حتى يأكل أحفادي من غرسي .أنت تورث العبودية.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].
والوجل هنا الخوف الذي يخالطه شوقٌ ومحبةٌ وتعظيم. إذا قرأ آيات الله ازداد محبة.
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، مثل هذا لا يخالف ... وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
والأنفال: جمع نفل، وهي الغنائم. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ثم ذكرهم بصفات المؤمنين الذين يعبأُ الله بهم، والذين يحبهم الله عز وجل، فكأنما قال: أفلا أدلكم على خيرٍ مما تختصمون فيه؟ إنني إذا ذكرت عند أحدكم اضطرب قلبه خوفاً وحزناً، ولو ذكرت آياتي عندك أن تزداد بها إيماناً وترضى بالله قسماً فهذا أفضل من أن تحصَّل غنائم الدنيا.وكان الصحابة إذا ذكروا ذكروا وارتفعوا.
الغنيمة الحقيقية
في غزوة حنين اختصموا على الغنائم أيضاً، لما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم، والعامة الذين تأخر إسلامهم، وترك المؤمنين الخلص الذين أبلوا بلاءً حسناً في القتال، فالشباب لم يعجبهم هذا الكلام، وقالوا: يعطي قريشاً وسيوفنا تقطر من دمائهم، ما هذا بالنَّصَف. يعنون أن هذا ليس إنصافاً.
بلغت هذه الكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعالجها علاجاً حكيماً، فلم يعاتب ولم يعنت، إنما دعا الأنصار، وقال:. (يا معشر الأنصار! مقالة بغلتني عنكم، أنكم قلتم كذا وكذا. فقال كبراء الأنصار: أما الشيوخ فلا) أي: الكبار، الناس الذين أسلموا قديماً ما قالوا هذا الكلام، قالوا: إنما قاله بعض صغارنا. فجمعهم وقال: .(هل فيكم أحدٌ من غيركم؟) وهذا كله من أجل أن يبين الحظ والقسم الذي أصاب الأنصار، كأنه لا يريد أن يكون أحدٌ من غير الأنصار يدركهم في هذا الذي سيقوله، (قالوا: لا. قال: يا معشر الأنصار! ألا تحبون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم، وترجعون أنتم برسول الله تحوزونه في رحالكم)،لا يتردد مثل الأنصار، ولا يتردد أي مسلم أن يلفظ بها حتى لو انعقد قلبه على خلافها، لا يستطيع إلا أن يقول: نعم، أرضى برسول الله قسماً، حتى لو كان قلبه يأباه، لكنه لا يجرؤ على النطق بها.
الناس رجعوا بالدينار والدرهم والمغانم، وأنتم رجعتم برضا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنكم، ومحبته لكم، ودعائه لكم، (فبكوا جميعاً، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً. قال: اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار).هؤلاء معهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المستجابة: (اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ثم قال لهم: الأنصار شعار والناس دثار) .
عطاء لا يقبله إلا أهل الإيمان ممن اتجهت قلوبهم إلى الآخرة! (الأنصار شعار) والشعار هو اللبس اللين الداخلي الذي يلاصق جسدك مباشرة، هذا اسمه شعار. والثياب العليا اسمها دثار، والدثار صوف خشن، لكن لا يستطيع الإنسان أن يلبس صوف الغنم على جلده، فكأنه قال: أنتم أقرب إليّ كقرب هذا الثوب الناعم للجلد.
امتن الله عز وجل على المؤمنين وهو يقول لهم: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، لما نزل المطر جعل هذا الرمل الرخو صلباً تحت الأقدام؛ لأن الله عز وجل هو الذي تولاهم بلطفه وعنايته، قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10] .
عزيز لا يغلب، حكيم في نصر الفئة المؤمنة برغم قلة الإمكانات. خرجوا من ديارهم ثلاثمائة وتسعة عشر نفراً كما رواه مسلم في صحيحه، وخرجوا -كما تعلمون- لا لقتال، ولم يكن معهم غير فرسين اثنين، وقرابة أربعين أو خمسين بعيراً، كان الثلاثة يعتقبون البعير الواحد، في حين أن قريشاً خرجت تريد القتال، وقد استعدت وأخذت أهبة استعدادها، والأرض في صالحهم، والكثرة في صالحهم، والعتاد في صالحهم، لكن الذي رجح كفة الفئة المؤمنة هو التضرع لله والتذلل، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، لم يغمض له جفن، ظل طول الليل يدعو الله تبارك وتعالى، وهو يقول:.
(اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض).
فقال الله عز وجل: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الأنفال:12].
هل يهزم طائفة فيها هؤلاء المؤمنون -فئة مؤمنة تحققت فيها صفات خمسة قضى الله عز وجل أن هؤلاء هم المؤمنون حقاً - وفيها هؤلاء الملائكة، ويظاهرهم رب العالمين تبارك وتعالى... لا يهزمون أبداً.
محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء؛ والمحبة أعظمها على الإطلاق. هذه الثلاثة هي الحادي الذي يحدو القلوب في سيرها إلى الله عز وجل: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].
كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول. أثر الوجل نزول الدمع، واقشعرار الجلد، وهي رعدة تحس بها في جسمك وفي قلبك، هذا نصيب الطائفة المؤمنة.
كلمات من محاضرة مفرغة من موقع الشبكة الاسلامية نفع الله بها,
المفضلات