[align=CENTER][table1="width:85%;background-color:black;border:2px outset burlywood;"][cell="filter:;"][align=center]
*
*
لم يختلف الناس على رجل كما اختلف آراؤهم فيه.. تغالي البعض في تقديره حتى زعم أنه أوتى الحكمة وأنه يتلقى علمه عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يشبه الرؤيا أو الرؤية!
واشتط الآخرون في كراهيته، حتى لقد اتهموه بالمروق عن الدين، وبالإلحاد والزندقة، وباستيراد المبادئ الهدامة من الديانات الوثنية ومن عباد النار ..
وأعمى العداء آخرين، فأذاعوا عنه أنه مجوسي مدسوس على الإسلام ليحدث خرقا في الإسلام!!
كان هذا التطرف في الأحكام المتناقضة هو طابع العصر الذي عاش فيه ، وهو في الوقت نفسه نتيجة سلوك الشيخ وسيرته واقتحاماته الفكرية الجسور ..
ذلك أنه كان يدعو إلي الأخذ بالرأي لا يبالي في رأيه بأحد .. فقد كان عارفا بأحوال الحياة، مستوعبا كل ثقافة من سبقوه ومن عاصروه، خبيرا بالرجال، شديدا على أهل الباطل، مرير السخرية بالمزيفين، لاذعا مع المنافقين من متعاطي الفقه والعلم والثقافة في عصره ..
وهو عصر غريب حقا .. عصر ملئ بالتطرفات .. هو ذلك العصر الباهر من الفتوحات والثراء الفكري .. عصر الأئمة العظام: محمد الباقر وزيد بن علي وجعفر الصادق ومالك بن أنس والليث بن سعد ..
وهو في الوقت نفسه عصر الصعاليك الكبار، والمنافقين والمزيفين..!! عصر عامر بالبطولات والأحلام والخطر والغنى الروحي والاقتحام والمتاع..!! عصر يدوي على الرغم من كل شيء بأصداء المأساة، تفعمه الأحزان، ملتهب بالأشواق إلي العدل وبالحنين إلي الرحمة والصدق والإحسان وبالشجن! ..
ولد بالكوفة سنة 80 هـ من أسرة فارسية، وسمي تيمنا بأحد ملوك الفرس ..
من أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل .. حاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبا عربيا .. ولكنه كان لا يحفل بهذا كله فقد كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين الجميع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم احتضن سلمان الفارسي وبلالا الحبشي، وكانا من خيرة الصحابة حتى لقد كان الرسول يقول "سلمان منا أهل البيت" وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن بلال: "سيدنا بلال".
وكان أبوه تاجرا كبيرا فعمل معه وهو صبي، وأخذ يختلف إلي السوق ويحاور التجار الكبار ليتعلم أصول التجارة وأسرارها، حتى لفت نظر أحد الفقهاء فنصحه أن يختلف إلي العلماء فقال : "إني قليل الاختلاف إليهم" فقال له الفقيه الكبير: "عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وفطنة". ومنذ ذلك اليوم وهب الفتى نفسه للعلم، واتصل بالعلماء ولم تنقطع تلك الصلة حتى آخر يوم في حياته .. ولكم عانى وعانى منه الآخرون في هذا الميدان الجديد الذي استنفر كل مواهبه وذكائه وبراعته!!
وانطلق الفتى الأسمر الطويل النحيل بحلة فاخرة، يسبقه عطره، ويدفعه الظمأ إلي المعرفة، يرتاد حلقات العلماء في مسجد الكوفة .. وكأن بعضها يتدارس أصول العقائد (علم الكلام)، وبعضها للأحاديث النبوية، وبعضها للفقه وأكثرها للقرآن الكريم ..
ثم مضى ينشد العلم في حلقات البصرة. وبهرته حلقة علماء الكلام، لما كان يثور فيها من جدل مستعر يرضي فتوته. ولزم أهل الكلام زمنا ثم عدل عنهم إلي الحلقات الأخرى ..
فقد اكتشف عندما نضج أن السلف كانوا أعلم بأصول العقائد ولم يجادلوا فيها، فلا خير في هذا الجدل.
ومن الخير أن يهتم بالتفقه في القرآن الكريم والحديث. وانتهت به رحلاته بين البصرة والكوفة إلي العودة إلي موطنه بالكوفة، وإلي الاستقرار في حلقات الفقه، لمواجهة الأقضية الحديثة التي استحدثت في عصره، ولدراسة طرائق استنباط الأحكام
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو مثله الأعلى في التجارة: حسن التعامل، والتقوى، والربح المعقول الذي يدفع شبهة الربا ..
جاءته امرأة تبيع له ثوبا من الحرير وطلبت ثمنا له مائة .. وعندما فحص الثوب قال لها "هو خير من ذلك" فزادت مائة .. ثم زادت حتى طلبت أربعمائة فقال لها: "هو خير من ذلك" فقالت: أتهزأ بي؟ فقال لها: "هاتي رجلا يقومه" فجاءت برجل فقومه بخمسمائة ..
وأرادت امرأة أخرى أن تشتري منه ثوبا فقال: "خذيه بأربعة دراهم" فقالت له: "لا تسخر مني وأنا عجوز" فقال لها "إني اشتريت ثوبين فبعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فبقى هذا الثوب على أربعة دراهم".
وذهب إلي حلقة العلم يوما، وترك شريكه في المتجر، وأعلمه أن ثوبا معينا من الحرير به عيب خفي، وأن عليه أن يوضح العيب! .. وظل يبحث عن المشتري ليدله على العيب، ويريد إليه بعض الثمن، ولكنه لم يجده، فتصدق بثمن الثوب كله، وانفصل عن شريكه ..
بهذا الحرص كان يتعامل في تجارته مع الناس، وفي فهمه للنصوص، وفي استنباطه للقواعد والأحكام .. وعلى الرغم من أنه كان يكسب أرباحا طائلة، فقد كان لا يكنز المال .. فهو ينفق أمواله على الفقراء من أصدقائه وتلاميذه.ويحتفظ بما يكفيه لنفقة عام ويوزع الباقي على الفقراء والمعسرين
وكان على ورعه وتقواه واسع الأفق مع المخطئين .. كان له جار يسكر في الليل ويرفع عقيرته بالغناء:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وكان صوت الجار يفسد الليل على أبي حنيفة .. حتى إذا كانت ليلة سكت فيها صوت الجار السكير، فلما أصبح سأل عنه فعلم أنه في السجن متهما بالسكر .. وركب أبو حنيفة إلي الوالي فأطلق سراح السكير. وعندما عادا معا سأله أبو حنيفة "يا فتى هل أضعناك؟" فقال له "بل حفظتني رعاك الله". ومازال به أبو حنيفة حتى أقلع عن الخمر. وأصبح من رواد حلقات العلم ثم تفقه وصار من فقهاء الكوفة.
وكان يدعو أصحابه إلي الاهتمام بمظهرهم .. وكان إذا قام للصلاة لبس أفخر ثيابه وتعطر، لأنه سيقف بين يدي الله. ورأى مرة أحد جلسائه في ثياب رثة، فدس في يده ألف درهم وهمس: أصلح بها حالك "فقال الرجل" لست احتاج إليها وأنا موسر وإنما هو الزهد في الدنيا. فقال : أما بلغك الحديث: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؟
وكان شديد التواضع، كثير الصمت، يقتصد في الكلام، ولا يقول إذا سئل، وإذا أغلظ إليه أحد أثناء الجدال صبر عليه. وإذا دخلت إليه امرأة تستفتيه قام من الحلقة وأسدل دونها سترا، ليحفظها من عيون الرجال، وأجابها عما تسأل ..
نبع هذا التقدير الكبير للمرأة من حبه العميق لأمه، وحرصه الدائب على أن يرضيها، ثم من فهمه الواعي للإسلام، واتباعه اليقظ للسنة، واجتهاداته الذكية ..
وقد قاده اجتهاده إلي الإفتاء بأن الإسلام يبيح للمرأة حق تولي كل الوظائف العامة بلا استثناء .. حتى القضاء!
كان مخالفوه في الرأي يغرون به السفهاء والمتعصبين والمتهوسين ويدفعونهم إلي اتهامه بالكفر، وإلي التهجم عليه، فيقابلهم بالابتسام.
ولقد ظل أحد هؤلاء السفهاء يشتمه، فلم يتوقف الإمام ليرد عليه، وعندما فرغ من درسه وقام، ظل السفيه يطارده بالسباب، والإمام لا يلتفت إليه، حتى إذا بلغ داره توقف عند باب الدار قائلا للسفيه: "هذه داري فأتم كلامك حتى لا يبقى عندك شيء أو يفوتك سباب فأنا أريد أن أدخل داري"..
كان لا يقف عند النصوص، وإنما يبحث في دلالاتها، ويحاول أن يواجه بالأحكام ما يقع من أحداث، وما يتوقع حدوثه من الأقضية والحالات. الواقع والمتوقع هما ما كان يعني باستنباط الأحكام لمواجهتها إن لم يجد نصا في الكتاب أو السنة أو الإجماع. وكان يناصر الفقهاء ببديهة حاضرة يقلب الرأي على وجوهه، ويفترض، ويستقرئ ويستنبط، ويحسن الخلوص إلي الغاية، والخلاص من المأزق، ويلزم المناظر الحجة. وهو مع ذلك يقول: "ربما كان ما قلته خطأ كله، لا الصواب كله".
ولقد اقتحم عليه الحلقة في يوم عدد من الخوارج على رأسهم قائدهم وفقيههم، وكان الخوارج يقتلون خالفيهم. وكانوا يقتلون من أقر علي بن أبي طالب على التحكيم. كان الامام يؤيد عليا ويقره على التحكيم. وخيره شيخ الخوارج بين التوبة أو القتل، فسأله الامام أن يناظروه، فرضى، فقال له "فإن اختلفنا؟ قال الخارجي نحكم بيننا رجلا .. فضحك الامام قائلا: أنت بهذا تجيز التحكيم." فانصرف عنه الخوارج وتركوه سالما.
وكم مرة خرج من المأزق بسرعة بديهته وسعة حيلته وقوة حجته..! ولكنه لم يستطع أن يفلت من مصائد أعدائه من المرتزقة في بلاط الأمراء .. كانت صلابته، واحترام الحكام له، وإيثارهم إياه على الفقهاء المرتزقة من بطانتهم، تثير هؤلاء الفقهاء وتحرك حسدهم .. فأوغروا صدور الحكام حتى أوقعوا به. وحاولوا أن يقتنصوه بفضائله.
إنه لشجاع في الحق .. وإذن فلينصبوا له شركا من جسارته وتقواه .. إن مواقفه في تأييد آل البيت لتؤجج غضب الحكام عليه. ثم كانت آراؤه تزيد سخطهم عليه اشتعالا: فقد نادى بالرأي إن لم يكن هناك نص في الكتاب أو السنة، واتجه في استنباط الأحكام إلي إلحاق الأمور غير المنصوص على أحكامها بما نص على حكمه في حدود ما يحقق مصلحة الأمة ويتسق مع عرف البلد وعاداته، إن لم تخالف هذه العادات والأعراف روح الشريعة أو نصوصها
أما عن مواقفه في تأييد آل البيت فقد أعلن أن العلويين أولى بالحكم من العباسيين، وجاهز بالانحياز إلي العلويين. ولم يكتم هذا الميل قط، وظل يذيعه بلا تهيب.!
وقف الامام من الحديث موقف أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق .. تحرى الرواة وصدقهم، وتحرى معاني الأحاديث، ورفض منها ما يشك في صدق رواتها وتقواهم، أو ما يخالف نصا قرآنيا، أو سنة مشهورة، أو مقصدا واضحا من مقاصد الشريعة. وقد فحص الأحاديث الموجودة في عصره وكانت عشرات الآلاف فلم يصح في نظره منها إلا نحو سبعة عشر.
وذهب إلي أن القياس الصحيح يحقق مقاصد الشارع، ويجعل الأحكام أصوب وهو خير من الاعتماد على أحاديث غير صحيحة .. وللقياس ضوابط هي تحقيق المصلحة وهذا هو هدف الشريعة.
وكان عليه إذن أن يجد طريقا آخر لاستنباط الأحكام الجديدة قياسا على أحكام ثابتة في القرآن الكريم أو السنة الصحيحة أو أقوال الصحابة السابقين من أهل الفتيا كعمر ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود .. وكان عبد الله بن مسعود يفضل أن يفتي باجتهاده بدلا من أن يسند إلي الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا لا يرى عين اليقين أنه حديث صحيح.
وقد جد في عصره كثير من الحوادث والأقضية والأحوال، بعد اتساع الدولة وتشابك الأمور، وظهور ألوان كثيرة من النشاط التجاري والاجتماعي، وواجه الإمام هذا كله بالاجتهاد لاستنباط الأحكام التي تضبط العلاقات
وكان منهجه في استنباط الأحكام في وصية لأحد تلاميذه ممن تولوا القضاء .. قال: "إذا أشكل عليك شيء فارحل إلي الكتاب والسنة والإجماع، فإن وجدت ذلك ظاهرا فاعمل به، وإن لم تجده ظاهرا فرده إلي النظائر واستشهد عليه بالأصول، ثم اعمل بما كان إلي الأصول اقرب وبها أشبه".
وقاده هذا الاجتهاد إلي عديد من الآراء الحرة: الدعوة إلي المساواة بين الرجل والمرأة، في عصر بدأت المرأة فيه تتحول إلي حريم للمتاع! فأفتى بأن للبالغة أن تزوج نفسها .. وهي حرة في اختيار زوجها.
كما أفتى بعدم جواز الحجر على أحد، لأن في الحجر إهداراً للآدمية وسحقا للإرادة ..
وأفتى بعدم جواز الحجر على أموال المدين، حتى لو استغرقت الديون كل ثروته. لأن في هذا مصادرة لحريته ..
وفي كل أمر من أمور الحياة تتعرض فيه حرية الإنسان لأي قيد، أفتى الإمام باحترام الحرية وكفالتها، لأن في ضياع حرية الإنسان أذى لا يعدله أذى ..
لقد أفتى بكل ما ييسر الدين والحياة على الإنسان فذهب إلي أن الشك لا يلغي اليقين، وضرب لذلك مثلا بأن من توضأ ثم شك في أن حدثا نقض وضوءه، ظل على وضوئه، فشكه لا يضيع يقينه.
وأفتى بأنه لا يحق لأحد أن يمنع المالك من التصرف في ملكه.
ولا يحق لأحد أن يحكم على مسلم بالكفر ما ظل على إيمانه بالله ورسوله حتى لو ارتكب المعاصي.
ومن كفر مسلما فهو إثم.
وأفتى بأن قراءة الإمام في الصلاة تغني عن قراءة المصلين خلفه، فتصح صلاتهم دون قراءتهم اكتفاء بقراءة الإمام وحده.
ولقد أثار هذا الرأي بعض الناس، فذهبوا إلي الإمام ليحاوروه في رأيه فقال لهم "لا يمكنني مناظرة الجميع فولوا أعلمكم" فاختاروا واحدا منهم ليتكم عنهم. وسألهم إن كانوا يوافقون على أنه إذا ناظر من اختاروه يكون قد ناظرهم جميعا، فوافقوا، فقال لهم : "وهكذا نحن اخترنا الإمام فقراءته قراءتنا وهو ينوب عنا" فانصرفوا مقتنعين.
ودعا إلي ضرورة العفو عن المخطئ إن لم تثبت عليه أدلة الإدانة ثبوتا قطعيا لا يشوبه الشك أو الظن، اعتمادا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بدرء الحدود قدر المستطاع .. فالحدود تدرأ بالشبهات "فإن كان للمذنب مخرج أخلى سبيله.
وأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
وهو يطالب الناس بأن يسألوا في العلم بلا حرج، على أن يحسنوا السؤال.
وكان يقول: "حسن السؤال نصف العلم".
وهو في اجتهاده يعرف مكانته، إذ كان واثقا بنفسه، معتزا بكبريائه العلمي على الرغم من تواضعه الشديد.
ولقد سئل: "إذا قلت قولا وظهر خبر لرسول الله يخالف قولك؟" قال: "أترك قولي بخبر رسول الله وكل ما صح عن رسول فهو على العين والرأس.
فقال السائل: فإذا كان قول الصحابي يخالف قولك؟" قال: "أترك قولي بقول الصحابي فقال السائل "فإذا قول التابعي يخالف قولك؟ قال الامام: "إذا كان التابعي رجلا فأنا رجل".
ويروي عنه أنه ذهب إلي المدينة المنورة فجادل الإمام مالك بن أنس يوما في أمور اختلفا عليها وحضر المناظرة الإمام الليث بن سعد إمام مصر وهو الإمام الذي عاش في عصر الإمام جعفر الصادق وأبي حنيفة والإمام مالك وقال عنه أحد الفقهاء المتأخرين إنه حقا أفقه الناس ولكن المصريين أضعوه فلم يحفظوا فقه واستمرت المناظرة طويلا حتى عرق الإمام مالك. وعندما خرج الامام قال مالك لصديقه الليث: إنه لفقيه يا مصري!
قام فقه الإمام الجليل على احترام حرية الإرادة ذلك أن أفدح ضرر يصيب الإنسان هو تقييد حريته أو مصادرتها ..
وكل أحكامه وآرائه قائمة على أن هذه الحرية يجب صيانتها شرعا، وأن سوء استخدام الحرية أخف ضررا من تقييدها! فإساءة الفتاة البالغة في اختيار زوجها أخف ضررا من قهرها على زواج بمن لا تريده.
وسوء استخدام السفيه لماله، يمكن علاجه بإبطال التصرفات الضارة به، أما الحجر على حريته فهو إهدار لإنسانيته، وهو ضرر لا يصلحه شيء!! وعلى أية حال فأذى الحجر أخطر من أذى ضياع المال ـ فالحجر إيذاء للنفس، وإهدار للإرادة، واعتداء على إنسانية الإنسان!!
والامام الفاضل لا يجيز الوقف إلا للمساجد .. لأن الوقف أو الحبس يقيد حرية المالك في التصرف ..
بل إن الإمام إمعانا منه في الدفاع عن الحرية لا يجيز للقاضي أن يقيد حرية المالك، حتى إذا أساء التصرف على نحو يهدد الغير .. وهو يطالب أن يترك هذا كله للشعور بالتعاون الاجتماعي الذي يجب أن يسود أفراد الأمة ..
فيحترم كل منهم حرية الآخرين، ويمارس حريته بما لا يمس مصالح الغير أو حريته هذا أمر يجب أن يترك للناس فيما بينهم ولا سبيل للحاكم أو القضاء إلي التدخل لتقييد حرية المرء في التصرف مهما يكن من شيء!
وكانت هذه الآراء كلها تناقض روح العصر الذي عاش فيه وهو عصر يقوم نظام الحكم فيه على تكفير الخصوم، وإهدار دمائهم، وتقييد الحريات، وإطلاق يد الحاكم، وتمكين ذوي السطوة من الضعفاء. من أجل ذلك اتهمه خصومه من الفقهاء أصحاب المناصب بالخروج عن الإسلام..!
ورفض الامام الجليل أن يقبل المناصب .. عرض عليه الأمويون منصب القاضي، فرفضه فسجنوه وعذبوه في السجن ..
وظلوا يضربونه كل يوم بالسياط حتى ورم رأسه .. ومع ذلك فلم يقبل المنصب .. لأنه كان يرى أن تحمل المسئولية في عهد يعتبر هو حاكميه ظالمين مغتصبين، إنما هو مشاركة في الظلم وإقرار للاغتصاب ..
وفي السجن تذكر أمه الحزينة فبكى .. وسأله جاره السجن عما يبكيه وهو الفقيه الجليل الصلب، فقال من خلال دموعه: "والله ما أوجعتني السياط، بل تذكرت أمي فآلمتني دموعها".
وساءت صحته في السجن. وبدأت الثورة تتجمع ضد الخليفة الأموي احتجاجا على ما يحدث له فأطلق سراحه.
ولم يعد له مقام في الكوفة التي شهدت عذابه .. فترك مسقط رأسه، وأقام بالحجاز حتى سقطت الدولة الأموية، فعاد إلي موطنه.
ولكن العباسيين لم يتركوه .. فمنذ شعر بخيبة الأمل فيهم لبغيهم واضطهادهم للعلويين، واصطناعهم المرتزقة من الفقهاء، بدأ يجهر برأيه في استبدادهم وطغيانهم.
ورفض كل هداياهم، كما رفض هدايا الأمويين من قبل. وعرضوا عليه منصب قاضي القضاة فأبى ..
وتمسك بالتفرغ للعلم. قالوا له أنه قد حصل من العلم ما يجعله في غنى عنه فرد: "من ظن أنه يستغني عن العلم فليبك على نفسه".
اتسعت الفتوحات حتى أصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية، وحتى ارتفعت الراية الإسلامية فوق شرق أوروبا وجنوبها والأندلس، وكل بلاد العالم التي عرفها إنسان ذلك العصر ..
وعلى الرغم من ازدهار الحضارة، فقد شغل رجال الحاشية بالكيد له يظاهرهم بعض الفقهاء أصحاب المناصب وأهل الحظوة عند الخليفة.
واقترحوا على الخليفة أن يبدأ فيمتحن ولاءه، فيرسل إليه هدية .. وكانوا يعرفون سلفا أن الإمام لن يقبل الهدية..! وأرسل له الخليفة مالا كثيرا وجارية .. فرد الهدية شاكرا .. ثم أرسل الخليفة إليه يلح عليه في ولاية القضاة أو في أن يكون مفتيا للدولة يرجع إليه القضاء فيما يصعب عليهم القضاء فيه .. بما أنه يكثر من لوم القضاة على أحكامهم، ويكشف للعامة جهل شيخهم ابن أبي ليلى وتابعه شبرمة! ورفض الامام
.. فاستدعاه الخليفة يسأله عن سبب رفضه فقال له: "والله أنا بمأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو الحكم عليك لاخترت أن أغرق. ثم إن تلك "حاشية يحتاجون إلي من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك".
وكانت الحاشية كلها تحيط بالخليفة، وعلى رأسها وزيره الأول والفقيهان ابن أبي ليلى وابن شبرمة، فأبدوا التذمر وبان عليهم استنكار ما يقوله الإمام فقال الخليفة محنقا: "كذبت".
فقال أبو حنيفة في هدوء قد حكمت على نفسك. كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كاذب؟!
وبعد قليل سأله الخليفة عن سبب رفض هداياه .. فقال له أنها من بيت مال المسلمين ولا حق في بيت المال إلا للمقاتلين أو الفقراء أو العاملين في الدولة بأجر وهو ليس واحدا من هؤلاء! فأمر الخليفة بحبسه. وبضربه بالسياط حتى يقبل منصب قاضي قضاة بغداد.
وهاهو ذا شيخ في السبعين أثقلته المعارك والدسائس والهموم، ومكابدة الفقه والعلم والتحرج .. هاهو ذا يضرب، ويظل يضرب بالسياط في قبو سجن مظلم، ورسل الخليفة يعرضون عليه هدايا الخليفة، ومنصب القضاء والإفتاء .. وهو يرفض .. فيعاد إلي السجن ليعذب من جديد .. ويكررون العرض، وهو يكرر الرفض داعياً الله: "اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك".
وظل في سجنه يعرضون عليه الجاه والمنصب والمال فيأبى .. ويعذب من جديد! وتدهورت صحته، وأشرف على الهلاك. وخشي معذبوه أن يخرج فيروي للناس ما قاسى في السجن، فيثور الناس!. وقرروا أن يتخلصوا منه فدسوا له السم. وأخرجوه وهو يعاني سكرات الموت، وما عاد يستطيع أن يروي لأحد شيئا بعد!! وحين شعر بأنها النهاية أوصى بأن يدفن في أرض طيبة لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله.
وهكذا مات فارس الرأي الذي عرف في السنوات الأخيرة من حياته باسم الإمام الأعظم.
وشيعه خمسون ألفا من أهل العراق واضطر الخليفة أن يصلي على الإمام الذي استقر إلي الأبد في ركن هادئ من الدنيا لم يشبه غصب، والخليفة يهمهم: "من يعذرني من (...)حيا وميتا؟".
رحم الله الامام الجليل
هو احد الائمة الاربعة
فهل عرفتوه
من هو؟؟؟؟
فى انتظاركم
تحياااتى
*
*
[/align][/cell][/table1][/align]
المفضلات