صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 22

الموضوع: قصص القران ( الحلقه الرابعه)لعمرو خالد

  1. #1
    مراقب المضايف الاسلامية الصورة الرمزية ابو ضاري


    تاريخ التسجيل
    03 2007
    الدولة
    الجبي
    العمر
    45
    المشاركات
    15,733
    المشاركات
    15,733
    Blog Entries
    1

    قصص القران ( الحلقه الرابعه)لعمرو خالد



    الحلقة الرابعة


    بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نستكمل قصة موسى، فاليوم مولد بطل قصتنا الذي سنعيش معه طوال رمضان، مولد النبي الذي اختاره الله من أولي العزم الخمسة من الرسل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح، ومحمد عليهم السلام، مولد من وجده النبي عليه الصلاة والسلام في السماء السادسة عندما صعد إلى المعراج ولا يوجد فوقه في السماء السابعة سوى .إبراهيم عليه السلام، مولد من اختصه الله تعالى وقال له:[... إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي] {الأعراف:144} فهو كليم الله.


    إن أحد أهدافنا قصتنا أن تحب .موسى، والنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: (لا تفضلوني على موسى) ثم يجعلنا نصوم يوم عاشوراء، ويقول: (نحن أولى بموسى منهم) فيجعل صيامه سنّة حتى نتذكر دائمًا أن نجاة موسى هي ذكرى لكل المؤمنين في الأرض وفي هذا رد على من يقول أن موسى ليس نبينًا .



    التوكل على الله


    القيمة التي سنتحدث عنها هي التوكل على الله، فلكل شيءٍ في هذا الكون معادلة يسير بها، ومعادلة اليوم سارت بها أم موسى، فما هي هذه المعادلة؟ أن تؤدي كل ما عليك + تَوَكَّل على الله = نصر، وعِزَّة، ورحمة، ورعاية، ويُريك عجائب قدرته في أن يُنَجِّيك من حيث لا تدري ولا تتخيل، ويُسَخِّر الكون كله معك كي تنجو. فهل تعرف كيف تطبق معادلة اليوم؟ فهذه الدنيا صعبة ويُظلَمُ فيها الكثيرون، وفرق القوة بينك وبين من يظلمك 1:1000 وهو فرق كبير بكل المعادلات المادية، لذا يجب أن تتحلى بالذكاء بأن تُدخِل الوكيل سبحانه وتعالى في المعادلة وتتغير المعادلة فينصرك ويُعزّك، وقد توكلت أم موسى على الله بعد أن طبقت المعادلة والتي هي شرط أساسي فلا يجب أن تقول يا رب انصرني أو توكلت على الله وأنت لم تؤدي ما هو مطلوب منك بل يجب عليك أن تطبق المعادلة بكل شروطها حتى تتحقق المعادلة.




    خطة فرعون:


    يقول الله تعالى في سورة القصص: [طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ (4)]. (القصص: 1-4). فماذا فعل فرعون؟ لقد رأى رؤيا بأن هناك ولد من بني إسرائيل سيزيل مُلكه، فبدأ بذبح كل طفل يُولَد ويقوم الجنود بفصل الرأس عن الجسد بالسكين، وقد تم ذبح 1000 طفل فكيف ستنجين يا أم موسى؟ فقد وضع فرعون شعارًا لنفسه أن لن ينجو مني أحد؛ لأنه إن نجا أي طفل من الموت فسيكون هو المقصود بالرؤيا، فوضع خطة محكمة كالآتي:


    · أولًا:أن تمشي بعض السيدات المصريات وسط بيوت بني إسرائيل لتكشف إن كان هناك سيدات حبليات أم لا؟


    · ثانيًا: أي سيدة تظهر عليها أعراض الحمل يتم وضع علامة سرية على بيتها لا يعرفها إلا الجنود.


    · ثالثًا: عمل زيارات مفاجئة لبيوت بني إسرائيل للكشف عن أي سيدة حبلى اختبأت.


    · رابعًا: زرع جواسيس في بني إسرائيل يكشفون أمر السيدات الحبليات، ومن هؤلاء الجواسيس شاب طموح يريد أن يصل لمكانة عالية حتى وإن كانت على حساب أهله وبيته، فهو على أتم الاستعداد للتجسس على أهله وإخوته كي يرضي فرعون وهذا الشاب يُدعى قارون وسوف يظهر لدينا في القصة فيما بعد.



    خطة أم موسى لمواجهة خطة فرعون:


    فبهذه الطرق الأربع تم كشف 1000 سيدة، فبعد وضع العلامة على البيت تُفاجأ السيدة وقت الولادة بالجنود يدخلون فيأخذون منها الولد حين ولادته، ويذبحونه ويُزيلون رأسه ويرمونه، لذا فقد حقّ على من فعل هذا أن يموت غريقًا؛ فقد أغرق ألف طفل في النيل والجزاء لا بد وأن يكون من جنس العمل، فأين تذهبين يا أم موسى من هذه الخطة؟ لقد قررت أم موسى تطبيق المعادلة، فقامت بوضع خطة ثم توكلت على الله، وبمقتضى الخطة اتفقت مع مريم (أخت موسى) وإحدى الجارات من بني إسرائيل في نفس عمر أم موسى ولكنها ليست حاملًا، بأن تخرج مريم لتراقب، فكلما جاءت الزيارات المفاجئة خرجت أم موسى من بيتها لتختفي على ضفاف النيل بين الأعشاب وتأتي جارتها مكانها فإذا كشفوا عليها وجدوها امرأة غير حامل فيتركوها، وهذه عملية غاية في المشقة نظرًا لحدوثها بشكل مفاجئ، ولكنهم واظبوا على المراقبة لمدة 24 ساعة طوال التسعة أشهر وبذلك يكونوا قد أتموا الشق الأول من المعادلة وكان الشق الثاني بالتوكل على الله طوال التسعة أشهر.



    مولد موسى:


    ويأتي اليوم، يوم مولد موسى عليه السلام ولكم تمنت أمُّه أن يكون بنتًا حتى لا يُذبَح، ولكن لديها نبوءة .يوسف أنه سيولد ولد من رجل من بني إسرائيل يهزم الظلم ويظهر العدل ولكم تمنت أن يكون ابنها، وتمت الولادة وجاء ولد ذكر أسمر جميل أعطاه الله خاصية عجيبة فإن رأيته أحببته، يقول تعالى: [... وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] {طه:39}، فمثلما يُلقي أحدهم عباءته على أحد آخر ألقى الله على .موسى محبة من عنده، ألهذه الدرجة يحبه الله؟ إنه نبي غالٍ يجب أن نحبه.


    فيا ترى ماذا فعلت أم موسى وهي تلد؟ قامت بكتم صوتها والولادة في السر حتى لا يسمعها أو يشعر بها أحد، وربما قامت بكتم صوت ولدها حتى لا يسمعه أحد، ووُلدَ موسى وكانت المفاجأة، ماذا ستفعل به؟ فقد يراه أحد، يقول تعالى: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ] {القصص:7}.



    أم موسى وما بعد الولادة:


    وأوحي إلى أم موسى وهي ليست نبية وإنما امرأة بسيطة مؤمنة متوكلة على الله فصفة التوكل هي من أجمل وأقوى الصفات التي تتحلى بها، فكيف أوحي إليها؟ هل جاءها جبريل؟ بالطبع لا، فهي ليست من الأنبياء، فالوحي ثلاثة أنواع: وحي يأتي إلى الملائكة [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] {الأنفال:12}، ووحي يأتي إلى الأنبياء [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] {النساء:163}، ووحي آخر هو عبارة عن إلهام فطري يُقذَف في قلبك يملأ كل كيانك، يُحفَر في قلبك ويسيطر عليك فهو من الله لنجاتك أو لخير لك، وهذا هو النوع الثالث الذي حدث لأم موسى والذي قال عنه سبحانه وتعالى: [وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ] {المائدة:111}، فالحواريون ليسوا أنبياء ولكن الله غرز الوحي في قلوبهم وسيطر عليها بأن يؤمنوا ب.عيسى عليه السلام، ويقول تعالى أيضًا: [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ] {النحل:68}.


    فقد قذف سبحانه وتعالى الوحي بقوة في قلب أم موسى بأن تُرضعه، وألا تخاف أو تحزن فسوف يرجعه إليها وسوف يكون نبيًا. يحضرني الآن موقف لأحد أصدقائي قد مر بأزمة في حياته وقد ظُلِم واُضُّطر أن يترك بلده ويذهب إلى بلد آخر، فاتصل بأحد أصدقائه وسأله: ماذا أفعل؟ فقال له: اخرج فورًا فظلت هذه الكلمة ترن داخل أذنه حتى ذهب إلى منزله ليصلي ركعتي استخارة، فإذا به يجد نفسه يقرأ هذه الآية في إحدى الركعتين: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ] {القصص:20}، فأحس بأنه أصبح يقينًا عليه أن يخرج، فقد قذف الله هذا الإلهام في قلبه بقوة حتى تحول إلى يقين.


    لقد ملأ الإلهام الذي أرسله الله إلى أم موسى كيانها، فلماذا أم موسى هي التي أوحى الله إليها على الرغم أنها امرأة مؤمنة عادية؟ لقد أوحى الله إليها لأنها تحركت ونفذت نصف المعادلة وتوكلت على الله، فما الفرق بين أم موسى وآلاف السيدات اللآتي ذُبحَ أولادهن؟ إن هؤلاء السيدات مكثن طوال التسعة أشهر يبكين على ما سيحدث لأولادهن، ويقلن توكلنا على الله ويدعين الله ولكن دون أن يتحركن، لذا فالمعادلة خاطئة فهن لم يتوكلن على الله حق التوكل بينما هي توكلت على الله حق التوكل فألهمها الله.


    وإذا رجعنا إلى الآية مرة أخرى سوف نجد أن بها أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين في سطر واحد، ما هذا الإعجاز القرآني في اللغة العربية؟ فالأمرين هما: أرضعيه وارميه، والنهيين هما: لا تخافي ولا تحزني، والخبرين والبشارتين هما: إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين وهي أمنيتك القديمة يا أم موسى أن يكون ابنك مثل يوسف عليه السلام، فهل ستلقيه يا أم موسى؟ وإذا لاحظنا هنا نجد أن هناك شيء غاية في الصعوبة فلم يقل الله إذا خفت فاحضنيه أو ضميه أو اخفيه في الأحراش فالمكان الذي كانوا فيه مليء بالنباتات القصيرة كالأحراش ولكن قال ألقيه في اليم أو النيل، لماذا؟ لأنك مع الوكيل مالك الملك، فتوكلي على الله وارميه، فهل تعتقدون أنها سترميه؟


    ونرى قمة التوكل على الله حين تصنع هذه المرأة صندوقًا خشبيًا صغيرًا لتضع فيه ابنها ثم تلقيه في هذا النيل الواسع، فيا آباء ويا أمهات ويا شباب هل ترون التوكل على الله؟ لا أقول لك بأن تقوم برمي أولادك في النيل ولكن أقول لك خذي خطوة للأمام وسيخبرك الله بأن تسلكي في هذا الطريق أم لا، وسيضع في قلبك يقينًا أن هذا هو الطريق، فيا أيها الشباب الذين تشكون من البطالة وتقولون كيف سنعمل؟ وماذا نعمل؟ ولا يوجد عمل ولا نعرف كيف نبني مستقبلنا، ويا سيدات اللآتي تشتكين من عدم معرفة كيفية تربية الأولاد، أين التوكل على الله؟ فالقرآن يعلمك التوكل وسورة القصص بالأخص تعلمك التوكل .


    فها هي أم موسى صدقت وعد الله، وأمسكت بابنها وألقته في النيل وهي متأكدة أن الوكيل لن يضيعها، فهل ستفعل ذلك لو كنت مكانها؟ هي تعلم جيدًا أن البديل هو الذبح لأن أمامها ألف قصة أخرى من سيدات لم يتوكلن على الله حدث لهن هذا، فهناك من الناس من يرى الآلاف من القصص عندما يعصون الله ماذا يحدث لهم، ويرون من لا يتوكل على الله ماذا يحدث له، ورغم ذلك يقعون في نفس الحفرة، فهم كمن حُفرت أمام بيته حفرة يقع فيها كل يوم عشر مرات، فلتتعلموا التوكل على الله .


    هل ستتوكل على الله؟ هل ستثق في وعد الله ؟ فلتسأل نفسك: هل أقوم بأخذ خطوات في حياتي كي أرضي الله وأصلح في حياتي؟ فلا تخف وتوكل على الله وثق في الله، فقد وقفت هذه السيدة أمام هذا النيل الواسع العظيم الكبير بعدما صنعت صندوقًا من الخوص بسرعة شديدة فليس أمامها الكثير من الوقت وعندما همت بأن ترميه لم تستطع، فالأفكار النظرية غير التطبيقية، فالعديد من الناس يقتنعون بفكرة نظرية ما ولكن عند التطبيق لا يستطيعون ذلك وهم هنا يحتاجون إلى تثبيت من الله .


    وقد جاء الوحي لأم موسى مرتين وليس مرة واحدة، مرة ذُكرت في سورة القصص ومرة في سورة طه، الآية الأولى كما ذكرنا من قبل: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ] {القصص:7} والثانية بعدما كبر .موسى يقول له الله كيف نجاه: [إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)] {طه 38-39}. وقد ذكرت الآيتان هنا لنرى الفرق بينهما، يقول المستشرقون أن هذا تكرار قد جاءها بالفعل مرتين، فالوحي الأول قد جاءها بهدوء ورويّة (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ ... وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) ثم يقول فأرضعيه وكلمة أرضعيه بها مزيدًا من الوقت وهي كلمة جميلة لها العديد من المعاني الأخرى فأرضعيه حتى يعرف مذاق لبن أمه فيرفض كل السيدات الأخريات ويعود لها فترضعه ولكي يشمها ويشعر بها، فتخيل إن لم تطع الله في هذا الجزء ولم ترضعه وأعطته لجارتها كي ترضعه وقذفته في النيل ففي هذه الحالة لن يعود لها موسى، وفي كلمة أرضعيه أيضًا حنان من الله ففي ملامسة الرضيع لأمه حنان، فيا أمهات أولادكم يحتاجون إلى الحنان، فالله ينقل مشهد الرضاعة في كتابه الكريم، فالوحي الأول يُلقي الفكرة حتى تستقبلها، وفي الوحي الثاني كان الجنود قد جاءوا بالفعل وبدأوا في قرع الأبواب على البيوت المقابلة وسوف يدخلون البيت ويرون موسى فقال لها اقذفيه في التابوت فليس هناك المزيد من الوقت.


    يقول الله تعالى لأم موسى (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ) ، فلم يكتف بأن يقول لها أرضعيه وارميه لأن الأم غالية جدًا عند الله، فكان حقًا عليه أن يطمئنها، والنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول الأم يُغفَر لها عند أول طلقة لها وهي حبلى، ويقول يكتب لها وهي تربي ابنها أجر الصائم القائم، فلو لديك ثلاثة أطفال وقد ربيت كلًا منهم مدة 10 سنين أي أنك تأخذين أجر الصائم القائم على مدار 30 عامًا، إنه ثواب وأجر عظيم.



    أم موسى ترمي ابنها في النيل:


    أين سترمي أم موسى ابنها؟ في نهر النيل، ولكن لماذا نهر النيل؟ لأن جنود فرعون يرمون الأطفال في النيل، فإن كان هناك جندي يراقبها فسوف يتركها لأنها رمت في النيل، وسوف يكتب في دفتره تم الرمي ولن يؤذيها لأن المصري طيب بطبعه ولا يحب الإيذاء، ولكن هناك معنى آخر وراء الرمي في النيل، فإن رمته في هذا النيل الواسع العريض أين سيذهب؟ هناك أكثر من احتمال فإما يأخذه النيل إلى أي مكان بعيد وهنا بالتأكيد لن يرجع إليها، وإما يزداد الموج فينقلب الصندوق، وإما يرميه التيار في البحر فتأكله سمكة، وهنا نرى مدى صعوبة ما كانت أم موسى مقبلة عليه والمغامرة في أنه إما يُذبح وإما تأخذ خطوة للأمام وتتوكل على الله وترميه.


    ولكي تشعر بمدى التوكل على الله قم بصنع صندوق من الخوص لتشعر وتحس بم أحست به أم موسى، من مشاعر أم ظُلمت وليس لها إلا الله وليس لها سوى هذا الطريق، فها هي تضعه في الصندوق وترميه في النيل فيجري الصندوق مع التيار، فيا ترى ماذا فعلت قبل أن ترميه؟ هل ضمته؟ هل احتضنته؟ هل قبلته؟ فلتتخيل ماذا فعلت هذه الأم المظلومة، فها هي تبكي وترفع رأسها إلى السماء وتدعو الله، لعلها قامت بالدعاء على فرعون في هذه اللحظة، فالويل لمن يَحرِمُ أمًا من أولادها، فلربما كانت استجابة الله لدعائها في هذه اللحظة هي التي أغرقت فرعون مثلما أجبرها أن لا يكون لابنها طريق سوى البحر، فلا تستهن بدعوة مظلوم خاصة لو كانت من أم حرمت من أطفالها، لعلها قالت حسبي الله ونعم الوكيل وهي ترميه وتراه يفارق أعينها، فأي درجة من التوكل تلك يا أم موسى؟ وبدأ الصندوق في التحرك، ومن ينظر إلى الصندوق يقل [...وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ...] {المدَّثر:31} فهنا بدأت رعاية الله، فقد أصدر الله أمره لجنوده، يا نيل احمل موسى، يا تيار ويا ريح رفقًا بموسى، فعندما تتوكل عليه يسخر لك كل جنوده.


    وتقف أم موسى قلقة، على الرغم من توكلها على الله إلا أنها أم، [وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {القصص:11} "قُصِّيه" أي ابحثي عن أخيك، "فبصرت به عن جُنُب وهم لا يشعرون" أي كانت تراقبه من بعيد فلم تستطع أن تقترب منه حتى لا يراها أحد، وبقيت تمشي وسط الأحراش تراقب الصندوق وهي مندهشة ومتعجبة لأن الصندوق يمشي وكأن به دفتين يحركانه، فالله قد حدد إلى أين سيتجه، وهنا يظهر لدينا معنى اسم الله الوكيل.



    موسى وبيت فرعون:


    وتستمر أخته في متابعة الصندوق على الرغم من طول المسافة بين بيوت بني إسرائيل وقصر فرعون حوالي 14-20 كيلومتراً)، ويقترب الصندوق من قصر فرعون وتفزع أخته لأنهم فعلوا ذلك ليبعدوه عن فرعون ولكنه يقترب أكثر وأكثر منه حتى يصل إلى قصر فرعون، فتعود الأخت مرتبكة إلى أمها وتحكي لها ما حدث، يقول تعالى: [وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {القصص:10} فقد كادت أم موسى أن تذهب إلى القصر لتخبرهم أنها أمه لولا أن الله ربط على قلبها.


    ويقفز الآن إلى أذهاننا سؤال: لماذا جعل الوكيل الصندوق يصل إلى هناك؟ لأن أفضل وسيلة لحماية موسى هي أن يصل إلى القصر ولكن لماذا؟ لأن .موسى سوف تكون مهمته هي إنقاذ بني إسرائيل الأذلاء من الذل، فهل يعقل أن من يحرر الأذلاء يكون ذليلًا مهانًا، أم يجب عليه أن يكون حرًا؟ بالطبع يجب عليه أن يكون شخصية حرة ولكن لم يكن في مصر حرية في ذلك الوقت ولم يكن هناك مصريون أحرار، لذا فالمكان الوحيد الذي يوجد به حرية هو بيت فرعون، وهناك أيضًا سَببٌ آخر، وهو أن بني إسرائيل محرومون من التعليم وموسى يجب أن يكون متعلمًا تعليمًا جيدًا لأن لا نهضة بدون تعليم، وأمه لا تقدر على تحمل تكلفة تعليمه، لذا فأفضل مكان يتم تعليمه فيه تعليمًا راقيًا هو بيت فرعون وهو من سينفق على تعليمه حتى يزيله موسى في النهاية، فها أنت يا فرعون تقتل كل هؤلاء الأولاد من أجل هذا الولد وها نحن قد أحضرناه لبيتك رضيع لا يملك أي قوة حتى تربيه، أرأيت قدرة الوكيل جلّ وعلا.



    موسى وامرأة فرعون:


    فيا أيها الناس يا من ظُلِمتم في الدنيا، يا سيدات يا من ظُلِمتن من أزواجكن أرجعوا إلى الوكيل وتوكلوا عليه حق التوكل، يقول تعالى: [فَالتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {القصص9:8} فلم يلتقطه فرعون بنفسه ولكن زوجته هي من التقطته، وتتجلى عظمة الوكيل سبحانه وتعالى أن يكون توقيت خروج آسيا امرأة فرعون إلى النيل هو وقت وصول الصندوق فتراه وتُخرجه، فلو كان من أخرجه هو أحد الجنود أو فرعون نفسه لتم قتله، وما أن رأته امرأة فرعون حتى أحبته فيقول تعالى: [.. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ...] {طه:39} وقد أراد فرعون قتله ولكنها تصدت له ولكل من أراد قتله، فها هو الوكيل سبحانه وتعالى عندما أراد أن يحمي هذا الطفل الرضيع الذي لا حول له ولا قوة من سكاكين فرعون زوده بسلاح الحب، فسلاح الحب أقوى من سلاح القوة، فيا من تسبُّون الناس وتُهاجمونهم تعلموا من القرآن ومن قصص القرآن أن سلاح الحب أقوى وأنفع.


    ورضخ فرعون لرغبة زوجته آسيا وهذا يُدلل على قوة المرأة المصرية على ما يبدو، ففي قصة .يوسف قالت امرأة العزيز اسجنوه فسجنوه، وها هي هنا تقول لا تقتلوه فتنفذ رغبتها ويصدر فرعون قرارًا بعدم القتل وبأنه سيكون ابنه بالتبني وسوف يُطلق عليه ابتداءً من اليوم الأمير موسى فسبحانه الوكيل.



    موسى والمرضعات:


    وكان الرضيع حتى هذه اللحظة صامتًا لا يبكي ولعل هذا حتى تستطيع آسيا إقناعهم بالاحتفاظ به ولكن بمجرد أن وافقوا وقبلوه بدأ في البكاء، فكم يتحمل الرضيع دون رضاعة؟ تقريبًا 24 ساعة، فها هو هنا يترك أمه عند الفجر ليعود إليها قبل العصر معززًا مكرمًا أي قبل مرور 24 ساعة.


    يقول تعالى: [وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] {القصص:12}، فها هو طابور من المرضعات المصريات حيث أنه ممنوع على أي امرأة من بني إسرائيل دخول القصر وهو يرفضهن جميعًا ولا يقبل الرضاعة منهن كأن الله أمر شفتي موسى أن لا تقبلا الرضاعة، فكأن موسى عاقلٌ وهو رضيع ينظر في وجه السيدات ويقول هذه لا ترضعني وتلك لا ترضعني فهو يبحث عن أمه.


    وفي هذه اللحظة دخلت أخته وقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟ فمن أين يا مريم أتتك القوة لتدخلي قصر فرعون وتعبري بين الحراس وتقولين هذا الكلام؟ فنظر لها فرعون وقال: "أتعرفينه؟" قالت: "لا"، قال: "من أنت؟" قالت: "فتاة من بني إسرائيل"، فاحمر وجه فرعون غضبًا وفي نفس اللحظة زاد موسى من بكائه كأنه يساعد أخته ويسهل موقفها، وآسيا تصرخ بأن الولد سوف يموت من البكاء وأنهم يحتاجون مراضع بسرعة، فسألها فرعون: "هل لديك مرضعة؟" قالت: "نعم"، قال: "من؟" قالت: "أمي من بني إسرائيل"، فقال: "ولم تريدون أن ترضعوه؟" قالت: "نبتغي الأجر والمال ونحب فرعون"، فقال: "أحضريها" فجاءت أمه، ولنتخيل معًا لحظة دخول أمه القصر يا لها من لحظة يتجلى فيها الوكيل سبحانه وتعالى، وبمجرد أن أمسكته أمه وضمّته ولمس ثديها سكت الرضيع، فدهش كل من في القصر وقال فرعون: "من أنت؟" فقالت أم موسى: "أنا امرأة طيبة اللبن، لا يأتي صبي إلىَّ إلا قبلني ورضع مني"، فإذا بقرار من فرعون أن عينّاكِ مرضعة لابننا ولك الأجر على رضاعته، فسبحان الرزاق فقد كنت سترضعيه يا أم موسى دون أجر إن بقي معك وها أنت ترضعينه وتأخذين المال من عدوّه حتى يكبر ويقضي عليه مثلما ظلمكم، يقول تعالى: [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] {القصص:13}.


    فلتتوكلوا على الله ولا تخافوا وكونوا مع الله ولا تبالوا فإن الله معكم.










  2. #2
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    جزاك الله خيراً يابوضاري
    لنشر هذه الحلقة الهامة من قصص القرآن الكريم
    بارك الله بك و حفظك ورعاك
    ننتظر المزيد منها



    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  3. #3
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    [align=CENTER][table1="width:100%;background-color:black;"][cell="filter:;"][align=center]


    الحلقة الخامسة
    من قصص القرآن الكريم


    اختصاص ومهمة


    لماذا اختص الله موسى عليه السلام بتكليمه؟؟ ولماذا موسى بالأخص هو كليم الله؟ (... وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(النساء: من الآية164) لم يرتق ِ أحد من البشر ويصل إلى منزلة أن يكلم الله عز وجل دون وسيط إلا " موسى عليه السلام و" محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج، ماذا يوجد برسالة " موسى أوصله إلى هذه المنزلة؟


    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فجعل الناس يطوفون بالبيت يقولون ما أجمله ما أحسنه إلا موضع لبنة، فأنا موضع اللبنة ) أي أنه هو الذي أكمل هذا البناء، فما هي لبنة " موسى الذي تفرد بها على مر التاريخ؟


    هو قائد صنعه الله ليقضي على الظلم ويحول أمة من مستضعفين إلى أعزة منتصرين، مهمته أصعب مهمة في التاريخ بعد مهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي مهمة " موسى عليه السلام، فهو مطلوب منه:


    1- مواجهه أكبر طاغية على مر التاريخ (فرعون) ذلك السفاح الذي قتل آلاف الأطفال، يواجهه بمفرده بلا قوة وبلا سلاح.


    2- أن يدعو فرعون إلى التوحيد.


    3- أن يدعو بلده كلها إلى الإيمان بالله.


    4- أن يحرر بني إسرائيل من الذل الذي ملأهم.


    5- أن يخرجهم من مصر (... فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ)(الأعراف: من الآية105) وذلك ليبني بهم أمة جديدة ويقوم بعمل نهضه لهذه الأمة.


    ولذلك هيئته مناسبة لهذه المهمة، فهو طويل أسمر ذو شعر أجعد مفتول العضلات، ذو شخصية قوية، ولكن لماذا أصبح كليم الله؟ انتبه معي .. إن المهمة شاقة جدًا، واعلم أيضًا أنه كان مهدد بالقتل منذ كان في المهد حتى وفاته، لا يوجد أحد غيره من الأنبياء كان له هذا الحظ من التهديد بالقتل، كل الأنبياء هُددو بالقتل بالفعل وتعرضوا لمحاولات قتل، لكن " موسى الوحيد الذي كان كذلك منذ مولده وحتى وفاته، ذلك بالإضافة إلى مهمته سالفة الذكر، لذا فهو يحتاج لإعانة غير عادية حتى لا يضعف، بل يصمد ويواجه ويستمر في تحقيق مهمته تلك، هو في حاجة لدعم من الله ليعطيه قوه هائلة لمواجهة كل ذلك الظلم والبطش، ولذلك تكررت كلمة الخوف في قصة " موسى كثيرًا جدًا؛ لأنه تعرض لأهوال وفي الوقت نفسه هو بشر فلابد وأن يخاف كسائر البشر، وكأن رسالته من أجل نصرة الضعفاء والمظلومين وتوحيد الأمة على قول لا إله إلا الله ، فهي التي تحرر الأنفس الذليلة، هذا هو معنى لا إله إلا الله ، ألا تخاف من قوي ولا ذو سلطان أو أي أحد فلا إله إلا الله القوي والأقوى من أي شيء أو أحد، إذًا " موسى جاء بالتوحيد والتحرير وحرية الشعوب، وذلك يعني أن أوربا ليست أول من أتت بالحرية، بل إن " موسى وأنبياء الله هم أول من تكلم عن الحرية.


    مراحل قصة موسى:


    تنقسم حياة " موسى إلى أربع مراحل، مرحلتين إعداد ومرحلتين تنفيذ.


    · مرحلة الإعداد الأولى: وهي منذ المولد وحتى الثلاثين من عمره ويقضيها ما بين قصر فرعون وبين بيوت بني إسرائيل، ما بين أمه وبين آسية.


    · مرحلة الإعداد الثانية: وهي عبارة عن عشر سنوات يقضيها في مدين حتى يصبح في الأربعين من عمره.


    · مرحلة التنفيذ الأولى: وفيها يعود إلى مصر لمواجهة فرعون، وتستمر لمدة خمسة عشر عامًا.


    · مرحلة التنفيذ الثانية: وفيها يخرج من مصر، وبناء بني إسرائيل وتحريرهم من الذل الذي قضى عليهم، وتستمر لمدة عشرة أعوام وحتى الوفاة.


    وهذا يعني أن " موسى توفي وهو في سن الخامسة والسبعين من عمره تقريبًا.


    صناعة قائد:


    مرحلة الإعداد الأولى بين قصر فرعون وبيت أمه في البيوت الفقيرة لبني إسرائيل، بين ذلك القصر الفخم، وتلك البيوت الفقيرة، وذلك لينشأ ولديه الثقافتين، ثقافة الملوك وثقافة الفقراء، حتى يتمكن من التعامل مع الفئتين ، لذلك قال الله له ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(طـه: من الآية39) أي أنه سيتم إعداده على يد الله سبحان الله وتعالى.


    نيل وبحر:


    ل (موسى) ذكريات عديدة مع ماء النيل، فلقد رُمى في النيل، والتقط من النيل، وعاش جزء من حياته مع أمه على ضفاف النيل، وجزء آخر من حياته في قصر فرعون على ضفاف النيل أيضًا، ثم نجا من فرعون وانشق البحر وتجاوزه هو وبني إسرائيل، ثم قصته مع " (الخضر) ورحلته في الماء، كلمة (موسى) ذات نفسها في اللغة المصرية القديمة معناها المُلتَقط من الماء، (مو) هي الماء، و(سى) هي المُلتقَط، وفي كلام آخر أن (موسى) معناها ابن الماء. هناك أمر آخر.. من تعتقد أنه اسماه (موسى)؟ لا يوجد سوى ثلاث بدائل: إما (فرعون) أو أمه أو (آسيا) ، فأما فرعون فهو لم يكن يحبه، وأما أمه فلا تملك تسميته؛ لأنها أمام الجميع المرضعة، فلا يتبقى سوى (آسيا) التي قامت بتسميته بذلك الاسم وهي الوحيدة التي لها مثل هذه المقدرة.


    بين حنان أميه:


    أصرت أم موسى أن تربيه في بيوت بني إسرائيل على ضفاف النيل، وسط حياتهم البسيطة، ولقد حاولت معها (آسيا) امرأة فرعون كثيرًا إقناعها بتربيته في القصر، إلا أنها لم تفلح في ذلك، فقد كانت أم موسى على يقين من الله (... إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (القصص:7)، (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ... ) (القصص:13)ووافقت (آسيا) على أن يذهب (موسى) مع مرضعته التي رفض أن يرضع من سواها وذلك خوفًا من أن يموت جوعًا، مرضعته التي هي في الحقيقة أمه، ذهب " (موسى) مع أمه إلى بيوت بني إسرائيل وعاش معها فترة الرضاعة والفطام؛ أي عامين عاش هذين العامين بين حنان أميه، أمه الحقيقية (يوكابد) وأمه بالتبني (آسيا)، هذا الحنان الذي يعيشه " (موسى) هو أولى صفات القائد، حيث يعينه على الوقوف للصعاب وفي نفس الوقت يكون قائد رحيم، تخيل معي بعد أن حُرمت أمه منه بقذفه في اليم، وكاد قلبها ينفطر عليه، ثم عاد إليها لتقر عينها به، تخيل مقدار الحب والحنان اللذين ستغدقهما عليه، وفي نفس الوقت حُرمت (آسيا) من الأولاد فتخيل أيضًا مقدار الحب والعطف اللذين سوف ينعم بهما منها، إن صفة الرحمة التي اكتسبها هي ما تميز القائد الحكيم، فالقائد بدون رحمة يصبح جبار مثل (هتلر) مثلًا .


    في قصر فرعون:


    وهناك اكتسب (موسى) صفة جديدة من صفات القائد وهي الصفة الثانية له وتتمثل في التعليم المتميز، فهو في قصر فرعون حيث سيتعلم علوم لا يتعلمها باقي المصريين، فما بالك ببني إسرائيل، لم تكن أمه لتستطيع أن توفر له هذا القدر من التعليم، وكأن الله قد أرسله في بعثة إلى أحسن الجامعات للتعلم، شيء آخر تعلمه في قصر فرعون وهي الصفة الثالثة له كقائد وهي القوة البدنية الهائلة، فمن عادات الفراعنه تربية أولادهم على التدريبات البدنية القوية، الصفة الرابعة تعلم في قصر فرعون أن يكون ذو نفس حرة، والتي تؤهله بعد ذلك للتصدي لفرعون نفسه، نعم فرعون نفسه، حياته مع فرعون في نفس القصر في حد ذاتها أفقدته هيبة فرعون؛ فقد رآه على طبيعته، وهو جائع وهو مريض وهو يذهب ليقضي حاجته كسائر البشر، لأنه بشر عادي، فأصبح بالنسبة لـ (موسى) إنسان عادي لا يهابه .


    الحقيقة الأولى:


    عمره الآن سبع أو ثمانِ سنوات، تعود (موسى) أن يزور مرضعته كثيرًا، مثلما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مرضعته (حليمة السعدية)، في هذه المرحلة من عمره والتي بدأت فيها شخصيته بالتكون وصار من الطبيعي أن يسأل أو يسمع ويعقل الكلام الذي يسمعه قررت (آسيا) أن تخبره الحقيقة بأنه ليس ابنها وأنها قد التقطته من الماء، لأنه حتمًا سيعلم ذلك، فقد شاهد حادثة التقاطه الكثيرمن الناس، ذلك بالإضافة إلى أن فرعون لا يحبه، فكان من الطبيعي أن يسألها عن أمه من تكون؟ فأجابته بأنها لا تعلم، وفي الوقت نفسه لم تستطع أمه (يوكابد) أن تخبره بحقيقة أنها هي أمه؛ فهو لا يزال صغير وخشيت أن يكثر كلامه مثل سائر الأطفال، فظل لا يعلم لنفسه أمًا، في هذه الفترة بدأت تظهر لديه الصفة الخامسة للقائد ألا وهي الشجاعة، فقد أصبح صاحب نفس شجاعة تتحمل الصدمات، انظر معي إلى شخصيته، لديه الرحمة وفي نفس الوقت الشجاعة وعزة النفس، مما أدى إلى أن تكون نفسه نفس سوية، هذه هي صناعة الله سبحانه وتعالى.


    بين قصر فرعون وبيوت بني إسرائيل:


    سمحت (آسيا) لـ(موسى) بزيارة مرضعته رغم صغر سنه، وظل (موسى) يتردد على مرضعته ويتودد إليها حتى نشأت علاقة قوية بينه وبينها، وبينه وبين إخوته هارون ومريم، وبدأ يشعر براحة في بيوت بني إسرائيل أكثر من تلك التي يشعر بها في قصر فرعون، ففرعون يكرهه ولولا (آسيا) لما ظل هناك، أراد الله له ذلك لينشأ لديه حب لبني إسرائيل وفي نفس الوقت يعتاد على حياتهم منذ صغره فلا يشعر بغربة بينهم بل يأنس إليهم، فرحت أمه (يوكابد) كثيرًا لما رأته يأنس إلي بيت أبيه وإخوته وقومه حتى وإن كان لا يزال لا يعلم أنه منهم، فأرادت أن تزيد من هذه الصلة، فشرعت تحكي له قصص عن " (يوسف) عليه السلام، وهذا ذكاء منها فقد اختارت له شخصية تاريخية ورمز تاريخي محبوب لدى الفريقين، حتى إذا ذهب إلى القصر وتحدث عن " ( يوسف) لا ينزعج منه أحد؛ فالمصريون يحبون ( يوسف) وفي الوقت نفسه هو من بني إسرائيل، وهي تريد أن تنمي لدى (موسى) حبه لبني إسرائيل تمهيدًا لإخباره بأنه منهم، وهنا تظهر لديه صفة جديدة من صفات القائد وهي الصفة السادسة ألا وهي القدوة والمثل الأعلى الذي يحتذي به، ثم أخبرته أن هذا القائد العظيم الذي أصبح يحبه ويراه مثلًا أعلى هو من أجدادها، فازداد تعلق (موسى) بمرضعته وبني إسرائيل، وزاد انتمائه إليهم.


    الحقيقة الثانية:


    إلى أن أتى اليوم المناسب الذي تستطيع أن تأتمنه على السر فأخبرته بأنها هي أمه الحقيقية، وأنها لم يكن لديها أي وسيلة أخرى لتنجيه من موت محقق على يد فرعون سفاح الأطفال إلا بقذفه في النيل، وأن الله قذف في قلبها إيمانًا بأنه سيعود إليها ، وها هو قد عاد بالفعل، وسردت له القصة من بدايتها وحتى نهايتها، وأخبرته بأنه يجب أن يعود إلى قصر فرعون حتى لا تُقتل هي أو يُقتل هو إذا علم فرعون بحقيقة أمرهما.


    المرونة والموازنة:


    لم تكن أم ( موسى ) أمًا عادية بل كانت مربية ذكية، فقد غرست لديه صفة جديدة من صفات القائد، الصفة السابعة وهي المرونة والتوازن، ما رأيك أنت؟ هل يعود إلى حياته في قصر فرعون المليء بالفساد ، فهناك فرعون الذي يقول (أنا ربكم الأعلى) وكهنة وآلهه، أيعود بعد أن عرف الحقيقة وعرف أمه واستقر بين أحضانها، نعم .. أصرت أمه على عودته إلى ذلك القصر بالرغم من كل ذلك؛ فهو لا يزال بحاجة للمزيد من التعليم الذي لا يستطيع أن يحصل عليه إلا في ذلك القصر وحده فقط، وهذه الفترة هي التي أصقلت صفة المرونة والتوازن لديه، الكثير منا سوف يختارون عدم العودة لذلك القصر لما فيه من فتن ومصائب حتى ولو كان ذلك على حساب الفائدة التي يمكن أن يحصل عليها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" المؤمن الذي يخالط الناس خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه". تعلم " موسى الموازنة بين شيء فيه المفسدة والمصلحة في نفس الوقت، ويصر على الحصول على الفائدة دون أن يتأثر بالمفسدة، لذا ظل " موسى في قصر فرعون ليستفيد من العلم المتاح لديه في القصر ويحتك أكثر بالمصريين، ليعرفونه أكثر لأنهم سيدافعون عنه فيما بعد، تواجده في القصر واحتكاكه بالمصرين بعد أن عرف حقيقته وأصله لبني إسرائيل علمه الصفة الثامنة للقائد وهي الشخصية المنفتحة، فقد عاش في البيئتين رغم اختلافهم واختلاف ثقافتهم، يستطيع الآن أن يتعامل مع برتوكولات القصر وطبيعة الحياة الملكية ويتعامل مثل الملوك والفراعنة، وفي الوقت نفسه يستطيع التعامل مع الحياة البسيطة لبني إسرائيل التعايش معها بأريحية بالغة على عكس طبيعة الملوك العاديين.


    ولما بلغ أشده:


    الصفة التاسعة والتي لا يصلح قائد بدونها، الهدف والرسالة، ولقد قرر أن يكون هدفه إنقاذ بني إسرائيل، الكثير منا يظن أن " (موسى) حرر بني إسرائيل لأن الله كلفه بهذا، ولكن الحقيقة هي أنه اختار ذلك بنفسه فاختبره ربه ووجده مصرًا على أن ينقذهم مما هم فيه بعد أن أحس مدى الذل الذي يعيشونه فكلفه الله بذلك وأيده.


    الصفة العاشرة وهي الصحبة الصالحة والتي من دونها يضل أي قائد وأي شخصٍ ناجح، وتمثلت صحبته الصالحة في أخوه هارون الذي سوف يسانده ويقف بجانبه وينصحه إلى آخر رحلته.


    إلى الآن اكتسب (موسى ) عليه السلام عشر صفات أساسية من صفات القائد وهي:


    1. الرحمة


    2. التعليم المتميز


    3. القوة البدنية الهائلة


    4. نفس حرة


    5. الشجاعة


    6. القدوة والمثل الأعلى


    7. المرونة والتوازن


    8. الشخصية المنفتحة


    9. الهدف والرسالة


    10. الصحبة الصالحة


    وقد لخص الله لنا كل ذلك في آية عظيمة، هي من دلالات إعجاز القرآن الكريم (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ)(القصص:14).



    [/align][/cell][/table1][/align]



    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  4. #4
    من المعازيب الصورة الرمزية سهو الليل


    تاريخ التسجيل
    04 2007
    العمر
    49
    المشاركات
    921
    المشاركات
    921


    شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

    وجزاك ربي الف الف خير




  5. #5
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    واياك اخي سهو الليل
    بارك الله بك وحفظك ..
    وشكراً للمتابعة و الحضور



    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  6. #6
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    موجز الحلقة السادسة

    رسالة موسى عليه السلام هي رفع الظلم عن بني اسرائيل:

    يقول موسى إنه من بني إسرائيل على الرغم من أنه الأمير موسى فإنه صاحب رسالة ورسالته هي رفع الظلم عن بني إسرائيل. وقد بدأ يحمل هذه الرسالة ويشعر بها، بل وأصبح قرار حياته، ففرعون كان ظالما وكانت هذه الناس مظلومة فموسى لن يقبل الذل والظلم؛ لأن الله جعله شخصية حرة ليست ذليلة فلن يقبل الذل لأهله. ولذلك يعتبر موسى نصير المظلومين في تاريخ البشرية وهو بطل الحرية في تاريخ البشرية فقد قال لا للظلم ولكن بلا عنف، بل بحكمة وعقل فقد قرر منذ هذه الفترة أن ينتمي إلى هؤلاء ويعيش لهؤلاء المستضعفين على الرغم من أنه لم يكلف بعد برسالة من الله! فقد كان عمره ثلاثين عاما بل إنه قد كلف عندما بلغ من العمر أربعين عاما ولكنه رجل مؤمن موحد يحب الله والناس ولا يريد الظلم بل يريد رفع الظلم عنهم، ولذلك بدأ بجمع بني إسرائيل فأصبح له أنصار وأتباع وأشياع.

    عندما يختار الإنسان يختبر الله هذا الاختيار ثم يسوق الأحداث سوقا لكي تكبر نتيجة هذا الاختيار وتعلو، فقد كان بنو إسرائيل يقولون إن موسى عليه السلام يقول إنهم من أتباعه ولكنه أيضا الأمير موسى، ولذلك يجب أن يحدث موقف حاسم يوضح أنه منهم. فعند الاختيار سيختبر الله أولاً اختيارك وعند الإصرار عليه يدفع الأحداث دفعا ليظهر أن اختيارك صحيح حتى وإن كانت النتيجة سيئة.



    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  7. #7
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    موجز الحلقة السابعة

    شهامة ونصرة رغم التعب والجوع والعطش:
    وما الذي شاهده وراقبه موسى عليه السلام في ساحة ماء مدين؟ وجد الفتاتين تقفان على جانب الساحة، بينما يقف الناس في طابور على الماء الأقوى فالأقوى، أي أن الأقوى يصل إلى الماء أولًا، يسقى نفسه ثم أهله ثم ماشيته وينصرف، ليأتي الذي يليه في القوة، وهكذا من يأتي البئر مبكرًا يأخذ الماء الصافي، ومع الوقت يبدأ الطين والكدر الموجودان في قاع البئر يعكران الماء، فيأتي الضعيف ويأخذ الماء المكدر بالطين، وبالتالى فإن القوى هو من يحصل على الماء الصافي، بينما الضعيف يحصل على الماء الكدر، وأضعف الضعفاء هو من سيسقى في آخر الوقت بعد انصراف جميع السقاة، وبالطبع أضعف الضعفاء هما الفتاتان لأن والدهما رجل عجوز لا يستطيع أن يسقي بنفسه. استطاع سيدنا موسى عليه السلام بعد أن شاهد وراقب ساحة ماء مدين أن يتعرف على ماهية منطق الحكم عند أهل هذه المدينة، وهو منطق القوة وليس منطق الرحمة، كم من مواقف يحكمها منطق القوة في بلادنا! ومع أى منطق أنت؟ منطق القوة أم منطق الرحمة؟ منطق الأقوياء أم منطق موسى نصير الضعفاء؟ لم تُذكر هذه القصة فى القرآن هباءً بل لتتعلم وتعِىَ الأمور من حولك، وأنت عليك أن تحدد وتختار منطقك، أتريد أن تكون مثل الأقوياء الذين سقوا على البئر بالقوة على حساب الضعفاء؟ ولكنهم لم يُذكروا في التاريخ، أم تريد أن تكون مثل موسى عليه السلام كليم الله وحبيبه؟ لنرى ماذا سيفعل نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين علمًا أنه ما ورد ماء مدين إلا ليجد من يستضيفه، وهو الغريب الجائع، ومن المؤكد أن الفتاتين لن يستضيفا رجلا، ولو أنه ساعدهما فهذا يعني أنه سيقدمهما بقوته على كثير من الرجال، وتقل فرص استضافته من أحد هؤلاء الرجال أو حتى تنعدم، فمع أي المنطقين سيكون موسى عليه السلام؟ يا موسى، ماذا أنت فاعل وأنت من سرت على رمال مصر إلى أن وصلت إلى حجر مدين، سائرًا على قدمين عاريتين بعد مسيرة ثمانية أيام؟ أنت الذي أُلصقت بطنك بظهرك من الجوع، وأنت المهدد بالقتل من قِبل فرعون، وأنت من لا تعرف هل نجوت أم لا، هل تفكر يا سيدنا موسى، في مساعدة الفتاتين وبك كل هذه الأحوال؟!




    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  8. #8
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أهلًا بكم..


    خروج نبي الله موسى عليه السلام من مصر:


    نكمل سويًا ما بدأناه سابقًا، يريد الآن نبي الله موسى عليه السلام الخروج من مصر ليبتعد عن طائلة يد فرعون، ولكن إلى أين وقد ترامت حدود الدولة المصرية في عصرالفرعون رمسيس وغطت مساحة كبيرة من الأراضي؟ ومن ثم سيضطر نبي الله موسى عليه السلام قطع مسافات طويلة سيرًا على الأقدام. ولكى تستطيع استيعاب مدى حرج الموقف، راجع كل الوجهات التي يمكن لنبي الله موسى عليه السلام الفرار إليها، وقد وصلت حدود مصر إلى سوريا وإلى لبنان، فلن تجد إلا "مدين". الطريق إلى مدين يتصف بالوعورة والخطورة وتصعب فيه الحركة إلى أبعد ما يكون، ويقبع على جانبيه جبال، وفى نهايته وادٍ تقع فيه مدينة مدين، والتي تبعد عن مصر إلى ما يصل إلى ألف كيلو متر من الأراضي، والتي قطعها نبي الله موسى عليه السلام في ثمانية أيام، وقد كانت هذه هى أول رحلة لنبي الله موسى عليه السلام خارج مصر. وبالرغم من دراسته لعلم الفلك وإمكانية الاهتداء بالنجوم في الصحراء والاستعانة بها في تحديد المسار الصحيح إلا أنه استعان بالله عز وجل، وظن الخير في إهدائه للمسارالصحيح. ويصف القرآن الكريم خروج نبي الله موسى عليه السلام من مصر بالآية التالية: )وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:22) وهناك معاني جميلة في "عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ"، وكأن نبي الله موسى عليه السلام يلجأ إلى ربه ويقول له سبحانه وتعالى: "يا رب أنا خرجت من مصر لأنى نصرت مظلومًا، فيارب أنا أعلم أنك لن تتركني وستهديني إلى الطريق الصحيح"، وفي هذا حسن ظن بالله عز وجل، وعليه توكل نبي الله موسى عليه السلام، وظن أن يرد عليه عمله الحسن عندما أحسن من قبل وساند مظلومًا، وهنا يأتى لُب الموضوع، والذى سأظل أردده عليكم، وأطلبه منكم وهو أن تقفوا بجانب الغلابة، وأن تساعدوا الضعفاء، وأن تنصروا المظلومين، فبنصرة المظلوم أصبح نبي الله موسى عليه السلام كليمَ الله.



    من أصعب الأشياء على النفس أن يخرج الإنسان من بلده فجأة، ولكن ما معنى خروج الفجأة؟ خروج الفجأة معناه أنه ليس هناك طعام يتزود به المسافر في سفره، ولا ركوبة يمتطيها، ولا صديق أو أخ يُوَدِعهُ كهارون عليه السلام، بل ليس هناك حضن أم، فحتى أمه لم يستطع نبي الله موسى عليه السلام أن يُودعها. خروج الفجأة خروج صعب على النفس، ولكن لا خيار آخر أمام نبي الله موسى عليه السلام لينجو بنفسه من القتل غير هذا الخروج الأليم، ولم يكن خروج نبي الله موسى عليه السلام من مصر مجرد خروج فجأة بل لقد كان أيضًا خروج من كونه موسى الأمير إلى موسى المطارد؛ الذى يخرج فقط لينجو بنفسه من القتل وذلك لأنه ساعد ضعيفًا.



    ويبدأ الترحال في حياة نبي الله موسى عليه السلام من ذلك اليوم، فهو لن يكون مستقرًا من الآن فصاعدًا فى حياته. وهكذا كانت رحلته الأولى من مصر إلى مدين، والتي قضى فيها عشر سنوات من عمره، ثم رحلته الثانية من مدين إلى مصر، والتى قضى فيها خمس عشرة سنة، ثم من مصر إلى سيناء وإلى صحراء النقب، ومرة أخرى إلى حدود الأردن وإلى حدود فلسطين، ثم التيه فى صحراء النقب حتى الوفاة. لقد كانت حياته سبعين سنة بدون استقرار من أجل الضعفاء!



    هناك الملايين من الضعفاء الغلابة في بلادنا، ماذا فعلت لهم؟ ولماذا أسرد عليك هذه القصة؟ وبماذا تشعر تجاه نبي الله موسى عليه السلام؟ اعلم أن مساعدة ومناصرة نبي الله موسى عليه السلام للضعفاء كانت هى السبب فى استحقاقه لأن يكون كليم الله، لقد أحببت نبي الله موسى عليه السلام جدًا من قراءتي لسيرته، فهو لم يعش مستقرًا أبدًا. أما نحن فنعيش في استقرار، وإذا ما نقلنا من بيت إلى آخر بحاجاتنا من أثاث وديكور وغيره نعتبر هذا أيَّما مشقة.



    الوضع في مصر:


    يبحث فرعون عن نبي الله موسى عليه السلام في كل مكان، وقد استشاط غضبًا، وعليه أن يجده، فمن أجله قتل آلاف الأطفال الرضع منذ ثلاثين عامًا، وياللقدر! ينجو هو، وقد كان هو المراد من القتل، بل ولقد رباه فى بيته. ومع اشتداد حذر فرعون من تحقق الرؤيا وسلب ملكه اشتدت أوامره لجنوده بإيجاد نبي الله موسى عليه السلام حيًا أو ميتًا، وإن كان قد نجا من الموت منذ ثلاثين عامًا فيجب أن يذبح الآن ولا يفلت أبدًا هذه المرة، فانتشر جنود فرعون في بيوت بنى إسرائيل ليفتشوها، وعذبوهم لعلهم يجدونه، ولكنهم لم يبحثوا عنه قط في الصحراء؛ وذلك لعلمهم بأن الصحراء جرداء، من دخلها وهو لا يملك ركوبة ولا دليل فهو هالكٌ لا محالة، ولعل نبي الله موسى عليه السلام فى هذه الأثناء كان يناجي نفسه بأنه ما أراد إلا أن يُصلح في بنى إسرائيل ويساعد الضعفاء، ولكن يا للخُسارة ضاعت رسالته. أو لعله كان يتساءل: لماذا كان عاقبة مساعدته مظلومًا خروجًا مفاجئًا من وطنه وأهله، وهو لا يدري أن هذا هو منتهى الحب والإعداد من الله عز وجل له، يا نبي الله موسى، لكى تكون كليم الله عز وجل، ولكى تحمل الرسالة يجب أن تتحمل مشاقًا ومشاقًا تقويك وتؤهلك أن تكون على قدر المسؤلية الآتية، فتربية القصور لا تجدي بمفردها نفعًا مع هذه المهام العظيمة، ومن ثم وجبت مشاق الصحراء وتعبها وجهادها. فكل ما في هذه الرحلة هو من قول الله عز وجل:(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41) واصطنعتك لنفسى، الله الله على هذه الكلمة، فكل ما يحدث لك يا نبي الله موسى هو إعداد لك من الله عز وجل، وهناك قاعدة تقول: "ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك"، والمعنى أن في بعض الأحيان قد يمنع الله عز وجل عنك ما تريده ولكن هذا في حقيقته لا يكون إلا عين العطاء ومنتهى الحب من الله عز وجل، خذوها قاعدة في حياتكم يا شباب، وتعلموها من نبي الله موسى عليه السلام، لو أنك على الحق، ولو أنك على الخير، ولو أنك تساعد الغلابة والمظلومين وفى هذا تعرضت لصعاب ومشاق مثل ما تعرض له نبي الله موسى عليه السلام فى الطريق، فاعلم أن هذا من اصطناعة الله عز وجل لك، فكل من يريد الله ويريد الحق يصنعه الله ويُعده، وإن كنت منهم فافرح ولا تحزن فهذا من صناعة الله عز وجل لك، هذه كانت مشاعر نبي الله موسى عليه السلام مقترنة بحسن ظن فى الله عز وجل.



    نبي الله موسى عليه السلام في الطريق إلى مدين:


    يسير نبي الله موسى عليه السلام في الطريق الوعر الخطير إلى مدين، وهو مهدد بالقتل، وذلك للمرة الثانية في حياته، والتى سبقتها محاولة قتله وهو لا يزال بعد رضيعًا صغيرًا، وفي هذا رسالة خفية إلى موسى عليه السلام من رب العالمين له، وفيها أنك يا موسى، نجوت فى المرة الأولى وستنجو فى الثانية، وفيها أيضا أنك يجب أن تعلم أن أَجَلُك وأجل العباد في يدي أنا الله، وها أنت تتعرض للقتل مرتين، وممن؟ من فرعون، ولكن الله عز وجل ينجيك فى المرتين، وعلينا نحن أن نعي هذه الرسالة جيدًا، وفي هذا يقول سيد النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: "نفث روح القدس في روعي أن نفسًا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلهاوتستوعب رزقها". لا تخشوا على أرزاقكم وأعماركم؛ فهى مضمونة لكم بين يدى الله عز وجل، ولكن افعلوا الخير، واعملوا الحق. تعلموا من نبي الله موسى عليه السلام ومن رحلته إلى مدين.



    يسير نبي الله موسى عليه السلام في الطريق إلى مدين، ويمر عليه يوم ويومان وثلاثة، وفي هذا يصف ابن عباس نقلًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حال نبي الله موسى عليه السلام في هذه الرحلة، فيقول: "التصقت بطنه بظهره من شدة الجوع، أكل ورق الشجر، تقيحت فاه، بات ليال فى الصحراء عاريًا، ثم سقط نعله، ثم سقط جلد قدميه، وسقطت أظافره، وأدميت قدماه". إن لكم أن تعلموا أن المسافرين في الصحراء يُحَّذًَرُون من العقارب؛ فهى تقبع تحت الصخور، وتخرج على السائر في الصحراء، وتلدغ الجالس فيها. فكيف كان حال نبي الله موسى عليه السلام في هذا المكان وقد مرت عليه ثمانية أيام، وكان لا يجد مأوىً للنوم إلا أرض الصحراء العارية؟ ولم تكن هذه هى المشقة الوحيدة التى تعرض لها نبي الله موسى عليه السلام، بل ومن طول مسيرته تقطع نعله، وسقط جلد قدميه، ونزفت رجلاه. أليس بعد معرفة بعض مشاق هذه الرحلة يجدر علينا أن نتعب لله عز وجل؟ ألسنا نتعب كثيرًا من أجل الدنيا؟ أنبخل ببعض التعب لله عز وجل؟ ألم تُدمى قدما كل من نبي الله موسى ونبي الله محمد عليهما الصلاة والسلام؟ وألم يسيرا- كلٌ منهما- في الطريق الطويل؟ فيسير نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين، ويسير نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى الطائف؟ يقول نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم: "يُبتلى المرء على قدر دينه، فمن كان في دينه صلابة زِيدَ في ابتلائه، قالوا: ومن أكثر الناس ابتلاءً يا رسول الله؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل" إذا كنت ممن تعمل الخير وتتعرض للصعاب فأنت تسير على طريق الأنبياء، فأنت على خطى نبي الله موسى عليه السلام، وأنت كأنك تسير في طريق نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين، ثم إلى الدرجات والمقامات العلا في الجنة، يا أهل البلاء، اصبروا، اصبروا كما صبر نبي الله موسى عليه السلام، والحق في القرآن الكريم يقول:)... إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيرِ حِسَابٍ (الزمر:10(.



    الأنس بالله عز وجل:


    أنا أتخيل نبي الله موسى عليه السلام وهو سائر على قدميه خائر القوى، يكاد يسقط من شدة التعب، وها هو يقترب من مدين، وها هى مدين تلوح فى الأفق، أريد أن أنبهكم إلى عبادة جميلة عاشها نبي الله موسى عليه السلام فى هذه الأيام الثمانية، ألا وهى الأُنس بالله عز وجل، ولكن ما معنى الأُنس بالله؟ الأنس بالله هو أن تصبح الوحدة ليست بوحدة لأنك مع الله. عليكم بتجربة هذه العبادة، والله إنها لعبادة جميلة، فبدلًا من أن تقول سأشاهد التلفاز ساعتين أو ثلاثة، أو سأتكلم فى الهاتف لأضيع الوقت، جرب أن تأنس بالله عز وجل، هيا، قلد نبي الله موسى عليه السلام، ولكن كيف لك أن تأنس بالله عز وجل؟ ركعتين، نعم عليك بالصلاة، لأنك فى الصلاة وبينما أنت تقول "الحمد لله رب العالمين"، يقول الله عز وجل لك: "حمدني عبدي"، وبينما أنت تقول: "الرحمن الرحيم" فيرد عليك الله عز وجل، ويقول: "أثنى على عبدي"، وبينما أنت تقول: "مالك يوم الدين"، فيقول ربنا عز وجل: "مجدني عبدي"، وبينما أنت تقول: "إياك نعبد وإياك نستعين"، فيقول عز من قال: "هذا بيني وبين عبدي"، الله الله الله على هذا! كان لنبي الله عمر بن عبد العزيز مع الفاتحة عملًا عجيبًا، وهو أن يصمت بعد كل مقطع فيها هنيهة من الوقت، فسألوه: لماذا تصمت؟ قال: لأستمتع برد ربى. هذا هو الأنس بالله، هل أدلكم على عمل جميل للأنس بالله عز وجل؟ اذكروا الله.. فذكر الله هو قمة الأنس) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ...) (البقرة:152) وهناك حديث قدسي يقول: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، قل الآن: "لا إله إلا الله"، يذكرك الله تعالى الآن باسمك.



    كان الأنس بالله عز وجل هو حال نبي الله موسى عليه وسلم طيلة الثمانية أيام التى قضاها في رحلته قاطعًا الصحراء بين مصر ومدين، وأخيرًا بدأت ظهور بعض ملامح الحياة في الأفق، وكانت تلك مشارف مدين بالفعل، وهكذا استجاب الله تعالى لدعاء نبي الله موسى عليه السلام وحسن ظنه به عز وجل، والكلمة التى قالها "عَسَى رَبِّي أَن يَّهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ" قد تحققت.



    دخول نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين:


    ودخل نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين وتوجه إلى مُجتَمَع الناس، وهو ماء مدين، وهذا هو المكان الذي يسقي الناس فيه، وإن أنتم ذهبتم إلى مدين في زماننا هذا ستجدون نفس عين الماء المذكورة في القرآن الكريم، والتي ذهب إليها نبي الله موسى عليه السلام منذ ثلاث آلاف سنة، ومن المعلوم أنه إن لم يكن تحديد هذا المكان غير ذي أهمية لما تم ذكره في القرآن الكريم، توجد ماء مدين فيما يعرف الآن باسم محافظة الكرك في دولة الأردن، ومن يصل إلى هذه المنطقة سيجد لوحة مُعلقة مكتوبٌ عليها الآية القرآنية التي تقول:(وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ...) (القصص:23) ولا تزال هذه الماء تسقي حتى وقتنا الحاضر، ولا يزال البشر يَرِدُونها ليسقوا منها.



    يالها من رحلة طويلة ومشقة كبيرة، ولكن هكذا تستحق الرسالات العظيمة. ياليتكم تكونون مثل نبي الله موسى عليه السلام تنصرون الضعفاء، وما ماء مدين إلا مكانٌ آخرٌ ينصر فيه نبي الله موسى عليه السلام ضعفاء آخرين، فهنا في هذا المكان ساعد الفتاتين، وهذا هو لب قصة نبي الله موسى عليه السلام، فنصرة الضعيف هى السيرة الذاتية التي أهلته لكى يكون نبيًا، ولكى يكون كليم الله. أتريد أن يكون لك مقام عند الله عز وجل؟ انظر ماذا تفعل مع الضعفاء، وما هو مقام الغلابة عندك؟ وأنت ستعلم ما هو مقامك عند الله، وهكذا سَيُؤَهَل نبي الله موسى عليه السلام من هذا المكان- ماء مدين- ليكون كليم الله عز وجل.



    ولنتعرف أكثر على أرض مدين، فأرض مدين هى أرض نبي الله شعيب عليه السلام، وهو نبي من أنبياء الله عز وجل عاصر نبي الله لوطًا عليه السلام، وجاء بعد نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويبعد زمنه عن زمن نبي الله موسى عليه السلام بثلاثمائة سنة. وككل الأنبياء أُُرسل نبي الله شعيب عليه السلام إلى أهل هذه البلدة في زمانه يدعوهم إلى الله العزيز الغفار، ولكنهم كذبوا ورفضوا الدعوة، وهكذا نقرأ في القرآن الكريم:) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ...) (الأعراف:85) وكانت هذه الأرض أرض زراعة وحضارة، يعيش أهلها عيشة هنية، ولكنهم كانوا يُطففون في الميزان –وهذا نوع من الظلم وللأسف الشديد ينتشر الآن وبكثرة في بلادنا- فأرسل الله عز وجل إليهم شعيبًا، وأعطاهم الكثير من الفرص كي يُقلِعُوا عن ذنوبهم ويعودوا إلى طريق الرشاد، ولكن مع حلم الله عليهم ازداد ظلمهم وجهلهم، فكان أن أخذهم عذاب يوم الظلة، كما يسرد القرآن الكريم: (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمُ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الشعراء: 189( وكان أن حدث زلزال شديد أدى إلى سقوط وتهدم بيوتهم فهلكوا جميعًا بعد حلم الله عز وجل عليهم، ولكن السؤال الآن: لماذا نذكر هذه القصة هنا في هذا المكان- ماء مدين- وفي هذا الزمان، زمن نبي الله موسى عليه السلام؟ لأن الله عز وجل أراد أن يأتى نبي الله موسى عليه السلام إلى أرض كَثُرَ فيها الظلم كما هى أرض مصر الآن في زمن فرعون، وذلك ردًا على تساؤلات نبي الله موسى عليه السلام الداخلية التى لابد وأنه كان يتساءل بها فى نفسه، مثل: أأخرج أنا وأنا من نصر المظلوم بينما يبقى الظالم في مكانه ولا يخرج من أرضه؟! فكان لابد أن يجيب الله عز وجل عليه بطريقة عملية وواقعية وليست نظرية، وكأنه يقول له: لا يا موسى، فإن ربك حليم يمهل العباد، ويُعطي الفرص لعل الناس يرجعون عن ظلمهم، ولكنه إن أخذ_ سبحانه وتعالى_ فإن أخذه أليم شديد. كان لابد لنبي الله موسى عليه السلام أن يدخل أرض مدين ليُحكى له قصة هذه الأرض وقصة أهلها مع نبيهم وتكذيبهم له وأخذ الله لهم، وليرى نبي الله موسى عليه السلام بعينيه آثار هذا الزمان من بقايا البيوت المهدمة والحضارة المندثرة والموجودة حتى الآن؛ ليعلم أنه مهما علا فرعون في الأرض وظلم فإنه لابد له من نهاية مدوية كما في وصف القرآن الكريم لنهايات الظلمة:(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) يا ظالمين، احذروا غضب الله العزيز، وإياكم أن تستهينوا، فنعم، الله هو الحليم، ولكن أيضًا أخذه أخذٌ أليمٌ شديدٌ. فكأن الله أراد عز وجل أن يُرِىَ نبي الله موسى عليه السلام بعينيه تجربة عملية، ليعلم أن الله مع الصابرين، ياالله على دروسك العملية التي تعلم بها البشر!



    ما السبب الذى جعل نبي الله موسى عليه السلام يتجه إلى بئر مدين بمجرد دخوله إلى هذه الأرض الجديدة؟ كان للقدماء عادة وهى أن الغريب إذا دخل أرضًا جديدة عليه، وأراد أن يُضَيَفَهُ أحد ليأكل ويشرب فعليه أن يذهب إلى مكان السقاء؛ لأنه مكان اجتماع القوم مما يجعله مكانًا مناسبًا لإيجاد شخص يضيف الغريب، هذا بالإضافة إلى أنه أراد أن يشرب بعد رحلة الثمانية أيام في الصحراء. ما هو هدفك الآن يا نبي الله موسى؟ أن يستضيفنى أحد؟



    اقرأ القرآن وتعايش معه: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) والأُمة من الناس هى الجماعات الكثيرة من البشر، كلٌ له مأربهُ الخاص إما سقاية ماشيته أو سقاية أهله أو أن يشرب هو نفسه. ولنا أن نتخيل موقف نبي الله موسى عليه السلام الآن، فهو لابد فرح بوصوله إلى هذا المكان الذي يكثر فيه االناس، ولابد أن أحدهم سيلاحظ عليه مشقة السفر وجوعه فسيستضيفه عنده، ولكنه في هذه الأثناء لاحظ شيئًا غريبًا، وهو وقوف فتاتين على جانب هذه الساحة الكبيرة ومعهما أغنامهما، ولكنهما لا يقتربان من الماء. أريدك أن تلاحظ معي شيئًا لطيفًا في الآية الكريمة السابق ذكرها، وهو أن كلمة "وَجَدَ" قد تكررت مرتين، فمرة وجد أمة من الناس، ومرة أخرى وجد فتاتين تمنعان أغنامهما من أن يدخلوا إلى الماء متزاحمين مع أغنام الآخرين، لقد تعلم نبي الله موسى عليه السلام من التجربة، فأول مرة وجد شخصًا يضرب آخر، فوكزه فورًا فقضى عليه، بينما في المرة الثانية (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَّبْطِشَ ...) (القصص:19) أي أنه فكر قليلًا قبل أن يهم بأمر ما، أما الآن فهو يرقب المكان ويتفكر في الأمر من حوله ويعقله، فتكررت كلمة "وجد" لتعبر عن هذا التفكر في الأمر قبل إحداث فعل ما. هل لاحظت كم هو جميلٌ هذا التدريب الرباني المستمر؟! تدريب الله عز وجل لموسى عليه السلام اليوم هو: "شاهد وارقب حتى ولو كنت تفعل خيرًا"، هذه هى القاعدة عند عمل الخير، فما بالك لو كان لعمل شر، إياك أن يجرك صاحبك إلى شر، إياك أن تسلم عقلك وقلبك إلى شيطان أو إلى صاحب سوء، بل يجب عليك أن تشاهد وترقب.



    شهامة ونصرة رغم التعب والجوع والعطش:


    وما الذي شاهده وراقبه نبي الله موسى عليه السلام في ساحة ماء مدين؟ وجد الفتاتين تقفان على جانب الساحة، بينما يقف الناس في طابور على الماء الأقوى فالأقوى، أي أن الأقوى يصل إلى الماء أولًا، يسقى نفسه ثم أهله ثم ماشيته وينصرف، ليأتي الذي يليه في القوة، وهكذا من يأتي البئر مبكرًا يأخذ الماء الصافي، ومع الوقت يبدأ الطين والكدر الموجودان في قاع البئر يعكران الماء، فيأتي الضعيف ويأخذ الماء المكدر بالطين، وبالتالى فإن القوى هو من يحصل على الماء الصافي، بينما الضعيف يحصل على الماء الكدر، وأضعف الضعفاء هو من سيسقى في آخر الوقت بعد انصراف جميع السقاة، وبالطبع أضعف الضعفاء هما الفتاتان لأن والدهما رجل عجوز لا يستطيع أن يسقي بنفسه. استطاع نبي الله موسى عليه السلام بعد أن شاهد وراقب ساحة ماء مدين أن يتعرف على ماهية منطق الحكم عند أهل هذه المدينة، وهو منطق القوة وليس منطق الرحمة، كم من مواقف يحكمها منطق القوة في بلادنا! ومع أى منطق أنت؟ منطق القوة أم منطق الرحمة؟ منطق الأقوياء أم منطق موسى نصير الضعفاء؟ لم تُذكر هذه القصة فى القرآن هباءً بل لتتعلم وتعِىَ الأمور من حولك، وأنت عليك أن تحدد وتختار منطقك، أتريد أن تكون مثل الأقوياء الذين سقوا على البئر بالقوة على حساب الضعفاء؟ ولكنهم لم يُذكروا في التاريخ، أم تريد أن تكون مثل موسى عليه السلام كليم الله وحبيبه؟ لنرى ماذا سيفعل نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين علمًا أنه ما ورد ماء مدين إلا ليجد من يستضيفه، وهو الغريب الجائع، ومن المؤكد أن الفتاتين لن يستضيفا رجلا، ولو أنه ساعدهما فهذا يعني أنه سيقدمهما بقوته على كثير من الرجال، وتقل فرص استضافته من أحد هؤلاء الرجال أو حتى تنعدم، فمع أي المنطقين سيكون نبي الله موسى عليه السلام؟ يا نبي الله موسى، ماذا أنت فاعل وأنت من سرت على رمال مصر إلى أن وصلت إلى حجر مدين، سائرًا على قدمين عاريتين بعد مسيرة ثمانية أيام؟ أنت الذي أُلصقت بطنك بظهرك من الجوع، وأنت المهدد بالقتل من قِبل فرعون، وأنت من لا تعرف هل نجوت أم لا، هل تفكر يا نبي الله موسى، في مساعدة الفتاتين وبك كل هذه الأحوال؟!



    نعم، إن شهامته ستتغلب على تعبه وجوعه وعطشه، وسيساعد الفتاتين! ألم أقل لكم أن نبي الله موسى صلى الله عليه وسلم سيقدم سيرته الذاتية الخاصة به ليصبح نبيًا؟ ويا الله، إنها نفس السيرة الذاتية لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كليهما نصرة الضعيف هى سابقة الأعمال، ألم يستوقفك كلام السيدة خديجة رضى الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الوحى لِيُعلمه أنه أصبح نبيا؟ ألم تقل له: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتكرم الضيف، وتعين على نوائب الدهر، وتعين الضعيف وتقف مع المكروب"، إذن تلك هى المواصفات التي جعلت الأنبياء أنبياء، وأنت إن أردت أن تكون حبيب للأنبياء وعلى قدم الأنبياء، فعليك بنصرة الضعفاء التي جعلت نبي الله موسى عليه السلام كليم الله ونبي الله محمد صلى الله عليه وسلم سيد خاتم الأنبياء. هل لى أن أسالك ماذا كنت ستفعل لو كنت مكان نبي الله موسى عليه السلام في هذا الموقف؟ دعني أقل لك ماذا كنت ستفعل، كنت ستهرول إلى البئر مزيحًا كل من يقف أمامك بالقوة لترتمي في الماء، وتروي نفسك منها، أليس هذا بصحيح؟ أم كنت ستجلس على الأرض تداوي قدميك التي أدمت دمًا، أم كنت ستنام، وتنام لكي تستطيع أن تفيق، أم كنت ستذهب إلى أحد الأقوياء، وتطلب منه الاستضافة، وعلى كلٍ فإنك من المؤكد كنت ستتجاهل الفتاتين، لأنه ليس هذا الوقت المناسب لتفكر في أمرهما، ناهيك عن مساعدتهما. لم يفعل نبي الله موسى عليه السلام أيًا مما كنت أنت ستفعله؛ لأنه لا يتوقف عن نصرة الضعيف، ولا تتوقف شهامته، فماذا فعل نبي الله موسى عليه السلام؟



    ذهب نبي الله موسى عليه السلام إلى الفتاتين يسألهما عن أمرهما، ويسرد القرآن الكريم الخطاب بينهما كالتالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24) ولاحظ أدب الفتاتين، فهما اعتذرا عن وجودهما في وسط هذا الحشد الكبير من الرجال بأن أباهما رجل عجوز، لا يستطيع أن يسقي بنفسه، ولذلك هما هنا من أجل هذه المهمة بدلًا منه، وهنا في هذه اللحظة ينصر نبي الله موسى عليه السلام الفتاتين الضعيفتين، فيسقي عنهما، وإن كان المنطق الذي يعرفه السقاة هو منطق القوة فنبي الله موسى صلى الله عليه وسلم هو لها، وبالفعل تزاحم مع الرجال، وسقى لهما، ونسى جوعه وعطشه حتى أنه لم يسق نفسه كما قال نبي الله ابن العباس: "لم يُدرِك أن يشرب".



    هل عرفت الآن لم استحق نبي الله موسى عليه السلام أن يكون كليم الله عز وجل؟ ماذا عنك أنت؟ ما هو مقامك الذي تريد الله عز وجل أن يضعك فيه؟ أتريد أن تدخل الجنة؟ ولكن بأي عمل تريد أن تدخل الجنة، بأى ضعيف وقفت بجواره، بأى يتيم نصرته، بأى أرملة ساعدتها، بأي أطفال شوارع وقفت بجانبهم، بأي قرية فقيرة ذهبت إليها وساعدت فقراءها؟ قل لي بأي عمل؟



    حب النبي صلى الله عليه وسلم لنبي الله موسى:


    هناك رواية تقول أن الرعاة لما علموا أن نبي الله موسى عليه السلام ينتوي مساعدة الفتاتين أرادوا منعه، ولكنهم علموا بعدم مقدرتهم على هذا لِما ظهر منه من قوة البدن في زحامهم إياهم على الماء، فقرروا وضع صخرة عظيمة لا يستطيع حملها إلا عشرة رجال مجتمعين في طريقه ليعترضوه، فما كان منه إلا أنه رفعها بمفرده. ومن الجدير بالذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم وصف نبي الله موسى عليه السلام، وكان قد رآه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، وكان يحبه حبًا جمًا، وكان من أقرب الناس لقلبه صلى الله عليه وسلم بعد نبي الله إبراهيم عليه السلام؛ وذلك لأن ثلث القرآن الكريم أُنزل في نبي الله موسى عليه السلام، وبحب نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم كان حبه لنبي الله موسى عليه السلام، كما أنه كان أيضًا أكثر من عانى مثله مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك كان يقول النبى صلى الله عليه وسلم عندما يؤذى أو يؤذى أحد من أتباعه: "رحم الله أخي موسى". إياكم أن تكونوا غير محبين لنبي الله موسى عليه السلام، أحبوه مثل الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمنا القرآن الكريم (... لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) (البقرة:285) يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الله موسى عليه السلام، فيقول: "رأيت موسى، فقال مرحبًا بالنبى الصالح والأخ الصالح"، يا الله على الحب بين كلا النبيين، يا ليت بني إسرائيل يتعلمون، يا ليتهم يعلمون مقام نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم عند نبينا موسى صلى الله عليه وسلم، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الله موسى عليه السلام، بقوله: "فرأيته طوالًا أجعد الشعر" وطوالًا هذه تشير إلى شدة الطول مع عضل مفتول، فقد كان سلام الله عليه قوة بدنية هائلة؛ ولذلك استطاع أن يحمل بمفرده صخرة لا يحملها إلا عشرة رجال مجتمعين، ومن أجل ذلك قالت الفتاة لأبيها فيما بعد: (... يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) (القصص:26)0 أريد هنا أن أوجه كلامي إلى الشباب الذى يداوم على الرياضة: إياكم أن تكون عضلاتكم هذه للشر أو للبنات أو للإعجاب، إياك أن تضع في جيبك سلاحًا أبيض، وإياك أن تستقوي على أحد بعضلاتك، تَعَلَم أن تكون عضلاتك وقوتك للضعفاء، تعلم من هذا الدين، أ طعام وشراب أم رجولة وشهامة؟ اختار نبي الله موسى عليه السلام الوقوف بجانب الضعفاء فأصبح كليم الله عز وجل.



    قد تتساءل في نفسك أن ما فعله نبي الله موسى عليه السلام مع الفتاتين هو عمل خير، ولكنه فى النهاية عمل بسيط وصغير، يجب أن تعلم أن نصرة الضعيف ليس بعمل صغير، وأن من يعمل العمل الصغير يُهيؤه الله عز وجل للعمل الكبير، لأن الله عز وجل يُجرب عباده مرة تلو الأخرى، وإذا نجحوا يتفضل عليهم بالمنزلة الكبيرة، وهكذا أصبح نبي الله موسى عليه السلام هو السبب الذي يجعلنا نهتم بمدين وبماء مدين، فهو رمز نصرة الضعفاء، فهو الذي سيخوض أعظم تجربة لمواجهة الظلم في تاريخ البشرية.



    وبعد أن سقى نبي الله موسى عليه السلام للفتاتين خسر كل من كان يقف على ماء مدين من الرجال الذين قد يُضيفونه، فرجع نبي الله موسى إلى الخلف وجلس في ظل شجرة ليس معه أحد إلا الله عز وجل.



    الواجب العملى:


    · وإليكم الواجب العملي بعد معرفة هذه القصة العظيمة، وهو أن تبحث عن فقير أو ضعيف وانصره كما نصره نبي الله موسى عليه السلام، فهذا هو الطريق إلى الجنة، وهذا هو طريق الأنبياء، وعليك أن تعلم أنك قد تجد ضالتك في بيتك، كأن يكون هذا الضعيف هو أمك أو زوجتك أو ابنتك وأنت من تستضعفها، وضع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم نصب عينيك، والذي يقول فيه: "لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا"، فيامن يعتكف في المسجد النبوي في العشر الأواخر من رمضان، اذهب إلى قريتك، وابحث عن أسرة فقيرة، ومُد لهم يَد العون، كأن تساعدهم على إقامة مشروع صغيرتُحيِيهُم به، ويا من يعاني من المشاكل، بالله عليك، اقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه: "من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". "وكان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، "ومن يسر عن معسر يسر الله عنه في الدنيا والآخرة". ابحث عن أرملة، صديق، أو جار ضعيف، وقف بجانبه، واعلم أن أحد الصحابة كان إذا لم يمر ببابه ضعيف أو فقير يطلب مساعدته يقول: "هذه مصيبة بذنب أذنبته"، وعليه إذا لم تستطع أن تجد فقيرًا أو ضعيفًا تساعده، فاعلم أنك محروم بذنوبك الكثيرة.



    · والواجب الثاني هو أن تقرأ القرآن، وأن تستمتع بالآيات الكريمات التي تحكي قصة نبي الله موسى عليه السلام لعلك أن تَحيا بالقرآن.



    كم نحتاج إلى نبي الله موسى عليه السلام في زماننا هذا، وكم هى حاجتنا لنتعلم منه نصرة الضعيف، وكم هى حاجتنا لنتعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان من صفاته التي أهلته ليصبح نبيًا وقوفه بجانب الضعفاء.



    عل الله الرحمن الرحيم يجمعنا مع نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ونبي الله موسى عليه السلام في الفردوس الأعلى بنصرة الضعفاء والفقراء.




    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  9. #9
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    الحلقة الثامنة

    مقدمة
    بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. نستكمل قصة موسى، خرج موسى من مصر في يوم وليلة، ووصل بعد ذلك إلى مَدين كما عرفنا سابقًا الذي قضاه في مَدين حتى سقى البنتين. والآن نكمل ما حدث بعدما سقى البنتين ونروي ما حدث طيلة العشر سنوات التي قضاها في مَدين. حيث يخرج موسى بعد أن سقى البنتين ويجلس تحت ظل شجرة كما قال الله تعالى {.. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ .. }القصص24.

    حال موسى بعد أن سقى للفتاتين:
    عاد موسى وحيدًا مرة أخرى في هذا المكان بعدما انفض الجميع من حوله، ولم يجد مكانًا يجلس فيه إلا تحت ظل الشجرة وهى أقرب شجرة للبئر، تخيل معي كيف هي حالته الآن؟! ولا تنس أنه حبيب الرحمن حيث يقول الله تعالى: {..وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي .. }طه39. فلا يمكن أن تراه إلا وتحبه، فإذا رأيته يوم القيامة وأحببته فهذا دليل على إيمانك؛ فلا يحبه إلا مؤمن، أما الظالمين لن يشعروا بأي شيء تجاهه؛ لأنه عدو الظالمين ونصير الضعفاء. فتخيل رغم أنه حبيب الرحمن وسيكون بعد ذلك كليمه إلا أنه جالس وحيد في هذه الصحراء التي لا يوجد بها الآن أنيس ولا بشر وغير مأهولة بالسكان، فما بالكم بشكلها منذ ثلاثة آلاف سنة!
    دعاء موسى إلى الله:
    جلس موسى تحت ظل الشجرة بجسده، وذهب إلى ظل رحمة ربنا بروحه وقلبه، وتخيل معي حالته وهو يقول هذا الدعاء {... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }القصص24 . فممكن أن تشعر بهذا الدعاء وتكتبه وتقوله عندما تشعر بأي ضعف. هيا بنا نعيش مع هذا الدعاء، ونستشعر حال موسى عندما كان جالسًا بمفرده، تخيلوا ضعفه وحاله وهو تحت ظل الشجرة يدعو: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }القصص.16 {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ }القصص17. {... قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص21.{... قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ }القصص22. {... فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}القصص24
    ففي كل خطوة دعاء، وكل الدعوات استجيبت، قال رب اغفر لي، فغفر له. قال رب نجني من القوم الظالمين، فنجاه ربه. قال عسى أن يهديني سواء السبيل، مشى حتى وصل إلى مدين. قال رب إني لما أنزلت إلىّ من خير فقير، ستستجاب أيضًا. يا شباب، يا نساء، يا رجال، ادعوا في كل خطوة وأزمة واحتياج في حياتكم. يقول النبي صلى الله عليه وسلام: (إن الله يستحي أن يرفع العبد يديه، يقول يا رب يا رب، ثم يردهما صفرًا خائبتين). يقولون لأحد العُبَّاد: كيف عرفت الله؟ فقال: عرفت الله بإجابته للدعاء، ما ردني أبدا. فإياك أن تقول أن الله يعلم بحالي فلماذا ادعو والله يعلم كل شيء؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم من لا يسأل الله يغضب عليه). الله سبحانه وتعالى يحب سماع صوتك، ويحب أن يرى يديك مرفوعة إليه تدعوه. وعندما أصبح موسى نبي قال بني إسرائيل له: لِمَ ندعو الله وهو أعلم بحالنا؟ فسأل موسى الله تعالى فأوحى إليه الله أن يا موسى إني أعلم بحالهم، ولكني أحب أن أسمع ضجيج عبادي في الدعاء، حتى إذا رفعوا أكفهم بين يديَّ وتوسلوا إليَّ كنت لهم أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
    رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ:
    يقول موسى: {.. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }القصص24 . تخيلوا وهو جالس تحت ظل الشجرة يقول: يا رب، أنا فقير، بلا مأوى، بلا أهل، ليس لي أحد، عُدت فقيرًا. فالأمير موسى ابن قصر الأمس يجلس تحت ظل شجرة في هذه الصحراء الواسعة أمام هذا البئر ويقول: يا رب أنا فقير! فتشعر أن موسى يلجأ إلى الله بضعفه وذله. وأحسن عبادة، عندما تلجأ إلى الله بضعف وذل، الجأ له بضعفك يمدك بقوته، الجأ له بفقرك يمدك بغناه، الجأ له بذُلك يمدك بعزته، قل له: يا قوي، من للضعيف إلا أنت؟ يا غني من للفقير إلا أنت؟ يا عزيز من للذليل إلا أنت؟ يقول أحد العلماء: طرقت الأبواب إلى الله فوجدتها ملأى، فطرقت باب الذل (من باب الضعف والمسكنة) فوجدته فارغًا فدخلت وقلت لكم هلموا. أحيانا تقول دعاء صغير بصدق، يُفتح لك عند الله من هذا الدعاء أبواب كثيرة، يقول موسى وهو مستشعر بالذل والضعف: يا رب أنا فقير. وهذا الدعاء جعل موسى كليم الله، كيف؟ فعندما كلم الله موسى وقال له: يا موسى، أتدري لِما اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ فقال: لا يا رب. فقال الله له: يا موسى، إني قلبت عبادي في زمانك ظهرًا وبطنًا، فلم أجد نفسًا أذل لي منك، فأحببت أن أرفعك بين عبادي بِذُلك لي.
    سرعة إجابة الدعاء:
    لاحظ دعاء موسى، ذكر أولًا خير الله عليه، ثم قال له أنه فقير. فمن عادتنا عندما تكثُر المشاكل علينا أن ندعوا الله مباشرةً دون أن يذكروا نعمة الله عليهم، ولكن موسى ذكر أولاً خير ربنا عليه. من أنه الذي أنقذه من الموت وهو صغير، ورده إلى أمه، وغيرها من النعم الكثيرة، ورغم كل ذلك لازلت إلى ما انزلت إلىَّ من كل هذا الخير فقير، لاحظ كم أن نفسية موسى غير ساخطة بالرغم من أنه كان من ثمانية أيام الأمير موسى، واليوم لا يجد الطعام، ولكن كانت نتيجة الدعاء مع التذلل وذكر نِعَم الله قبل أن يقول شكواه {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا .. }القصص25. فإذا الفتاة تأتيه بسرعة بعد أن دعا الله {فَجَاءتْهُ } الفاء هنا للسرعة، وهذا يدل على سرعة إجابة الدعاء، تقول له: {... إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ ...}القصص25. يدعوك على الطعام؛ لتأكل عندنا، أرأيتم كيف نصرة الضعيف؟ فإنه كان عند البئر، ثم أكرم الفتاتين، وبعد ذلك جلس تحت ظل الشجرة يدعو الله، ثم جاءته فورًا إحدهما؛ كي تدعوه إلى الطعام، ومنذ ذلك الوقت وهبه الله الاستقرار والطعام والمأوى والسكن والزواج فيما بعد.
    قانون الارتداد:
    هناك يا إخوتي ما يسمى بقانون الارتداد، ما هذا القانون؟ هو قانون علمه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما قال له: يا محمد، اعمل ما شئت، فإنك مجزي ٍ به (فإذا فعلت الخير يرجع إليك)، فمثلا: إذا تصدقت بمبلغ من المال، فسوف يرجع إليك أضعاف مضاعفة، أو لعلك تكرم ضعيف، فيرد ذلك خير وبركة على بيتك وأهلك، أو لعلك تقف بجوار فتاتين كما فعل موسى فيأتوك كي تتفضل معهم إلى المأوى والسكن، جرب هذا القانون، إنه قانون في الحياة كلها وليس في الخير فقط، كيف ذلك؟ على سبيل المثال: الدورة الدموية تبدأ من القلب حيث يضخ الدم ثم يرجع له مرة أخرى، وأيضا دورة المياه، ينزل المطر من السماء على الأرض فتتبخر وترجع لها مرة أخرى، فالخير الذي تفعله لابد وأن يُرَد إليك، اعملوا يا جماعة وضعوا موسى -نصير الضعفاء- نصب أعينكم وقدوة لكم، افعلوا مثل ما كان يفعل، وقولوا لأنفسكم سننصر الضعفاء.
    كيف جاءت الفتاة إلى موسى:
    ونكمل القصة، كيف جاءت الفتاة إلى موسى؟ وماذا حدث؟ أخذت الفتاتان الغنم ورجعا إلى أبوهم الذي تعجب من رجوعهم من سقي الغنم بسرعة؛ أنهما في الغالب يتأخران ويرجعان بعد ساعات طويلة وذلك لأنهم يسقون آخر ناس بعد الأقوياء، فسألهم الأب (وهو الشيخ الكبير): ما الذي عاد بكم بسرعة؟ فقالوا له: شاب عجيب في الثلاثين من عمره، لا يرتدي ملابس أهل البلد، ولكنه يرتدي ملابس المصريين، وقوي قوة غير عادية، ولقد رفع الصخرة بمفرده، شهم ولم يطلب أجر ما سقى لنا، ولم يتحدث معنا فقط سألنا ثم تولى إلى الظل. وكان لدى الشيخ الكبير (الأب) فِراسة شعر من خلالها أن هذا الإنسان لن يعوض، هذا بالإضافة إلى أن الشيخ ذاته لم يكن أقل شهامة من موسى، فإذا كان موسى أكرم الفتاتين، فالشيخ بعث إحدى ابنتيه ليدعو موسى ويكرمه مثل ما أكرمه.
    وصف حياء الفتاة:
    {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ }القصص25 . انظر إلى حلاوة القرآن وهو يصف حياء البنت، فكلمة الاستحياء مبالغة في الحياء، وهي من أجمل صفات المرأة، ولقد وصف الله تعالى الفتاة التي ستكون بعد ذلك زوجة موسى عليه السلام بأنها في منتهى الحياء، وتمشي على استحياء. فشبه الحياء بأنها سجادة مفروشة على الصحراء، وهي تمشي عليها، ومن الممكن أن يقول {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي...{ ثم يقف ويقول {...عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ... } فهي تمشي وتتحدث على استحياء والأرض مبسوطة حياء، ما هذا الجمال الذي في القرآن! فيا شباب، إياكم أن تتزوجوا بنت ليس عندها حياء، ولكن تزوجوا امرأة مثل التي تزوجها موسى، وإياكم! يا بنات أن تقولوا أريد أن أكون منفتحة وارتدي الملابس العارية حتى أسهل زواجي، إياكِ أن تفعلي هذا! أتعلمين ماذا يقولون الشباب بينهم وبين بعض؟ يقولون هذه البنت للعب، وهذه البنت للزواج، ويقولون هذه البنت مجرد تسلية، وهذه حيية تصلح للزواج. انظروا إلى حياء البنت، لم تقل له أدعوك على الطعام، ولكن بدأت حديثها بذكر أبيها:{... قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ...}القصص25.
    تصرف موسى عندما جاءته الفتاة:
    انظروا إلى تصرف النبي نحوها، كان من الممكن أن يقول لها بعنف: أنا آسف، لن آخذ أجرًا على شهامتي، ألا تعرفين من أنا؟ ولكن موسى ذهب معها، لأنه يتعامل مع وضعه الجديد بمرونة، فهو يعلم إنه لم يعد الأمير موسى، وفي الوقت نفسه راضِ بقضاء الله، فلما دخل موسى على الشيخ أخبره بكل شيء منذ كان طفلا {... فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ..}القصص25. وكيف تربى في قصر فرعون، وماذا فعل له فرعون، وكيف أنه أهان بني إسرائيل، وقصته مع الرجل الضعيف، وغيرها من القصص، فقال له الشيخ: {... قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص25. لم يكن موسى يحتاج فقط إلى السكن والطعام بل يحتاج أيضًا إلى الأمان؛ لأنه كان قلقًا، وعند خروجه من مصر لم يكن علم هل نجا أم لم ينج فدعا ربه أثناء خروجه {... رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص21. فاستجاب الله دعوته وطمأن قلبه وذلك عندما جلس مع الشيخ وحكى له كل شيء قال له الشيخ {.. لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }القصص25. يا جماعة ادعوا وتذللوا إلى الله وانصروا المظلوم، فالدعاء مستجاب.
    فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا:
    لاحظ أيضًا أن بين اليسر والعسر دقائق، وبين الكرب والفرج شبر واحد، كيف هذا؟ كان موسى من دقائق بلا مأوى ولا طعام ولا شرب ولا عائلة ولا أمان، وبعدها مباشرةً جاءت الفتاة وقالت له أن أبيها يدعوه للطعام ليجازيه على ما فعل، ثم اطمئن قلبه عندما قال له الشيخ أنه نجا من القوم الظالمين.{ فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا }الشرح5-6. وكذلك بين نجاة موسى وبني إسرائيل وهم أمام البحر وفرعون ورائهم وبين أن ينفتح البحر رمية عصا، وأيضًا بين أم موسى التي كانت خائفة على ابنها من الذبح وبين أنه يعود لها في حضنها نصف يوم فقط. فاجعل حسن ظنك بالله بأن مع العسر يسرًا، هل عندك هذه الثقة في الله؟ فلو كان العسر والكرب والشدة في صخرة محشورة داخل الجبل، لجاء اليسر بفضل الله وأخرجها، ربنا كريم وعند حسن ظن عباده، ولكن اظهر لربنا من نفسك التذلل والخشوع والدعاء.
    القوي الأمين:
    وتبدأ حياة جديدة.. من الكرب والهم والألم والتذلل إلى الله والدعاء إلى الفرج واليسر وذلك بنصرة ضعيف، ويعيش موسى من سن الثلاثين إلى الأربعين في هذا المكان، وبدأ يتقرب من الشيخ والعائلة، وأصبح الشيخ أنيسًا له، وبدأت المودة تزيد بينهم، وإذا بالفتاة الحيية والقوية تطرح فكرة لم يفكر أحد فيها - ولاحظ أن قليل من البنات لن يستطيعوا أن يجمعوا بين الصفتين. فإما أن تكون حييه، ولكنها منكسرة، ولا تعرف كيف تتماشى مع الحياة، أو أن تكون قوية وليس عندها أي حنان، ولكن هذه البنت تجمع بين الحياء والقوة والنضج والعقل-{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ...}القصص26. أي اجعله يعمل ويرعي الغنم. وقالت له{.. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ }القصص26 . فسألها الشيخ: كيف عرفتِ أنه القوي الأمين؟ فقالت: إنه قوي؛ لأنه رفع الصخرة بمفرده، ورأيت الأمانة في عينيه. يا جماعة، البنت تعرف أن هذا الرجل أمين عليها أو لا من عينيه. فهذه الفتاة تفهم الدنيا؛ لأنها جمعت صفات الموظف الكفء ( القوي الأمين). فعندما تبحث عن موظف لابد أن يكون لديه هذه الصفات، وهذه الصفات غالية جدا؛ فالقوي الأمين هو الذي ينصر ويعز الإسلام، يا ترى يا مسلمين هل لديكم هذه الصفات؟ للأسف إنهم قلّة... ترى هل من الممكن أن يقبل موسى ابن القصر بوظيفة رعي الغنم؟
    هل يرعى موسى الغنم؟
    الشيخ محرج أن يعرض على أمير مصر أن يعمل عندهم راعٍ للغنم بالأجرة، هل سيقبل العمل في هذه الصحراء الممتلئة بالعقارب والحيات؟ مذا تفعل لو كنت مكان موسى؟ هل ستقبل؟ فالشاب يقول الآن: أن أعيش في بطالة أفضل من أن أعمل في مثل هذه الوظيفة، فأنا متعلم تعليم عال ولن أقبل أي عمل إلا لو كان بمرتب عال. ولكن موسى تقبل هذا العمل، لماذا تقبله؟ قيمة العمل غالية جدًا، ولأنه شخصية مستعدة تتعامل مع الحياة في كل أوضاعها وحالاتها المرتفعة والمنخفضة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( آتاني جبريل وخيرني بين أن أكون ملكًا نبيا أم عبدًا نبيًا، فاخترت أن أكون عبدًا نبيًا، أجوع يومًا فأصبر، وأشبع يومًا فأشكر). فهذا هو حال الدنيا وجميع الأنبياء في هذه الحالة. فعندما تنقلب الدنيا عليك يظهر معدنك، ويظهر إذا كنت ساخط على ربنا أم أنك راضٍ وتصرفاتك تدل على ذلك، فما تصرفك يا موسى؟ إنه راضٍ بالذي كتبه الله، والدليل أنه قَبِلَ أن يكون راعي غنم.
    وَلِتُصْنَعَ عَلَى عيني :
    يقول تعالى:{.. وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }طه39. يا جماعة، نحن ندعي طوال شهر رمضان أن يرضى الله عنا، وينظر إلينا بعين الرضا ولو ساعة واحدة، فتخيلوا عُمر موسى كله يُصنع على عين الله، فماذا حدث؟ أخذ موسى خبرات رهيبة، عاش في ثلاث بيئات، عاش أول حياته في القصور، ثم عاش مع بني إسرائيل الضعفاء والفقراء، ثم عاش في وسط البدو والصحراء، فلم يكن موسى عنصري بل منفتح يتعايش مع جميع الجنسيات، لماذا نسيتم يا بني إسرائيل نبيكم؟ وكيف أخذتم هذه العنصرية؟ موسى الآن لديه ثلاث لغات: العبرية "لغة بني إسرائيل"، والهيروغليفية " لغة المصرين القدماء"، والعربية " لغة أهل مَدين"؛ لأنه عاش واندمج في وسط العرب عشر سنوات. وجعله الله يعيش في الصحراء؛ لأنه سيعيش مع بني إسرائيل خمسة عشر سنة، و بني إسرائيل لابد أن يجدوا قائدًا غير متردد في معرفة الصحراء، فإذا شَكوا لحظة أنه غير قادر على أن يقودهم تركوه مباشرةً، فأنت الآن يا موسى أصبحت خبير في الصحراء أكثر منهم. وأراد الله له أيضًا أن يعيش مثل أي مواطن، يعيش مع الضعفاء والمساكين، فإذا استمر موسى ابن القصر لن يستطيع أن يقود بني إسرائيل، ولكن الله جعله يتعب ويشقى؛ لأن كل هذا يجعله خبير في الحياة.
    شيء آخر: الصحراء، والسماء، والسكون، فالصحراء ساكنة ولا يوجد فيها غير حركة الماعز البطيئة، وهو كان يعيش مع فرعون في ضوضاء المدينة.
    عبادة التفكر:
    فيتجه موسى إلى نوع جديد من العبادة "عبادة التفكر"، وللأسف كثير من الناس محرومين من هذه العبادة، يا أهل الخليج ، اخرجوا إلى البر، يا أهل مصر اخرجوا بعيدًا عن ضوضاء المدينة، تفكروا في خلق الله، هذه العبادة أخذت عشر سنوات من موسى كي يكون نبيًا، وأخذت كذلك عشر سنوات من محمد في غار حراء كي يكون نبيا، أحيانا يا جماعة تفكر ساعة خيرٌمن عبادة سنة، فهذه العبادة تؤهل الأنبياء أن يكونوا أنبياء. فاعبدوا الله بهذه العبادة "عبادة التفكر والخشوع ". فماذا تعلم موسى في مصر؟ تعلم الحياة العملية، والعلم، وحياة القصور، وعدم الخوف من فرعون، والبروتوكولات. وماذا تعلم في الصحراء " مدين"؟ تعلم الذل، والتفكر، والهدوء النفسي. كل هذا يجسده الله في آية واحدة {... وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }طه39. يا جماعة، أنا مشتاق لمقابلة موسى، ولقد شعرت به جدًا أثناء تحضيري لهذا البرنامج، وأحبه لأني أحب القرآن، ولقد كان الصحابة يحبونه ويستشهدون بكلامه في كثير من المواضيع، وعندما خاف محمد صلى الله عليه وسلم من أن يقول الناس أن محمد نبينا، وموسى ليس نبينا، فقال: (لا تفضلوني على موسى). وقال: (لا تفضلوني على موسى، فإن الناسَ يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق،فأجد موسى باطِشًا بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى اللـه؟). ما أجمل مقام موسى، وما أحسن تواضعك يا رسول الله، عندما تقول لا تفضلوني عن موسى ونحن نعلم أنك خير خلق الله.
    زواج موسى:
    وعرض الأب" الشيخ الكبير" على موسى أن يعمل معه "راعي غنم" لمدة عشر سنوات، وكان الأب حساس وذكي، فرأى ابنته الحيي تتحدث عن موسى بالمدح " القوي الأمين"، إنه الأب الصديق الذي يشعر باحتياجات ابنته، والذي شعر بإعجاب ابنته نحو موسى عندما ظهرت له بعض الكلمات الرقيقة، المؤدبة، النظيفة بإعجابها بهذا الشاب، ففكر الأب في فكرة، لماذا لا يُزوج موسى ابنته؟ ما أجمل إحساس هذا الأب بابنته. يا آباء، هل تشعرون ببناتكم؟ ابنتك كبرت ولم تعد طفلة فاشعر بها، المهم أن الأب عرض على موسى فكرة الزواج {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ... }القصص27. ويوافق موسى على الزواج، كم يبلغ الآن عمر موسى؟ ثلاثون عاما، هل ظل موسى بلا زواج حتى هذا السن؟ أتريد تقنعني أن أمير مصر ابن فرعون لم يتزوج حتى الآن؟! جميع أمراء مصر يتزوجون في سن السابعة عشر والثامنة عشر، وجميع بنات مصر تتمناه، فلماذا لم يتزوج حتى الآن؟! لأن التكافؤ مهم والبنت المصرية لن تتكافأ معه؛ لأنه من بني إسرائيل، خذوا بالكم يا بنات أهم شيء التكافؤ حتى لو كانت البنت المصرية مؤمنة، ولكن كان هناك فرق اجتماعي بين بني إسرائيل والمصريين. ولماذا لم يتزوج من بني إسرائيل؟ لأن فرعون سيقهره، فيتزوج موسى بنت عربية، وضع تحت كلمة عربية مائة خط، ف موسى لم يكن عنصري أبدًا.
    الحكمة من رعي الغنم:
    وبدأ موسى عمله في رعي الغنم، يقول محمد صلى الله عليه وسلم ما بعث الله عز وجل نبيا إلا راعي غنم قالوا ولا أنت يا رسول الله قال وأنا كنت أرعى لأهل مكة بالقراريط). لماذا اختار الله له أن يعمل " راعي غنم" ؟ لأن هذا كفيل بأن يعلمه الصبر، وهو لابد وأن يصبر على بني إسرائيل، ويتعلم الحلم وعدم العجلة، ف موسى إلى الآن في عجلة حتى يكون نبي الله، ومن أولي العزم من الرسل الصابرين، فيجب أن يرعي الغنم لتزول هذه العَجلة، وليتعلم الصبر والتفكر والحكمة. وبدأت العصا " عصا الغنم" تظهر في حياة موسى، وهو لا يدري أن هذه العصا سيصنع بها الله معجزات عظيمة، فعندما صبر على العصا من أجل الغنم، جعل الله له هذه العصا بصبره وإخلاصه سبب في عزّة ونصر كبيرة، فمن الذي أهدى ل موسى العصا؟ زوجته؛ لأنها هي الذي علمته رعي الغنم.
    إذا عرضك الله سبحانه وتعالى لموضوع فيه صبر ومشقه ماذا تفعل؟ هل ستصبر أم لن تطيق وستمل؟ لو تعرضت لأي اختبار اصبر وسترى كيف يرفعك الله كما فعل مع موسى، ف موسى رعى الغنم عشرة أعوام، فأين هوالآن؟ منزلته في السماء السادسة. كان موسى عليه السلام يقول عن عصاه: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي... }طه18. وسبحان الله نبي يرعى الغنم عشر سنين يا له من تعب ويا لها من مشقة، كم تعب الأنبياء، كم شاهدوا وخبروا في هذه الدنيا حتى يستطيعوا أن يقودوا أممًا، إذا أردت أن تفعل شيئًا للإسلام تحمل المشقة والتعب، واحتك بالناس، وتعلم أشياء كثيرة لكي تكون رجل يستطيع أن يرفع ويعز الإسلام.
    الرضا بقضاء الله:
    ويعيش موسى في مدين في بيت صغير عبارة عن خيمة من الخيش "بيت الرعاة"، وهو بيت بسيط جدًا، يعيش في مثله الرعاة الحاليين، فالأمير موسى الذي كان يسكن في قصر فرعون بمصر والتي كانت أم الحضارة وتقود العالم يعيش الآن في خيمة الرعاة! ما الذي نتعلمه من هذا الموقف؟ نتعلم أن الدنيا ليست سهلة، ترتفع وتنخفض، فعندما تنخفض بك، ارض بقضاء الله، وعندما ترتفع بك اشكر الله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). فإذا الدنيا انقلبت عليك إياك والسخط، وإياك وقول أنك راض وأنت في حقيقة أمرك غاضب وغير راضٍ، ارض وكن مرن مثل موسى الذي تعامل بقضاء الله بمنتهى الرضا، فبالأمس كان الأمير موسى واليوم أصبح موسى راعي الغنم، ما أجمل رضاك بالله ! بعد هذه الحلقة أنا راضٍ عن ربنا برضا موسى عليه السلام عن ربنا.



    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

  10. #10
    -


    تاريخ التسجيل
    06 2005
    المشاركات
    34,989
    المشاركات
    34,989
    Blog Entries
    78


    يتبع



    هكذا هم الغرباء يأتون ويرحلون بـصمت ..!

صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)

     

المواضيع المتشابهه

  1. جلسه مع شاعر (( الحلقه الرابعه ))
    بواسطة عبدالمجيد الشمري في المنتدى مضيف ا لشّعر الشعبي"النّبطي"
    مشاركات: 43
    آخر مشاركة: 25-08-2009, 19:51
  2. رد: برنامج القوارير ::: الشيخ محمد العريفي (الحلقه الرابعه)
    بواسطة &^^مهــــا^^& في المنتدى المنتدى الاسلامي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 07-07-2009, 11:34
  3. رد: برنامج القوارير ::: الشيخ محمد العريفي (الحلقه الرابعه)
    بواسطة &^^مهــــا^^& في المنتدى مضيف آدم وحواء
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-07-2009, 16:22
  4. هيئة الدفاع عن عمرو خالد : ترد على كلام الشيخ محمد حسان الموجه لعمرو خالد
    بواسطة محمد نجاتي في المنتدى مضيف المشاركات المنقولة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 13-06-2009, 21:11
  5. يوميات الفاضي (((الحلقه الرابعه)))
    بواسطة الفاضي في المنتدى مضيف فلّة الحجاج
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 01-10-2002, 22:31

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع ما يطرح بالمضايف يعبر عن وجهة نظر صاحبه وعلى مسؤوليته ولا يعبر بالضرورة عن رأي رسمي لإدارة شبكة شمر أو مضايفها
تحذير : استنادا لنظام مكافحة الجرائم المعلوماتية بالمملكة العربية السعودية, يجرم كل من يحاول العبث بأي طريقة كانت في هذا الموقع أو محتوياته