الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد000
وقعت احداث هذه القصة في زمن الشيخ عبد العزيز بن عنيزان بن عبدا لله الدوح أحد أبرز شيوخ عبده المشهورين وأمراء الحسين المعروفين، الذي له ثقله ومكانته في موازنة المعادلات ،و تغيير المسارات ، بشجاعته حسمت الكثير من المعارك ، وبحكمته تجاوز الكثير من التحديات ، ونزع فتيل كثير من الفتن التي كادت أن تعصف بأبناء عشيرته ، وبحلمه وبعد نظره، وعلو همته تجاوزت عشيرة الحسين شرور محدقة ، ومنعطفات خطيرة ، فكما لا يخفى على الجميع أن الحسين من الدغيرات قد حباهم الله شرف إجارة الجاني (إدخال الدخيل ) ومنع أعدائه من الوصول إليه ، حتى يتخذ في حقه إجراءات معينه ومعروفة للبادية في ذالك الوقت، تضمن له محاكمة عادلة، وفق عادات التقاضي إلى العوارف، أو المحاكم الشرعية في عهد الإمارة الرشيدة فيما بعد، حتى لقبوا (بحسين المجلا)، وأول من وضعهم مجلا لشمـــر هو شيخ مشايخ شمر الجربا من اجل أنه إذا( جلا) الشمري من أهله لا يذهب إلى الأجناب و(يجلي) عند أبناء عمومته من شمر ، فذاع صيتهم في القبائل العربية الأخرى ، فكان كل من ضيم من قومه ، أو نشب في ورطة مع أقاربه يلجأ اليهم ، وكان اختيار الحسين بالذات لكونهم أصحاب قوة ومنعة، ولشدة بأسهم في القتال ، كما أن فيهم حكمة وحلما ، ورجاحة في العقل ، ورحما ظاهرا، وترابطا قويا، واحتراما متبادلا ، ولقد كان لهذا التكليف أثاره الكثيرة منها استشعار الحسين لهذه المسؤولية الملقاة على عاتقهم، حيث تحملوا جراء ذلك المصاعب الكبيرة والمشاق الكثيرة ، كما أن هذا التكليف جعلهم يتمتعون بحصانة خاصة لاتتوافر لغيرهم من أبناء عشائر شمر الأخرى، هذه الحصانة تتمثل في أن من( يجلي) إليهم من شمر لايسلم مهما كلف الأمر حتى يتهيأ لهذا الجاني محاكمة نزيهة وحيادية ، وفق المحاكمات العرفية السائدة في ذالك الوقت ، مما هيأ ارضية خصبة باستقلالية (الحسين) التامة ، وعدم رضوخهم لأي ضغوط تمارس ضدهم من أي شخص كان بحكم قوتهم ، ولهذا فانه من ذالك الحين أصبح الحسين كيانا مستقلا عن بقية عشائر الدغيرات الأخرى الذين تشملهم مشيخة ابن سعيد ، والوقائع التاريخية التي تبرهن على ذلك أكثر من أن تحصر ، وسأقتصر على سرد الرواية التي تخص الشخصية التي نحن في صدد ترجمتها، كان الشيخ عبدا لعزيز الدوح (أخو نوف) في بيته ، يسامر بعض جماعته كما جرت العادة في (قهوته) إذ جاءه رجل فسلم عليهم وقال " أنا داخلن عليك يالدوح" فهب الرجال وقوفا وقالوا : " ابشر بسعدك، سلمت" وطلبوا منه الجلوس فجلس ، وبعدما تناول القهوة ، سألوه عن اسمه وسبب لجوئه اليهم؟! فأخبرهم انه (ابن مخزوم) من الخمسان من سنجارة ، وقيل أنهم يعرفونه قبل ذلك، وأخبرهم انه حصل خلاف بينه وبعض بني عمومته وأصاب فيهم جناية( لا أدري أهو قتل أو إصابة بالغة)، فطمأنوه أنه بحمايتهم ولن يجرأ أحد على النيل منه ، وطلبوا منه أن ينام في ضيافة الشيخ عبد العزيز الدوح قرير العين ودعوا الله أن ييسر الأمور ، وفي الصباح اجتمع القوم في بيت الدوح باكرا حيث إن الخبر تفشى في (العرب) ليلا ، وبينما هم في اجتماعهم إذ جاء رجال الأمير عبدالله الرشيد وسلموا فتم الترحيب بهم واستقبالهم ، فقالوا" يالدوح الأمير يسلم عليك ويطلب منك ان تسلم الجاني اللي دخل على عربكم البارح" فقال الدوح " هذا دخيل !! " فقالوا" الأمير يقول لاتجون إلا وهو معكم 00هذا جاني ولازم تسلمونه لينال عقابه"
فقال" حنا مانسلم دخيلنا ، والجميع يعرف هالشي 00 ولكن يروح معكم بعض الربع الحين00 وأنا باكر إن شاء الله أواجه الأمير وما يصير إلا الخير00" خرج رجال ابن رشيد وبرفقتهم بعض رجال الحسين كدليل لحسن النية، وعدم العصيان ، حتى إيجاد حل لهذه الأزمة ، وفور وصولهم تم اعتقالهم، وفي الصباح خرج الدوح الى لقاء الأمير على( ذلول) كان الأمير عبد الله الرشيد قد أهداه له في السابق ،
وعند وصولة قصر برزان وهويتكون من ثلاثة طوابق، وتتوزع في الطابق الأرضي كل من المجالس وصالونات الاستقبال والحدائق إضافة إلى المطابخ، وفي الطابق الثاني غرف ضيوف الدولة، وفي الطابق الثالث تسكن الأسرة الحاكمة، وفور وصوله إلى المضيف بادره الأمير بقوله " يعني صايرن وجهك أوسع من وجهنا يالدوح!!" حاول الدوح أن يتلطف مع الأمير ويبين له موقف العشيره ، وأن هذا دخيل بيوتهم وان الحسين لايمكن ان يسلموا من لجأ إليهم ،وأن هذا من الثوابت والمبادي الاجتماعية عند العرب التي لايمكن التنازل عنها بأي حال من الأحوال، وبين له أنه منذ أن جعلهم الجربا (مجلى) وهم ملتزمون به، وان اللجوء اليهم يحصل على كره منهم ، و أن هذا الأمر قد أثقل كاهلهم وسبب لهم كثيرا من المشاكل، وان كان الأمير يرى أن هذا الأمر يزعجه فلينهيه بإصدار أمر بإلغاء هذا القانون الذي أحرج عشيرته ، حتى يكون الناس على بينه من أمرهم فلا يقدم أحد على اللجوء إليهم في زمن حكم الرشيد ، فما كان من الأمير إلا أن نفض جيبه وقال" هاذي عباة ألبسكم إياها الجربا 00 ولا لي حظ إن رفعتها 000 وأما الجاني اللي عندكم تسلمونه00 كانه بوجهك فانا كل نجد بوجهي ووجهك ماهو أوسع من وجهي يالدوح 00 هذا جاني ولازم تسلمونه 00ورجالكم عندنا حتى تسلمون ابن مخزوم 00وان ما سلمتوه ترانا ناخذه بالقوة00 " فلما رأى الدوح انه لافائده من التلطف قاله " اسمع ياخو نوره ابن مخزوم دخيلنا00 ونجوم السما اقرب لك منه00والله ما يسلم ابن مخزوم لو يذبح الحسين كلهم دون دخيلهم" فغضب ابن رشيد وأغلظ في العبارة ، وخرج الدوح من المضيف ويقال ان ابن رشيد خرج من المضيف ، وضرب بسيفه ذنب ذلول الدوح فبتره، وقال الدوح " خابرن انك مهديه لي " فطعنها في لبتها فنحرها وغادر المكان ، فلما وصل الى جماعته أطلعهم على ما دار بينه وبين الأمير، وتشاور مع جماعته ، وبقي القوم يتشاورون ، وذاع هذا الأمر بين عشائر شمر ، وهم يرقبون كيف يتعامل الحسين مع أول حكام الدولة الرشيدية، وكيف يتصرفون في حل هذه المعضلة ، وهل سيتمسكون بموقفهم بعدم التسليم ، أم أنهم يذعنون لهذا الحاكم خوفا من بطشه، وما هي تداعيات عدم التسليم ، وبعد التشاور تم اتخاذ القرار القاطع برحيلهم من المنطقة التي تخضع لسيطرة ابن رشيد إلى ابن سعدون الأشقر شيخ قبائل المنتفق في العراق ، في هذه الأثناء،وبينما كان جميع رجالات الحسين في اجتماعهم في بيت الدوح، اذ وقف في وسطهم غلام، يقال انه ابن دايس الهقاز، وقيل انه من أخوته الصغار،وارتجل قصيدة يشجع فيها قومه على عدم التسليم ،والرحيل من نجد، من أجل المحافظة على دخيلهم، خصوصا وأنه كان هناك من ضعاف النفوس مثبطين يرون انه لاطاقة للحسين بابن رشيد وجنوده،الا ان التاريخ لم يحفظ لنا من القصيدة إلا القليل، جهر الغلام بأعلى صوته في جموع الحسين المحتشده قائلا: :
يالـــًدوح واقلبي غشيشن مطنًـــا ** الله يفكك من طعونن هـــون فيه
يالـــًدوح واضاري نجدن محنًــــــا ** محن الحريم اللي عليهن دناويه
من عقب ماحنًـا زبون المجنا ** واليــــــوم دخيل بيوتنا مانلفيـــه
اللي عمل به مقحم صار حنًا ** واللي عملنابه من الطيب ناسيه
سيـروا يعل ركابكم يعدمنًـــــا ** والاَ كمـــا سرج تكصم براعيه
إلى آخر القصيدة، وبالفعل رحل الحسين جميعا الى ابن سعدون ، ولما علم ابن الرشيد برحيلهم ، أمر بإطلاق سراح رجال الحسين المعتقلين، وأرسل إلى الدوح من يخبره أن الأمير يحترم موقفهم، وأنه آلمه رحيلهم، فهم أبناء العم والعشيره، وأنه لن يفرط فيهم، وطالبه بالرجوع والعدول عن قرار الرحيل، وأن لهم مايريدون، لقد عرف الأمير عبد الله الرشيد برجاحة العقل وحسن السياسة ، ولم يكن بمصلحة إمارة حائل أن تتخلى عن جمع غفير من الفرسان الذين هو في أمس الحاجة إليهم في وقت تدعيم أركان الحكم وتوطيد دعائمة ، لقد كان الأمير عبدا لله ابن رشيد من الأفراد القلائل المقدمين في الناس بعقلهم وشجاعتهم وإحسانهم وعدلهم ، تولى أمارة حائل وتربع على أمارتها بعد انقلابه على أبناء عمومته العلي بمساعدة الأمير فيصل ابن تركي آل سعود ، وذالك كمكافأة له على مساعدته إياه في الانقلاب على ابن عمه الأمير مشاري بن عبد الرحمن ال سعود، في ظروف مليئة بالفتن والاضطراب، ولقد اظهر عبد الله الرشيد في ادارة حائل كفائة ممتازه نادره، وتوفي رحمه الله سنة1263هـ 0
ومن تداعيات هذه الأزمة أن الشيخ مقحم التمياط الذي ورد اسمه في قصيدة الهقاز تزامن قيامه بإهداء أربعة من الخيل الى ابن الرشيد كعربون للخضوع والولاء له، بعد أن ناصبه العداء قبل ذلك ، فلما ذاعت قصيدة الهقاز في أصقاع امارة حائل وتناقلها الناس خشي مقحم التمياط ان تفسد هذه القصيدة عليه أمره ويقال انه دعا الله على الغلام فهلك من عامه،وأختلف الناس في المقصود بقول الهقاز في القصيده:
اللي عمل به مقحم صار حنًا ** واللي عملنابه من الطيب ناسيه
وهي معركة حاسمة دارت رحاها بين ابن الرشيد عقب قيامه بتسلم مقاليد الحكم من جهة ومقحم التمياط ونعيس الطواله من جهة أخرى حيث قام التمياط وابن طواله بمحاصرة حائل وإحكام الطوق وقطع الإمداد فاستنجد ابن الرشيد بالدغيرات فهبوا لنجدته من خلف الطوق وباغتهم ابن الرشيد من داخله فدارت معركة قوية ، سقط فيها الشيخ نعيس الطوالة ، وفرالتمياط، وحسمت المعركة لصالح ابن الرشيد ، وكان نعيس الطواله من دهاة شمر وفرسانهم ، جمع بين حسن النية وسلامة الطويه ،وعلو الهمة وبعد النظر، وبعد سقوطه نزل عليه عبيد الرشيد لقتله فنهاه أخوه عبدالله الرشيد وقال "لا 00لا00ياعبيد 00هذا الشيخ نعيس اذا مالت بك الدنيا هو سندك" فعاملوه بكل احترام وتقدير، فالهقاز يذكـّر ابن الرشيد بوقوف الدغيرات عموما والحسين خصوصا الى جانبه في هذه المعركة الحاسمة، بينما هو اليوم يمارس عليهم ضغوطا بتسليم( دخيلهم) في الوقت الذي يتبادل فيه الهدايا مع من كان يستنصرهم ويستصرخهم عليه بالامس، وقيل في معنى البيت غير ذلك0
وكان سبب رحيلهم إلى ابن سعدون أنه كان لعبد العزيز الدوح صداقة قديمة معه ، ونسبا ، وسبق أن أقام الدوح عنده فترة من الزمن ، إلى أن توالت الهجمات والغارات على شمر من قبل قبيلة عنزة أيام العواجيه فأخذ شيوخ شمر وفرسانها وشعرائها يرسلون إليه لمشاركتهم التصدي لهذه الغزوات ، حتى وصل الأمر إلى لمزه و( هزبه) من قبل شاعر شمرالشهير ووزير أعلامهم- ان صح التعبير - في ذالك الوقت مبيريك التبيناوي في قصيدة ضفره الشهيرة حيث جاء في القصيدة:
وين أنت يأخـو نـوف يـوم الزحامـي يوم الدخن غادي علينا تقـل سيـب
غدابـك اللـي كـل حكيـه ولامـي جار لهم تدعى على الـزاد وتجيـب
كان انت مطلـوب وعليكـم تهامـي إلحق وندّي عنـك كـل المطاليـب
و بعد أن جاء رسول ابن رشيد إلى الدوح أطلع قومه على ما جاء من ابن الرشيد، وقال" ارجعو إلى ابن الرشيد وراجعوه ،اما انا والله طايبة نفسي ، وهذا اخوي فهاد معكم " وتوادعوا وذهب الدوح إلى ابن سعدون ومعه (ابن مخزوم) بعض العجزة والضعفاء ، ورجع بقية القوم الى نجد0
وشكرا لكم على القراءة000000
المفضلات