*
*
وبهذا ينتقل المسلم في تأمله إلى المحور الثالث والأخير في فهمه للوجود،
وهو الكون الذي يحوي كل الكائنات المحيطة به، ويبدأ التأمل فيه من قوله تعالى:
"قل انظروا ماذا في السموات والأرض" [يونس: 101]،
ثم يمضي في دراسة عشرات الآيات التي تدعوه للتفكر في خلق الله وبديع صنعه، ليخرج منها بنتيجة مشابهة للتي حصل عليها من تأمله السابق في حقيقة وجوده وحياته،
وسيكتشف أن فهمه للكون يجب أن ينطلق أيضا من إدراك حقيقتين متكاملتين:
الأولى هي حقيقة أن الله تعالى قد سخّر له معظم ما يحيط به من كائنات، إذ أن تفضيله عليها ليس مقتصرا فقط على تمتعه ببعض الميزات،
بل يعدوه إلى تسخير هذه الكائنات لخدمته وتحقيق رفاهيته.
قال تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" [لقمان: 20]،
"وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" [النحل: 12]،
"هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور" [الملك: 15].
وسيجد المسلم في مزيد من الآيات دلائل باهرة على تسخير هذا الكون له وتمكينه منه، وفي هذا إشارة لطيفة إلى ضرورة استئناسه بهذا الكون،
واستبطانٌ للنهي عن الجزع مما قد يلاقيه فيه من كوارث ونوازل قد تحل به،
فالطبيعة إذن ليست في تحدٍ دائم مع الإنسان الضعيف، والإنسان أيضا ليس في صراع مستمر للتغلب على طغيان الطبيعة.
أما الحقيقة الثانية فهي أن الكون لم يكشف للإنسان كل أسراره بعد، فعلى الرغم من التسخير والتمكين إلا إن طائفة أخرى من المكوَّنات ما زالت غائبة عن إدراك الإنسان أو خارجة عن سيطرته،
فالكون يضج بالملائكة والجان، وقد يحتوي أيضا على مخلوقات أخرى ليس في مُكنة الإنسان التعرف على حقيقتها أو حتى العلم بوجودها.
ووجود الإنسان فيه لا يعدو أن يكون ذرة صغيرة لا تكاد تذكر أمام عظمة هذا الكون واتساعه.
وبهاتين الحقيقتين تتكامل رؤية المسلم للكون المحيط، فهو مدرك تماما لمكانته المتميزة بين كافة المخلوقات، حيث جعله الله تعالى مركز الوجود الذي تُسخر له معظم الموجودات الأخرى،
وهو في الوقت نفسه مدرك لحقيقة استغلاق بعض الأبواب عليه، وأن قدراته العجيبة مهما بلغت من سمو فإنها لن تطرق تلك الأبواب،
ولكنه مع ذلك مدعوّ للبحث والفضول،
فقد حث القرآن الكريم على التساؤل والنظر، وهذا ما فهمه إبراهيم الخليل عليه السلام عندما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى،
لعلمه بأن التطلع إلى معرفه هذه الأسرار لا يتناقض مع الإيمان بها على الرغم من استغلاقها.
*
*
المفضلات