بـعوضٌ فــي الــمدينةِ
مثقلا بالـوَهَنِ و الصمتِ وَقَـــف "العُبَــــيْدي" بإعيــاءٍ أمــامَ مرآته ، ككل يــومٍ يعــاينُ آثــارَ مرضٍ جَــديدٍ و ذُبولٍ يَشتَـدُّ ، يسـأل واقفًا أمـــامَه :" مــتى ينتهي كل هذا ؟" لـم يـُـجِــبْهُ بـل واصَـلَ معايـــنةَ شحوبٍ يـــزدادُ زحفًا عــلى وجـــهٍ هزيلٍ .. اقترب من النافذة الصغيرة الوحيدة فـي غرفته مطاردًا لشعاعِ شـمــــسٍ بسيط يدخل بـمشقـــــــة إليها فانــتبهَ إلـى عبوة مبيدِ الـحشراتِ فتـــذكَّر أنه استوفاها البارحةَ فـي مـعركةٍ فاشلةٍ مع البعوض .. انكسرت جَبــهاتُه أمامَ زحفٍ لا قِبَلَ له بـــه .. آثرَ بعدها طلبَ الصلح مقابل التنازل عن دَمِهِ ، و اعتبــرَ نفسَــه منتصِرًا .. ذراعـــــاه و رقبته شهوده ، بعــوضٌ حقيرٌ لكنه امتصَّ دِمــــاءَه .. كل ليلةً يــتنــــادى إلــى وليمةٍ عـلى جسده ، و كل ليلة تنكسرُ مقاومــــتُه أمام جحافله ، أحيانا تـحــدِّثُ "العُبَـــــــيْدي" نفسُه أنـه قد اســتأثَرَ بِبَـعوضِ البـلادِ و أن الباقين لابــد قد أرَّقهم غيابُه عنـــهم و خشِـــيَ أن يُشتَكَى فـــي الـمحاكم ، يصــبح امتصاصُ البعوضِ لدمِكَ كالإدمان لا تستطـيع عنه صبرًا .. تـماما مثلما يصـبح استنشاقُ الـــهواءِ النقيِّ هو الــذي يرهِــقُ رِئــــاتِنا .. تنـاهى إلــى مَسمَعِهِ طنـينٌ يعرِفه جيدًا .. عجـبًـا ألـم يكفِهِ ما نـال مِـنِّـي البارحةَ ؟.. هكذا سأل نفسه مــتوَجِّعًا .. كانت تُـحلِّق بـمــــفردِها لا تكاد تَــبــينُ ، تســــاءَلَ جادًّا : أي فــائدةٍ فــــي خلقِ البعوضِ؟ و مـا فـائـــدةُ جهـــازِها البَصري و الـهضمي و.. التــناسُلي ..؟ ثـــم سرعانَ مــا تراجع مستغفِرًا ..
اقتربت البــعوضةُ كثيرًا و ارتفعَ طنـــــينُها حتى أصبــحَ أشبهَ بهديرِ طائرةٍ ، هشَّ بيدَيْهِ حـتى دونَ أن يُـحدِّدَ مكانَها لكنه أَحسَّ بوخزةٍ حادةٍ فـي قَفاه فأسرعَت يدُه إلى هنالكَ فـي حينِ ارتفعَ صوتُـهُ باللعنةِ .. وخزةٌ أخرى فـي ذراعِِـــه و هذه ثالثــةٌ فـي رجـــلِهِ .. تسارعَت كفَّــــاه تَتــبِعان البعوضةَ على كامِلِ جَسدِه .. استبدَّ بِــهِ الألـمُ و نظرَ إلــــى نفسِه في الـمرآة فرأى جثــةً ..
لـمح وراءَه البعــوضةَ و قد انتفـــخت قليلا فتملكَهُ الـخوفُ ..ربـــــاه كيفَ صار حجمُها كبيرًا ؟ و لكـــنَّ مصيـــبةَ" العُبَـيْــدي" لـم تَـكُن إلا فــي بدايــــتِها فقــد كانـــت البعوضةُ كلــما امتصت قليلا من دمِه ازداد تضــخُّمُ حجـــــمِها .. حــتى أصبَحَت بِـحـجمِ قطٍ لـم يَعُد قادرًا على مدِّ يَدَيْهِ حـتى لـحمايةِ وجهِهِ .. تثـاقَلَت حركاتُه.. وقعــت البعــــــوضةُ الـمُثقَلَةُ على كَتِفَيه و واصلت إيذاءه، أخذَ يتـرنَّحُ فلم يعد يستــطيعُ تـحمُّلَ كل ذلــــك الألـمِ ، حــــاولَ الانتفــاضَ و الاهتزازَ حتَّى يتـخلَّصَ من الثِّقَلِ فإذا بـها تزدادُ تشبثًا به .. أراد أن يصيحَ مستنجِدًا و لكن لـم تصدر عنه سوى همهماتٍ خاويةٍ ، أراد َ التراجُعَ بـحــدَّةٍ على الـــجِدارِ ليهرُسَـها لكنَّ الـخبيثةَ تـحولت إلـى الأمام و جثمت على صدرِه فأصـبحَ يتـــنفَّسُ بعُــسرٍ شديدٍ ، وبدأت همهماتُه تـخــفُتُ تدريـــجيًّا و البعوضةُ اللعينةُ لا تـزالُ تتـــضخَّمُ و تزحفُ على جسدِهِ و أحسَّ بقوائِمِها تُطبِقُ ضاغطةً على رقبتِهِ بـحقدٍٍ غريبٍ ، ثمَّ أوقعت أجنحـتَها على فــمِهِ فلم يعُد قـادراً حتى على الصُّراخِ و على عينَــيهِ فمــنعَته مــن الرؤيةِ و على أذنَيْهِ فلم يَعُد يسمَع .. ثم وَقَــعَ عــلى الأرض و لـم يَصدُر عـنه صوتٌ ..
فــي تلك الليلةِ غادَرَ البعوضُ مكامِنَه بـحثًــا عن ولائمَ كـــعادتِهِ .. طال بـــحثُه فــي الأزقةِ و الدورِ و حتى القصورِ و لكن دونَ جدوى .. كان البعوضُ الـمتضخِّمُ قد استنفد مــا فـي الأنـحاءِ من بشرٍ ..
فيـصل الـــــزوايــدي
المفضلات