[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:85%;background-color:black;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
*
*
الطــابور
من جمهورية فرحات
تتشابه الأسواق في الأرياف ولا تكاد تختلف ، فكل منها فضاء واسع يحده سور وله باب وعلى أرضه دكاكين بضاعة ذات رفوف فارغة قد لوحت أخشابها حرارة الشمس وليالي الشتاء ، ثم مصاطب مبعثرة مصنوعة من تبن يؤلف بينه طين . ويوم السوق هو بلا شك أروع الأيام وأشهرها وهو الزحمة التي تحدث كل حين مرة معلنة وكأنها ساعة بشرية هائلة انقضاء سبعة أيام ، وفراغ جيوب وامتلاء جيوب ، وقبض أجور واختلاس أجور ، و شبع ناس و جوع ناس ، و تقيس العمر ..
وبعد أن ينفض السوق يبقى الفضاء لا يؤمه إلا الغربان وأسراب الخرفان والماعز الطوافة وفرق الرياضة من التلاميذ والمباريات وكرة القدم ..
وتتشابه الأسواق في الأرياف إلا سوق السبت في تلك الناحية فقد كان يتميز بظاهرة غريبة ، فيسوره كله كان مصنوعا من حدائد لها أطراف مدببة ماعدا جزءا صغيرا لا يتجاوز المترين قد بني من الدبش والأسمنت وأحكم بناؤه .
ومن قديم والناس يختلفون في امر ذلك الحائط الصغير ..
كانوا يقولون أول الأمر إن تحت الحائط كنزا يفتح عن ديك يؤذن ذات فجر ويكون للموعود . ولكن ما لبث هذا القول إن بهت واصبح التسليم به كالإيمان بطلوع ليلة القدر . حكاية تذكر من قبيل التمني
ثم قالوا إن الحائط اقيم فوق فوهة بئر كانت تتسرب منها الجن من باطن الأرض إلى ظاهرها . فأقيم الحائط ووضع فيه مصحف وبخارى وأحجبة وقطع زجاج مكسور ليمنع تسرب الجان ولكن هذا القول كسابقه لم يعمر طويلا .
ثم شب جيل كان أقل خيالا من سابقيه راى في الحائط الصغير تجربة كان القصد منها بناء السور كله بالدبش والاسمنت وفشلت التجربة .
ولا يكف الناس أبدا عن ايجاد التعليل .
ومع هذا بقي السر الحقيقي لا يكاد يصدقه أحد ..
فالسوق أول الأمر لم تكن سوقا وإنما كانت قطعة ارض بور لا ينبت فيها زرع . رأى أهل القرى المجاورة أنها أقرب مكان يفدون إليه مثقلين بالغلة والبلح والجبن ويعودون وقد خفت احمالهم بالدمور والمرايا والسكاكين الخارجة لتوها من تحت يد الحداد . وكانت تلك الأرض جزءا من الأملاك الواسعة التي آلات لأحد أعيام الجهة التذي ينحدر من سلالة من الترك أو المماليك والله وحده أعلم .
ورأى المالك في قدوم الناس ومواشيهم إلى أرضه البور كسبا له وطريقة لإخصاب الأرض حتى يزرعها بعد حين . ولهذا سمح لهم بالقدوم بل كان يشجعهم على القدوم حين يمر عليهم وسط الزحمة راكبا فرسه موزعا ابتساماته الراضيات ..
ولما راى أن الارض قد استوت للزرع بما خلفته المواشي من بقايا ، أراد حرثها وحرثها ، ومع هذا قدم إليها الناس مثقلين وغادروها خفيفين ، وبططوا الحرث وأقاموا السوق ..
وطرد الناس وحرثها مرة أخرى .
وفي الأسبوع التالي أقيم السوق أيضا وبطط الحرث .
واشار عليه ناظره العجوز أن يستغل الأرض بطريقة أخرى فيترك الناس يجيئون ويذهبون على أن يأخذ ضريبة على المتسوقين ، وأخذ المالك بنصحه ، وفي الأسبوع التانلي انطلق محصلوه يترصدون القادمين ويجمعون الإتاوة ، ولكي يزيد الإيراد ويقلل المصاريف اقام حول الفضاء سورا من الخشب جعل له بابا على الطريق الزراعي وجعل على الباب محصلا واحــــدا .
وهكذا وجدت سوق السبت وما لبثت أن عمرت وازدهرت واضيفت إلى بلادها بلاد واضيفت إليها سويقات للحمير والجمال واكتملت اصنافها حتى من البوظة والعرقسوس .
وكنت تعرف أن السبت يومها حين تجد الناس في الصباح الباكر يزحفون صوب السوق من كل اتجاه وتجد الطري قالمؤدية إليه قد قد حفلت بلابسي العمائم والجلاليب والذين بلا عمائم أو جلابيب وراكبي الحمير وساحبي الأبقار . وحاملي المقاطف وطالقي الجواميس والمتوكلين على الله .
وبم يكن على أهل القرى الغربية أكثر من أن يعبوا الطريق الزراعي ويدخلوا الباب ليصبحوا في السوق أما أهل القرى الشرقية فالمسألة بالنسبة لهم كانت أصعب فالمشايات التي تنحدر من قراهم كانت تلتقي عند الساقية القديمة في مشاية واحدة ضيقةتنتهي عند نقطة في السور الشرقي للسوق تقابل الباب في الجهة الغربية وكان عليهم لكي يدخلوا أن يلتفوا حلو السور كله وهذا تعب ومشقة فاختصروا الطريق وكسروا خشبة في السور وأصبح الأمر لا يكلفهم إلا المروق من بين الخشبتين ليصبحوا في قلب السوق .
وبمضي الوقت أصبحت المشاية الضيقة طريقا معترفا به من السوق وإليه . واصبحت الفجوة التي في السور بابا كاحسن ما يكون الباب .
وكان لصاحب الأرض سراية تطلع على السوق كلها مشربيات وشرفات وسلاملكيات واشياء من هذا القبيل والظاهر أنه كان واقفا في شرفته ذات يوم فراى طابورا لم يكن يعرف كيف يبدأ لكنه رآه ينتهي في السوق من خلال السور فجن جنونه وركب راسه . وركب كذلك حصانه وانطلق يرى الأمر وهناك راى الفتحة فشلضم وبرطم وامر بإصلاح الخشبة المكسورة في الحال .
ويوم السوق التالي وقف في الشرفة يشمت في الطابور الذي لا ريب سينكسر عند السور ولكن آلاف العفاريت ركبته حين رأى الطابور يواصل سيره المعتاد .
ولما أسرع يعاين وجد الخشبة الجديدة مكسورة ويقولون إنه جلد النجار الذي أصلحها وجلده مرة أخرى ليصلحها . يل وقف على راسه حتى أتمها وامتحن متانتها بنفسه وفي السبت التالي رجع فإذا الخشبة مكسورة .
واحمر وجه الرجل من الحنق حتى كاد يدمى وقطع شجرتين من أشجار السنط وكومها حتى سدت الفرجة ..
وما مر أسبوع حتى كانت الشجرتان كل في أقصا ناحية والطابور لا يزال لا بداية له لكنه ينتهي في السوق من خلال تلك الفجوة .
وكاد شريان من شرايين الرجل ينفجر وهذه المرة كلفه استعمال عقله ليلة كاملة وفي الصباح أحضر فرقة من الصعايدة بكريكاتهم وفؤوسهم وما انتهى الأسبوع حتى كانوا قد حفروا ترعة حول السور كالخندق واطلق فيها الماء .
ولم يتعب نفسه ويقف يوم السوق في الشرفة ولا بعده من أسواق فقد كانت متاكدا من انقطاع الرجل .
والذي حدث أن شجرتي السنط جيء بهما ووضعتا في الخندق وبقي ظاهرا منهما ما يكفي ليخطوا الإنسان عليه في أول سوق بعد الترعة ثم قلقلت قطع من الطين الجاف – نفس الطين الذي نتج عن حفر الترعة – وأسقط فوق جذعي الشجرتين ثم ما لبث الطين أن ردم الترعة واتصلت المشاية بالفجوة .
ويبدو أن الرجل كان يركب فرسه يتنزه ذات يوم فوجد المشابة واصلة إلى السور وظل يسب ويرطن أياما وظل كذلك اياما يكظم غيظه واصبحت المسألة مسألة كرامة وعند وتحد من الفلاحين العبط فاتقى من بين خفرائه ثلاثة طوالا عراضا وقال لهم : خراب بيوتكم إن مر احــد .
ويوم السوق تلكا الطابور لاول مرة وما لبث أن توقف فقد نشبت عند السور خناقة كبيرة وفي الضحى حُمل الطوال العراض إلى السراي ودمهم يسيل .
واستعداد الطابور بقية اليوم سيره وسرعته وطاب الخفرتء وعادوا يحرسون الثغرة ونشبت معارك أقل حدة وتلكأ الطابور مرار ثم كف عن تلكئه واستأنف سيره تحت وابل من حفن الجميز وخيارتين أو طور بلح أو نفس دخان أو حتى عواف عليكو يا رجالة .
وذات مرة راى صاحب الأرض خفراءه جالسين يستظلون بشجرة الجميز وتأتيهم المنح من الذاهب إلى السوق والعائد منه فطرد الخفراء واحضر بنائين واحجارا وبنى ذلك الحائط العالي الذي أغلق الفجوة تماما وأغلق كذلك في نفسه كل فجوة يمكن أن يتسرب منها الشك في احتمال فشل الحائط .
ولم يكد سبت واحد يمضي حتى اكتشف الرجل مخبولا أم الخشبة التي بجوار السور تماما قد كسرت وان فجوة جديدة صنــعت .
وأقسم يومها أن يبيع السوق ..
ولم يتح له ان يبر بقسمه إذ استولت عليه شركة الأسواق بناء على مرسوم وامتياز طويل الأجل .
ومع أن الشركة قد أقامت بدل السور الخشب سورا من الحديد كلما بلي جددته ومع أنها لم تركب راسها كالصاحب القديم فتستأجر فتوات أو تقيم حائطا بل استعانت بالمركز فجعل لها كل سبت كوكبة من الخيالة تجوب السور رائحة غادية .
مع هذا إلا انك اذا وقفت في الصباح الباكر من أي سبت فسوف تجد المشاية تحفل بالطابور الذي لا تعرف كيف يبدأ ولكنك تراه ينتهي في السوق من خلال السور .
ودائــما هناك خشبة مكسورة
!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
*
*
[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
المفضلات